يبدو أن استمرار وصول التعزيزات العسكرية التركية إلى الشمال الغربي من سوريا، يدلُّ على قُربِ بَدءِ مرحلةٍ جديدة في تلك المنطقة التي تريدها أنقرة ذات نفوذٍ خالص لها، وهي التي تُدرك في مثل هذا الوقت صعوبة تنفيذ ذلك في ظلِّ تواجد قوى مصنّفة دولياً على قوائم الإرهاب.

لا تنحصرُ دوافع أنقرة في تعزيزاتها العسكرية المُرسلة إلى إدلب- بالتحديد في منطقة جبل الزاوية- على استخدامها كورقةِ ضغطٍ على روسيا التي ترغب في الوصول إلى تلك المنطقة من أجل حماية طريق حلب- اللاذقية الدولي (M4)، وضمان تفعيل الخطوط التجارية على الطرق الدولية وتوسيع حدود سيطرتها الفاعلة وتوسيع نطاق الأمن حول قاعدتها العسكرية الاستراتيجية في اللاذقية (حميميم).

بل تُظهر تلك التعزيزات، رغبة أنقرة في وجودٍ طويل الأمد في سوريا، ضمن خطةٍ يتم العمل عليها بخطوات مدروسة تُبيّنها الإمدادات العسكرية المستمرة، كذلك خطوة الانسحابات من نقاط المراقبة المحاصرة جنوب إدلب وشرقها؛ تشي بأن تلك الخطوات لا تندرج ضمن إطار مغادرة الأراضي السورية؛ وإنما تقوم على تخفيف الأعباء وتلافي تشتيت الجهود وتركيزها على رسم خريطة نفوذ تُقوّي من دورها في الملف السوري وحلوله.

منذ مطلع العام الجاري وتصاعد العمليات العسكرية لكل من دمشق وموسكو صوب مناطق الشمال الغربي، لم تكن تركيا راغبةً بالتصادم مع أيّ من الطرفين مهما ارتفعت كلفة خسائرها البشرية وحتى الميدانية، طالما أنها في النهاية يمكن أن تصل مع الروس إلى عقد اتفاقات مشتركة.

لذا، فإن تسويق “الدعاية” القائلة بتأهّبٍ تركي يختبئ وراء التعزيزات العسكرية لقتال قوات حكومة دمشق أو حتى مهاجمتها في المناطق التي وصلوا إليها وثبتوا تواجدها فيها بعد اتفاق موسكو (5 آذار 2020)، هو أمرٌ لا يمكن أن يدخل ضمن الحسابات الحقيقية لدى أنقرة فيما يتعلق بتوازنات الميدان، بخاصة و أن الأخيرة لديها أولوياتها الواضحة في الملف السوري والمتمثّلة بفرض نفوذٍ واسع في الشمال السوري عبر السيطرة عليها من خلال كانتونات/أقاليم منفصلة ومتصلة بشبكةِ حُكمٍ إدارية أمنية تتبع لها، دون الرغبة بتصعيدٍ عسكري بعد تثبيت قواعد التفاهمات مع الجانب الروسي، وذلك إلى جانب علاقة استراتيجية مع موسكو إلى جانب مقارعة النفوذ الكردي في شمال شرقي سوريا؛ بحجة أمنها القومي التي تتذرع بضرورة حمايتها على اعتبار وجود امتداد لحزب العمال الكردستاني وفق اعتقادها.

واتصالاً بما سبق، فإن تركيا ترى أن إرساء الاستقرار فيما تبقّى من منطقة إدلب لخفض التصعيد، لا يمكن أن يتم دون ضرب طوق عسكري يحيط بها، يمنع عنها أي تصعيدٍ عسكري ويواجه في الوقت ذاته القوى الجهادية (المصنّفة منها على قوائم الإرهاب لدى أنقرة والأمم المتحدة) على رأسها هيئة تحرير الشام التي تستطيع تركيا أن تضبطها من خلال إعادة هيكلة شاملة للتنظيم الذي وضعته أنقرة على قوائم الإرهاب لديها منذ آب 2018، وصهر القوى الإرهابية في المنطقة بالتوازي مع إقصاء أو تصفية  العناصر والقيادات المتشددة في “تحرير الشام”، والتي يمكن أن تتسبّب بعرقلة مشروع الإدارة الذي تطمح له تركيا في إدلب خلال الفترة المقبلة.

قد لا يبدو هناك أيَّ تقارب معلن حالياً في المسار بإدلب بين أنقرة و”تحرير الشام”، غير أن استمرار وصول التعزيزات التركية بمقابل عمل الهيئة على تفكيك عدة تنظيمات متشددة مثل “حراس الدين”، قد تصل بأنقرة إلى نقطة التلاقي مع الهيئة التي تُمثّل تنظيم “القاعدة” في سوريا، معلنةً مع هذا الفصيل الذي تراه مناسباً لها بين كافة الفصائل الجهادية في الشمال الغربي  ضرورة التعاون في مجال ضبط الأمور خلال مرحلة لاحقة متقدّمة نلاحظ خلالها إزالة “تحرير الشام” من قائمة التنظيمات الإرهابية، مقابل أن تصبح ممثلاً يعتمد عليها في منطقة إدلب لخفض التصعيد.

إذاً فإن التعزيزات العسكرية التركية تحمل بين طياتها رسائل عدة، تقوم من خلالها أنقرة على الموازنة بين الساحتين العسكرية والسياسية في الملف السوري. فهي لن ترضى أن تكون خارج إطار العملية السياسية في سوريا، وكذلك لا يمكن لها أن تقبل الخروج من الملف السوري دون مكاسب حقيقية وكبيرة، لذا فإنها تستعمل كافة الأوراق التي تمتلكها لتحصيل تلك المكاسب والدفاع عن مصالحها والاعتماد على استراتيجيتها في سوريا من أجل وجودها ودورها في المنطقة؛ بحيث تعمل على الصعيد السياسي بالتوازي مع التلميح بقوتها العسكرية المتواجدة على الأرض.


 

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.