أثارت الوقفة الاحتجاجية الأخيرة التي نظمها ونفذها ناشطات ونشطاء من #السويداء جنوبي #سوريا، تحت عنوان “دمك برقبتنا”، ردود أفعال متباينة داخل مجتمع السويداء نفسه، كما لفتت الانتباه خارجه إلى وضع حقوق المرأة في المحافظة التي شهدت خلال السنوات الأخيرة تزايداً ملحوظاً في أحداث العنف بشكل عام، بالتزامن مع انتشار السلاح على أوسع نطاق، بمباركة الدولة والأجهزة الأمنية والمؤسسة الدينية في آن معاً.

جاءت الوقفة على خلفية مقتل تسع نساء في محافظة السويداء خلال الأشهر الأخيرة من هذا العام. منهن من قُتلت على يد أمها وخالها بواسطة “مطرقة”، وقبلها من قُتلت رمياً بالرصاص، حيث أن كلهنّ انتهت حياتهن بجرائم وحشية.

ثقافة العار

لدى معظم الثقافات والشعوب إرث ثقيل من “ثقافة العار” التي شكلت آليات الهندسة البدائية للفرد والمجتمع في معظم الحضارات في مرحلة أو أكثر من مراحل تشكلها وتطورها، و”مجتمع العار” تعريفاً هو المجتمع الذي تؤسس فيه آليات الاختيار لدى الإنسان الفرد، كما لدى الجماعة، على ثقافة “العيب” و”العار”، حيث يتلقى الجميع قوائم “العار” كطريقة لوعي الذات والآخر، عدا عن كونها “طريقة حياة” وآلية لتقرير المصير.

ويتصف مجتمع السويداء بكونه نموذجاً للمجتمع الذي ينطبق عليه التعريف السابق لمجتمع “العار” وثقافته، لكن في الواقع، إن هذه الثقافة نفسها، باتت بديلاً للقانون بعد مرور أكثر من تسع سنوات على الصراع، وهي الآلية البديلة التي لجأ إليها المجتمع في ظل غياب القانون.

أظهرت الوقفة- التي هدفت إلى الضغط في سبيل إلغاء الأعذار المخففة للجرائم التي ترتكب “بدافع الشرف” في القانون السوري- الأزمة الحادة التي تواجهها حقوق المرأة من أبناء المجتمع نفسه، بل وفي أوساط نشطاء المجتمع المدني في السويداء.

توجد أمثلة ذات دلالة على ذلك ظهرت في عدة تعليقات على منشورات التواصل الاجتماعي التي نقلت الدعوة للوقفة. لم يُخفِ العديد من النشطاء من أبناء السويداء استياءهم من «المطالبة بحقوق النساء عوض المطالبة بإسقاط النظام».

الأمر الذي يُظهر أن حقوق المرأة لا تزال تبدو كـ “رفاهية حقوقية” لا وقت لها في العقلية السائدة حتى لدى عدد من “الناشطين” و”المدافعين عن حقوق الإنسان” في السويداء، وكأنها ليست جزء أساسي وأصيل من “حقوق الإنسان” نفسها التي ثار السوريون وطالبوا “بإسقاط النظام” للحصول عليها وتحقيقها منذ عام 2011.

غير أن هذه المسألة قد تكون مرتبطة بأن بعض الناشطين في السويداء لطالما كانوا متأثرين ومدفوعين في الإحساس “بالعار” مما اعتبروه «تخلف السويداء عن المطالبة بإسقاط النظام»، أي أننا هنا أيضاً نواجه “ثقافة العار” مرةً أخرى.

دور الفصائل المحلية والسلطات الدينية

من ناحية ثانية، مع تنامي الدور الذي تلعبه الفصائل المحلية في السويداء وقياداتها في حل النزاعات المحلية في القضايا الاجتماعية والاقتصادية، وفي ظل غياب وتعطيل القانون، لا بد أن نلاحظ أن هذه الفصائل نفسها، ومنذ تأسيسها، اعتمدت بصورة رئيسية على “ثقافة العار” في الأدلجة لنفسها وحشد الاتباع بين أبناء الطائفة الدرزية.

فهي تأسست لحماية “الطائفة” من أن يلحق بها العار كما يُعبر عنها مؤسسوها، والشعار الرئيس الذي ترفعه حركة رجال الكرامة -مثالاً- هو حماية “الأرض والعرض”، والذي لا يخلو من دلالة بليغة في شقه الثاني “العرض” إلى ما يمكن أن تكونه نظرة أصحاب الشعار إلى “جرائم الشرف” باعتبارها فعلاً مقدساً يوازي “الدفاع عن الأرض والوجود” لديهم.

وانطلاقاً من هذا المبدأ قامت مجموعة تتبع لـ “حركة رجال الكرامة” بحماية شاب ينحدر من قرية جنوبي السويداء، أقدم على قتل أخته في حزيران/ يونيو 2019 بحجة “غسل العار”، ورغم صدور تقرير من الطبيب الشرعي ينفي وجود آثار لعلاقة جنسية قامت بها الضحية يوم مقتلها، فقد تم اعتبارها جريمة “شرف” وتم تنفيذ حكم مخفف بحق مرتكب الجريمة، نتيجة دعم وتوسط الفصيل المذكور له باعتباره كان “مدافعاً عن العرض” في جريمته تلك، رغم أن تبرير القاتل لجريمته كان أنه «سمعها تتكلم على هاتفها مع شاب».

الزواج سبب لجرائم الشرف

السلطة الدينية “مشيخة العقل” لا تدلي عادةً بأي تعليق على جرائم قتل النساء بدعوى الشرف في السويداء، وهنا رغم أنه قد لا يُتوقع منها -كسلطة “دينية” في نهاية المطاف- أن تكون أكثر تسامحاً حيال قضايا “العار” و”الشرف”، إلا أن الغياب التام للضوابط الصريحة (حتى ضوابط الجريمة نفسها التي قد توفرها النصوص المرجعية الدينية) يجعل الأمر أكثر سوءاً من ناحية تعدد الأسباب التي يمكن أن تُحتسب “عاراً” ينبغي “غسله” بقتل المرأة.

ومنذ سنوات طويلة، يُنظر إلى حالات الزواج من رجل من طائفة أخرى “عاراً” يستوجب القتل، كما حدث في جريمتي قتل “هدى” 2005 و”جيهان” 2008 اللتين تم استدراجهما من قبل إخوتهما في إحدى قرى السويداء بعد أن تزوجتا من طائفة أخرى، ليقوموا بقتلهما، ويطلق سراح القتلى بعد فترة وجيزة بحكم مُخفّف، كل ذلك بمباركة المجتمع والمؤسسة الدينية.

أين سيُغسل العار

بعد كل هذا، نتساءل، هل تحتاج نساء السويداء إلى مشاريع “تمكين المرأة” الشكلية التي تقوم بها مؤسسات العمل المدني التابعة لـ«الحكومة السوريّة» في السويداء، والتي تُختزل إلى “فيديو يصور دعماً يُقدم لامرأة ريفية لتتمكن من إعالة نفسها”؟ هل حقاً تحتاج النساء اللواتي يردن الحياة للباقيات والآتيات إلى الاعتصام أمام “قصر العدل” فحسب؟ أم أن الحاجة الأولى هي إلى الاعتصام أمام مقر “مشيخة عقل طائفة الموحدين الدروز” في مقام “عين الزمان”؟


 

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.