«أذكر تماماً قبل عشر سنوات من الآن، محاولات شاب في الجامعة التحدث إلي، بعد شهر كامل استطاع أن يبادلني كلمات الصباح، الآن أجلس في بيتي أتصفح الأخبار عبر الإنترنت، فجأة يخترق خلوتي أحدهم “مساء الخير ماذا تفعلين؟”، الحياة الافتراضية تجعل كل شيء مباحاً أن يسألكِ أحد لا تعرفينه ماذا تفعلين، تساوي في الواقع دعوة إلى المنزل لقضاء وقت معاً».

بعد سنوات على انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، أصبح كل شيء مقبولاً ومتوقعاً، لا حدود واضحة لهذا الواقع الافتراضي، يتداخل هنا العام بالخاص، و يبدو غياب العامل الزمني الخاص بالفرد مُحرِّضاً للتواصل دون شروط، يفقد الإنسان عند دخوله عالم الإنترنت ميزاته الخاصة، وغيابُ المعرفة بحالته النفسية والمزاجية يعرضه لانتهاكات لا تحدث في العالم الواقعي، وفي سوريا كرَّست الحرب والعوائق المترافقة معها الكثير من السلوكيات، التحرش الإلكتروني أحدها، فكيف تتعامل النساء مع ذلك في ظل غياب قانون يحدد المباح والممنوع؟

تقول “سمر”(اسم مستعار) لـ(الحل نت):«في البداية كنت أردُّ على الرسائل التي تردني بلطف، لم أتوقع أن تتطور الأمور لما هو أكثر، الآن تردني رسائل يومياً من أشخاص لا أعرفهم، البعض يحاول التعارف فقط، والبعض الآخر يتمادى ويرسل لي إيحاءات جنسية وصور، مرة بعد مرة يصبح الأمر مزعجاً أكثر، فكيف يمكننا التعامل مع هؤلاء؟، التجاهل هو الحل الوحيد خاصة مع عدم معرفتي بهم».

يختلف التحرش عبر الإنترنت عن مثيله في الواقع، اللغة هنا هي سلاح المتحرش، وكلّما كان أكثر مهارة في استخدامها، زادت إمكانية حصوله على مبتغاه دون إدانة له قد تحملها كلماته، أصبح بعض الشبّان يطوِّرون مهارتهم في التواصل اللغوي مع الفتيات للوصول للحد الذي يجعل لغتهم تشكل صورة لهم بالشكل الذي يرغبون، عن جاذبيتهم وإمكانية تقبُّلهم أو رفضهم، اللغة هنا هي اختصار للأثر النفسي والجسدي الذي تولده أفعالهم في الواقع، يعتمد المتحرش فعل وسحر الكلمات في عملية الإقناع، فالوسيلة الإغوائية الخطابية لها بعدٌ جسدي، غياب الجسد فيزيائياً لا ينفي وجود الرغبة، فالكلمات هي البث المباشر للجسد ورغبته.

كيف أصبحنا كائنات افتراضية؟

شكَّل ترافُق ظهور وسائل التواصل الاجتماعي مع الحرب انغماساً أكبر بها، فصعوبة التنقل والخوف المرافق للحرب من الحركة والتواصل، أودى بالغالبية للجلوس أمام شاشاتهم كمتفرجين بداية على ما يحدث، متابعين للأخبار والانفعالات من حولهم عبر الإنترنت، خلق هذا مساحة زمنية أطول، نتَجَ عنها بالضرورة ضجر وفراغ نفسي وجسدي، ملأ التواصل عبر الإنترنت هذه المساحة، وتعددت أشكاله، في حين وجدت الغالبية في هذا العالم متنفساً لها إن كان من خلال التسلية والمتعة أو من خلال التواصل مع الآخر ضمن ظروف مقيِّدة للفعل الحقيقي، الآن لم يعد هناك حدٌ فاصلٌ بين ما هو واقعي وافتراضي، تحول الأمر برمَّته لحالة من الإدمان والعيش لساعات في عالم يبقى الافتراض هو ما يحكمه.

الجسد المتخيل وأسباب التحرش

إحدى أسباب التحرش عبر وسائل التواصل الاجتماعي، هي تحوُّل الجسد إلى كيان متخيَّل، والمتخيَّل لدى البشر غالباً ما يكون مثالياً ترسمه في مخيلتنا رغباتنا الخاصة واللذة الحسية الناتجة عنه، والصورة هنا هي محرك خيالنا، في العالم الافتراضي الوجه هو المنطقة التعبيرية التي يرسم على أساسها كامل الجسد، ومع تطور هذا العالم أصبح هناك تنميط للتعبير عن الذات، فصورك دليل على من تكون، لا تمتلك الفتاة حتى في العالم الافتراضي حرية أن تنشر ما يعبر عنها دون أن تتعرض للتحرش واستخدام الألفاظ الجنسية، صورة لكامل الجسد إمكانية للمتحرشين لإرسال ما يريدون من كلمات مع غياب الفارق بين ما هو جنسي أو جمالي، فالموضوعة بالنهاية جسد أنثى.

