السّياساتُ الاقتصاديّة لحكومةِ دمشق.. هل تُنهي حقبة “الأسد”؟

السّياساتُ الاقتصاديّة لحكومةِ دمشق.. هل تُنهي حقبة “الأسد”؟

انهارت قيمة الليرة السورية بشكلٍ دراماتيكي خلال السنة الأخيرة، حيث انخفضت قيمتها أربعة أضعاف ونصف عما كانت عليه قبل عام، و56 ضعفاً عنها في 2011؛ من المفترض أن يكون الاقتصاد السوري بحكم المنهار منذ سنوات الثورة الأولى،  خاصة مع تراجع إنتاج النفط السوري من 406 ألف برميل يومياً في 2008 (كان يصدر نصفها)، إلى 24 ألف برميل يومياً في 2018، وحيث 90 بالمئة من النفط ونصف الغاز الطبيعي يقع خارج سيطرته، إضافةً إلى تواجد حقول القمح في الشرق السوري، بينما دمّر هو بنفسه المناطق الزراعية، وهجّر أهلها، عدا عن هروب رؤوس الأموال والمصانع والحِرَف إلى خارج الحدود.

هناك عدة عوامل ساهمت في قدرة النظام على إظهار تماسك اقتصادي حتى اللحظة، بعد أن تقلّص الناتج المحلي الإجمالي إلى ثلث ما كان عليه في 2011، وهو قائم على تحصيل الرسوم والضرائب وبيع المشتقات النفطية بشكلٍ أساسي. حالياً، يحتاج النظام إلى مئة ألف برميل يومياً، توفر الحقول التي ما زال يسيطر عليها خمس هذه الكمية، فيما يستورد الباقي.

بدأ عمل الخطوط الائتمانية الإيرانية في 2013، لكن تزايد دورها بعد 2015،  فإيران تمدُّ النظام بما يعادل نصف احتياجاته من المشتقات النفطية، وبأسعارٍ تقلُّ عن السعر العالمي، بسبب الحصار الاقتصادي المفروض عليها، وزيادة الإنتاج مقابل قلة الطلب.

ويحصل النظام على باقي احتياجاته من النفط عبر تهريبه من مناطق الإدارة الذاتية بوساطة عائلة القاطرجي، وما يأتي من الأراضي العراقية بحماية المليشيات التابعة لإيران، وما يأتي عبر لبنان بطرقٍ غير شرعية.

حجم الديون المفروضة على النظام لإيران كبير، لكن لا يبدو أنه يقوم بدفعها،  بالمقابل يسمح لإيران بالتوغّل عسكرياً واجتماعياً في مناطق تعتبرها استراتيجية، كالبوكمال في دير الزور، وحلب والجنوب السوري ودمشق، في حين أن حجم الاستثمارات الممنوحة لإيران في سوريا صغير مقارنةً بما حصل عليه الروس من عقودٍ طويلة الأمد لاستثمار الموانئ والمطارات والطاقة، هذه العقود تبقى على الورق، دون السماح بإعادة الإعمار، بسبب قلة الموارد المالية.

يدخل إلى خزينة النظام، جُزءٌ لا بأس به من القطع الأجنبي، يأتي من تحويلات المغتربين إلى أهلهم في الداخل، ومن رسوم تجديد جوازات السفر للمغتربين، والتي بلغت حسب تصريح وزير داخلية النظام 21.5 مليون دولار خلال العام الحالي، وفرض على القادمين إلى الداخل تصريف مئة دولار أو ما يعادلها بالقطع الأجنبي، عدا عن إصدار قانون دفع البدل الخارجي مؤخّراً لتحصيل ما أمكن.

أما في الداخل، فهو يعتمد سياسة تقشّف وتقنين مشدّدة تجاه مواطنيه، فرواتب موظفيه شحيحة، وهناك نقصٌ في المحروقات والطحين، والتي يقوم برفع الدعم عنها تدريجياً، وفرض رسوم إضافية على كل المعاملات، حيث يلزم من يرغب بمغادرة الحدود دفع ثمن فحص اختبار كورونا، ووصل به العوز مؤخراً لإلزام المواطنين بتسديد فواتير الكهرباء والهاتف شهرياً، بعد أن كانت كل شهرين.

كما أن الحاجة الاقتصادية للنظام، دفعت به إلى الضغط على كبار رجالات الاقتصاد لتحصيل الضرائب، وأبرزهم ابن خاله رامي مخلوف ومحمد حمشو وغيرهم.

