هُزِمَت ثورةُ السوريين، وسرقتها المُعارضة، وعرضتها للبيع أمام الأجندات الدولية، فرَسَتِ البيعةُ على تركيا، والتي بحكم مصالحها الضيّقة ومحدودية حجمها الدولي، قلّصت مناطق المعارضة “المحرّرة” إلى شرائط حدودية.

النظام لم ينتصر، بل باع بدوره مناطق سيطرته للروس والإيرانيين، وهو غارقٌ في عجزه الاقتصادي وصراعاته الداخلية، لتصير سوريا مقسّمةً إلى ثلاث مناطق نفوذ، تحكمها قوى الأمر الواقع المدعومة من الدول المتدخّلة.

يزيد سلوك المعارضة، التي تدّعي تمثيل الثورة، من إحباط السوريين وشعورهم بالعجز؛ فقد أعلن الائتلاف مؤخّراً عن إنشاء مفوضية للانتخابات للمشاركة في انتخابات النظام منتصف العام المقبل وإعطائه الشرعية، وتستمر مشاركة وفد المعارضة بمسار اللجنة الدستورية، في تضييع الوقت الذي يخدم النظام وحلفاءه.

فيما يتم إهمال المسارات السياسية الأخرى التي تتعلّق بالانتقال السياسي والإفراج عن المعتقلين وعودة آمنة للاجئين، هذا عدا عن عدم رضا السوريين عن مشاركة وفد من المعارضة في مسار آستانة وسوتشي، وعن التبعية المطلقة للسياسة التركية المربوطة مع سياسات إيران وروسيا في تحالف آستانة.

أول إشكالات الثورة السورية بالأصل، هو رفض المعارضة التقليدية والناشطين الذين قادوها العمل التنظيمي، نتيجة عقدة تجاهه، وبالتالي حلّت الرغبة في الانتقام واللغة الطائفية محل السياسة الواعية، والتي تحتاج إلى الفكر والنقد.

المشكلة الثانية، هي دعوة المعارضة مبكّراً إلى التدخل الخارجي ومراهنتها الوحيدة عليه لإسقاط النظام، اقتداءً بالتجربة الليببية وقبلها العراقية، وتشكّل المجلس الوطني على هذا الأساس.

وفي الواقع، طَرْحُ المعارضة المكرّسة قديم، واستُغلّت ثورة 2011 لدعمه، وفُتحت منابر الإعلام أمامهم للقول بأن “الشعب السوري يقتل” وفقط! أي إنكار وجود فعل ثوري قابل للتطوير، وذلك لاستجداء تدخّلٍ خارجي يطيح النظام وينصّب المجلس مكانه، الأمر الذي لم يكن وارداً في لعبة التوازنات الدولية، والتي قرأها النظام جيداً وتمادى في عنفه، بحماية فيتو مزدوج روسي- صيني، وبالتالي أُطيحت الثورة وليس النظام.

تالياً، جاءت إشكالية العسكرة بشكلها الموجّه نحو تحرير المدن والبلدات، وليس تمركزات النظام في العاصمة، وهذا التوجيه قامت به المعارضة أيضاً، عبر الدعم الذي حصلت عليه من دولٍ خليجية، وكان موجهاً لتخريب الثورة.

فلم تعد مهمّة السلاح حماية التظاهرات والبلدات، ولم تكن هناك سياسة موجّهة لاستخدام السلاح بشكلٍ مُجدي في حرب الشوارع، وتوجيهه إلى مراكز النظام العسكرية، وهي مهمة صعبة بالتأكيد، في حين أن تحرير المدن والبلدات البعيدة سهّل على النظام مهمة قصفها ومحاصرتها وإفراغها من حاضنتها الشعبية، وتمكين الفصائل الإسلامية من حكمها، وهذا ما عزّز المناطقية وسيطرة الجهادية، وبشكلها العالمي أيضاً.

في تشكيلات المعارضة المكرّسة، يجري تضخيم حجم الإسلاميين ومحاباة مشروعهم بإقامة حُكمٍ إسلامي، والقول بتعابير من قبيل الإسلام المعتدل والمتسامح، وهي في السياسة لا معنى لها؛ الإخوان المسلمون في سوريا يقولون بالديمقراطية، لكنهم يرونها ديمقراطية طوائف، لذلك دعموا المؤتمرات الطائفية للعلويين أو المسيحيين وغيرهم.

التضخيم يأتي من اعتبارهم يمثلون دين الأغلبية، وهم يريدون تطويع الديمقراطية لمصلحة مشروعهم الفئوي، وأقول الفئوي لأنه إذا كان دين الأغلبية هو الإسلام، فهذا لا يعني أن تُفرض على تلك الأغلبية عقيدة وتشريع إسلامي سياسي يلغي التنوّعات ضمن الدين الإسلامي.