تصف “لبنى”(اسم مستعار) تجربتها لـ(الحل نت) قائلةً: «أصبحنا- نحن الفتيات- مقيدات حتى في عالم ليس حقيقياً، لا أستطيع أن أنشر صورة أحببتها خوفاً مما سيتبعها من كلام وانتهاك لخصوصيتي، هناك أحكام اجتماعية مضحكة امتدت إلى هذا العالم، لا أحد يلقي باللوم على المتحرش، بل نحن من نواجه بالاتهام بأننا نستفز رغباتهم، الرجال دائماً يجدون المبرر لأفعالهم، ونحن علينا فقط أن نفعل ما يجعلهم راضين عنا».

يتميَّز التحرش الإلكتروني بسِمات متعددة، حيث أن إمكانيته أكبر، قد تتعرض الفتاة لخمس مواقف تحرش واقعية، في ذات الوقت الذي تصبح المحاولات مضاعفة إلكترونياً، إحدى السمات التي قد تجعل من التحرش الإلكتروني مصدر قلق تحوله إلى ابتزاز في لحظة ما، فعدم الأمان الإلكتروني الذي قد يمكِّن أيَّ أحد من اختراق الحساب الإلكتروني، والحصول على ما يريد من معلومات يستخدمها في ابتزاز الفتاة وإجبارها على فعل ما يريد، وهذه حوادث تحصل يومياً لا رقابة أو محاكمات لمرتكبي مثل هذه الأفعال، ونتيجتها خسارة الفتاة وتعرضها للخوف والقلق في غياب دعم مجتمعيٍّ وعائلي لمثل هذه المواقف.

تُضيف “لبنى”: «كان يجمعني الحب بأحدهم واعتقدت أنني أعرفه معرفة جيدة، بعد مُضيِّ ستة أشهر على علاقتنا فاجأني باختراقه لحسابي الشخصي، حيث قام بنسخ جميع رسائلي الخاصة، وبدأ بابتزازي وتهديدي، الخوف الذي سببه لي ناتج عن عدم معرفتي بالذي يريده مني، كان يهددني طوال الوقت دون أن أفهم لماذا، كلفني ذلك شهوراً من الخوف، لأقرر بعدها الخروج من هذا العالم وأعيش حياتي بعيداً عن ألفاظ المتحرشين وتهديداتهم».

شَهِدَ هذا العام زيادة كبيرة في عمليات التحرش الإلكتروني، ورُصِدت أشكالٌ من العنف اللفظي الجنسي لكثير من النساء، بسبب تحوّل الحياة الواقعية بشكل شبه كامل إلى افتراضية، نتيجة الإغلاق العام والحجر الصحيّ الذي سببه انتشار فايروس كورونا “كوفيد-19″، فضلاً عن انعدام التواصل الجسدي والنفسي بين البشر والذي حوَّل الأمر إلى تواصل افتراضي، بالإضافة للوضع النفسي الضاغط الذي سبَّبه المرض، تضطر الفتيات مع غياب الرقابة إلى التعرُّض لتحرش يومي دون وجود حلول وخيارات تساعدها على تفادي ذلك، المشكلة أن التمييز الحاصل على أساس النوع الاجتماعي، يتغلغل في جميع أشكال الحياة الحديثة والقديمة، وبالرغم من الحداثة وما أنتجَته من تطور تكنولوجي وعلمي، إلا أن ذلك لم يساعد المرأة في حصولها على حريتها وحقها في عدم التعرض للإهانات والتحرش، يَضَعُ هذا كله النساء أمام خيار واحد وهو الحرمان من حقهم في ممارسة حياتهم بشكل طبيعي سواء كانت واقعيةً أو افتراضية.

تتابع “سمر”: «في عصر سيادة البصريّ أصبحنا أدوات أكثر من ذي قبل، كلما ما دخلتُ الإنترنت يزداد شعوري بأننا كنساء عبارة عن آلات يتحكمون بنا عن بعد، إعلامياً وثقافياً يتم تكريس صورة لنا بأننا موضوع جنسي بحت، يُمارَس علينا يومياً تنميط وضغط نفسي وجسدي لنناسب توقعاتهم ورغباتهم، وعلينا تقبل كل ذلك بصمت».


 

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.