المساعدات الأممية إلى سوريا كانت تُسلَّم عبر النظام، وتمرُّ بحلقات من الفساد، عدا عن استمرار عمل المنظمات غير الحكومية التابعة لزوجة الرئيس أسماء الأسد، وما تحصل عليه من أموال خارجية.

لم يتّبع النظام استراتيجية اقتصادية تنموية لمواجهة أزمة اقتصادية طويلة الأمد، فهو لم يدعم الزراعة لتوفير الاكتفاء الذاتي، رغم أنه استعاد السيطرة على مناطق زراعية كثيرة، في الغوطة وأرياف حمص ودرعا وحماه، لكن هدفه الأول ضرب الحاضنة الشعبية التي ثارت عليه، وليس مصالحتها ودعمها لإحياء الزراعة المحلية.

وبالتأكيد هو لم يدعم الصناعة، فيما القطاع العام الصناعي العام ينتظر إعلان موته بسبب تراكم الفساد في بنيته، ولا مردود للقطاع السياحي، سوى ما يحصل عليه من السياحة الدينية. وظل قطاع التجارة هو الذي يعمل، وتحديداً قطاع الواردات وبشكل اعتباطي يخدم سياسة استهلاكية ربحية، وليس ضمن سياسةٍ تدعم الاقتصاد.

سياسات النظام الاقتصادية منذ 2005، كانت قائمة على الاستثمار في القطاعات الربحية والاستهلاكية ورفع الدعم عن قطاعات الإنتاج. هذا النهج  أخذ أشكالاً أكثر شراهة خلال سنوات الصراع العسكري، عبر إصدار قانون “التشاركية الوطنية” الذي يسمح للقطاع الخاص بإدارة الأصول الحكومية، عدا قطاع استخراج النفط؛ فظهرت فئة جديدة من مافيات الحرب، بعضُها خدم السلطة في الالتفاف على العقوبات، وبعضها واجهة لرجالات السلطة نفسها، أو لحلفائها الإيرانيين والروس.

وخلال حكم الأسد الأب، كان الفساد قد أكل جسد القطاع العام، مع غياب الرقابة الشعبية، وحضور رقابة الأمن والحزب على المواطنين، فيما جاءت سلة مراسيم ابنه بشار بعد 2005، لتقرّ بالانفتاح الاقتصادي، دون إعطاء أهمية لعملية الإنتاج، ما سبب عجزاً اضطرت الحكومة لسده عبر رفع الدعم عن الزراعة والصناعة، وضرب العمل الحرفي، ورفع أسعار المازوت الزراعي، وتقنين مازوت التدفئة المدعوم عبر قسائم، ورفع أسعار الأسمدة الزراعية وزيادة الضرائب.

لم يصل السوريون إلى درجة الجوع مطلع 2011، كما هم اليوم، لكن السياسة الاقتصادية القائمة على تحرير الاقتصاد، كانت في صلب أسباب الثورة، التي غلب عليها الطابع الريفي والعنصر الشبابي، والمناطق المفقرة هي التي صمدت في وجه القمع الوحشي للنظام منذ الأشهر الأولى للثورة.

وفوق أن الحل الأمني العسكري للنظام هو من دمّر البلاد، وأفقدها الكثير من الخبرات والأيدي العاملة، إلا أن سياسات النظام الاقتصادية تهدف إلى بقائه في السلطة أولاً، عبر بيع ممتلكات البلد والمواطنين للروس والإيرانيين، وثانياً الاستمرار في مراكمة رؤوس الأموال للفئة الحاكمة، والعناصر الجديدة المرتبطة بها، وثالثاً منع حصول احتجاجات شعبية جديدة.

ما يهدد سياسات النظام تلك، وصول تحمّل الشعب في الداخل إلى أقصاه، والانفجار الاجتماعي في وجهه؛ وإلى حينها هو يراهن على دعم طهران عبر ربط مصيره بالوجود الإيراني في سوريا، وعلى استمرار الدعم الروسي لبقائه في السلطة لضمان تحصيل الاستثمارات الضخمة الموقّعة بين الطرفين، وعلى معارضةٍ مكرّسة هزيلة، لا هم لها سوى الوصول إلى السلطة، حتى ولو بمشاركة مع النظام.


 

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.