هنا فصل الدين عن السياسة أمرٌ ملازم للديمقراطية، أي أنه كان حرياً بالمعارضة الليبرالية أن تفرض على الإخوان المسلمين ديمقراطية علمانية، وأن عليهم التكيف معها.

ومن أخطاء المعارضة، عدم فهم طبيعة النظام السوري واعتباره نظاماً طائفياً علوياً، بدلاً من القول أنه نظامٌ شمولي يطوّع الحالة الطائفية لخدمة بقائه في السلطة.

لم تشارك الأقليات الدينية في الثورة السورية بشكلٍ واسع، وصدّقوا رواية النظام عن طائفية الثورة وعن التكفيريين، فإشكالية حرب النظام مع الإخوان المسلمين في الثمانينات حاضرة في ذاكرتهم، والتي اتخذت منحىً طائفياً من الإخوان والنظام، ورفَضَ الإخوان تقديم مراجعة حولها.

بينما استفاد النظام من تلك الإشكالية في التخويف من الثورة، وأكملت المعارضة هذه المهمة، وهي لا تملك أيَّة خطة أو خطاب يتعلّق بالمصالحة الوطنية، بل العكس، تُحرّض على الشماتة من حال السوريين المزري في الداخل، وخاصة في الساحل السوري.

وأما بقاء المعارضة تدور في كنف تركيا، فهو كفيلٌ بتعميق الشرخ العربي الكردي، لدرجة يصعب رأبها لاحقاً، فالمعارضة بجناحيها العسكري والسياسي تعمل وفق المنوال التركي، وقد أغفلت دور المجلس الوطني الكردي من الائتلاف بسبب تقاربه مع قوات سوريا الديمقراطية مؤخّراً، ولا تزال تعرقل الحوار الذي تسعى إليه واشنطن، رغم مزاعمها بأن الأكراد جزءٌ من الشعب السوري.

اليوم، تتصاعد الدعوات إلى تشكيل كياناتٍ معارضة أكثر التزاماً بمطالب السوريين؛ المشكلة أن تلك الدعوات تفتقد إلى رؤية نقدية وسياسية، وبالتالي لن تتشكّل معارضات جديدة إلا على نفس الأسس السابقة من اعتباطية وشللية، أو خلطات من معارضات تقول بديمقراطية صندوق الاقتراع، والتي انتهت بالائتلاف إلى احتكار تداول رئاسته بين أنس العبدة ونصر الحريري.

الشعب السوري الذي خرج بثورته ضد النظام، رفض الأسلمة والطائفية باكراً، حين ردد “لا سلفية ولا إخوان” و”الشعب السوري واحد”؛ كل الشعب اليوم، حتى من أيدوا النظام، تعلّم من أخطاء الثورة في التسرع إلى السلاح وفي الثقة بالخارج وبالمعارضة وبالإسلاميين، وهو يرزح تحت وطأة ظروف معيشية سيئة في داخل سوريا ومحيطها،  كما أنه يتلمّس عمق مأساة العالم العربي بعد إطلاق عجلة التطبيع مع إسرائيل.

في هذه اللحظة يحضر سؤال يتكرّر كثيراً: ما العمل؟ يحتاج الشعب السوري من نخبه بعد اليوم أن تصيغ له برامج متكاملة وواضحة، تطرح المسألة الوطنية في سوريا وضمن الإطار العربي أيضاً، تتعلّق بطرد الاحتلالات كلها، وإقرار عقد اجتماعي ديمقراطي عَلماني تعددي يساوي بين المواطنين، ويقرّ الحريات العامة وحرية الرأي، وفصل السلطات واستقلال القضاء، والتركيز على المطالب المجتمعية عبر تبنّي الدولة سياسات اقتصادية تعتمد الإنتاج وتوفير فرص العمل، وتفعيل دور مؤسسات المجتمع الرسمية لتأخذ دورها في الرقابة، والاعتراف بالحقوق الثقافية والاجتماعية للقوميات غير العربية.

المُمكن المُلِح اليوم، هو إسقاط المعارضة التقليدية ونزع الصفة التمثيلية عنها، وفتح نقاش حول الوضع السوري والبدء بالنقد، حتى تتبلور معارضة بروح مختلفة، تعتبر الطبقات الشعبية هي قاعدة التغيير، وأن تكون على قدر المسؤولية حين تتجدّد الثورة، لا محالة، ولو بعد حين.


 

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.