لا يمكن الحديث عن جسد المرأة دون ربطه بالصورة الجمالية التي يمثلها، فمنذ زمن بعيد تم التحكم بحرّية هذا الجسد وحركته، وعملت الثقافات والأحكام المجتمعية على تغيير المفهوم الطبيعي للجسد الأنثوي لصالح الجمالي، وبهذا أصبح الجسد ليس معطاءً ثابتاً، وإنما متحولاً وخاضعاً للتبدّلات وفقاً للرغبة الاجتماعية والذاتية ليشكل حضوراً وقبولاً في الفضاء الاجتماعي.

مع تطور العلم والطب التشريحي، أصبح من الممكن العمل بشكل مباشر على تغيير الجسد فيزيائياً، وتحويله للصورة الجمالية التي تفرضها الثقافة القائمة، ولكن متى تكون هذه العمليات ضرورة ومتى تتحول إلى هوس يسبب خللاً وإقصاءً للطبيعي، وتفوقاً للصناعي والتجميلي.

عمليات التجميل كضرورة

في بعض الأحيان، هناك ضرورة للعمليات، حيث تكون طبيعية ومقبولة في حال كان هناك عيب خلقي، أو تشوه نتيجة حرق أو جرح غير مقصود أو العمليات التجميلية البسيطة، في هذه الحالة تُبرَّر هذه العمليات على اعتبار أن هذه التشوُّهات تسبب رؤيةً ذاتيّةً مشوَّهةً وتترك أثراً نفسياً لدى المصابة بها، والذي يسبب لها شعوراً بالنقص أو عدم الملائمة مع الحالة الطبيعية للجسد السليم، وبالرغم من أن هذه العمليات تشكل ضرورةً إلا أنها الأقل وجوداً في العيادات التجميلية، في الوقت الذي تتفوَّق فيه عمليات التجميل التي تهدف إلى مُقاربة الشكل والصورة المثالية للمرأة الجميلة حسب ما تصدره الثقافة المجتمعية ووسائل الإعلام.

الهوس التجميلي

فرضت التطورات الجديدة إمكانية تقريب الجسد الواقعي لصورة الجسد المثال المتخيل والمشتهى لدى الجميع، والذي ترسخ نتيجة عمل طويل على تكريس الجمال كسمة أساسية تسبق النفسي والعملي في حياة المرأة.

عند تصفُّح أي موقع من مواقع التواصل الاجتماعي، يمكنك ملاحظة التقارب في الصفات الشكلية للكثير من الفتيات، ينفي ذلك خصوصيّة كل واحدة منهنّ ويجعلُهنَّ أشبه بنسخ لكائن لا روح له، و في بعض الأحيان قد تلتقط هذا التقارب أيضاً في الشارع والأماكن العامة، والغريب بالأمر هو الحكم الذاتي الذي أصبح لدينا جميعاً عند رؤية فتاة والإقرار إن كانت جميلة أم لا، معتمدين على نفس المعيار الذي كرَّسته عمليات التجميل كشكل مثالي للفتاة اليوم.

تحول الأمر لدى بعض النساء إلى نوع من الهوس، عمليات متكررة وتغيير كبير في الشكل الحقيقي، حيث بدأت مؤخراً الفتيات في عمر صغير بإجراء هذه العمليات وتغيير ملامحهن، والذي لعب دوراً في ذلك انتشار وسائل التواصل الاجتماعي والاستحواذ الذي شكلتْه على عقول الفتيات بتسويقها للمرأة الجميلة وفق نمط مدروس ومحدد الملامح، يشكل هذا انسلاخاً للجسد عن ماديته وطبيعته الفيزيائية ليصبح جسداً تابعاً للفعل الثقافي، ويضعنا أمام سؤال مباشر: لماذا على الأنثى أن تكون صورةً لما يريده المجتمع والثقافة ولا تكون صورةَ ذاتها وما تريده هي، وأين هو الحد الفاصل بين ذاتها وما تريده هي وبين المجتمع وما يريده؟

تُلخِّصُ عمليات التجميل التمييز الذي تعرَّضت له المرأة عبر التاريخ من قِبَل الرجال والمجتمعات والثقافات، في نهاية الأمر المرأة “إنسان” يملك جميع المقوِّمات الجسدية والنفسية ليشكِّل وجودُه كياناً مستقلاً مؤثراً دون حاجة لتجميله أو رفضه ضمن المقاييس الطبيعية، هناك عمل خطابي دؤوب على تكريس المرأة كموضوعة جمالية، تختلف نظرة النساء تجاه ذلك بحسب الوعي الخاص بكل واحدة، إلا أن الغالبية يرغبن بأن يكنَّ جميلات، قد يشكل الأمر هاجساً إن كانت المرأة تبتعد بصفاتها الشكلية عن صورة المرأة المثال، يُولِّد ذلك لديها شعوراً بأنها أقلُّ قيمةً، و أن قيمتها تكمن في مقاربتها لتلك الصورة، معظم الفتيات في هذه الأيام مؤمنات بأن قوُّتهن تكمن في جمالهن، فتيات يقضين أكثر من نصف وقتهنَّ في التزيُّن للوصول إلى الحالة الجمالية المرضية، لن يبقى لديهنَّ متسعٌ من الوقت لأي فعل آخر في الحياة.

الهوية المفقودة

يَعتبر علم النفس أن صورة الجسد هي التي تشكل القاعدة البيولوجية للوعي بالذات وبالتالي الهوية، فلا يمكن الفصل بين الأنا الجسدية و الأنا النفسية، فهما مترابطتان بشدة، وعمل كلٍّ منهما ينعكس على الأخرى، في حالة المرأة التي تُخضع جسدها لعمليات تجميلٍ متكررةٍ يَحدث خللٌ في وحدة الجسد العضوية والنفسية، وبالتالي خلل في هويتها الذاتية ومن تكون، فابتعادها عن حقيقتها الأولى والطبيعية يفقدها جزءاً من ذاتها، فهي بذلك تُقصي جزءاً من مساحتها الداخلية والنفسية لتلائمَ تطلُّعات من حولها، وتكونَ انعكاساً لهم، وهي بممارستها لهذا العنف على جسدها بإخضاعه لعمليات التجميل تفضح نوعاً آخر من العنف وهي غير مدركة لذلك، عنف استغلالها الجسدي لصالح متعة الرجل وعنف الحرمان من أن يتم قبولها على طبيعتها دون أن تضطر لإجراء أي تغيير لتصبح محبوبة وموضع إعجاب.

نساء عاجزات عن التعبير عن أنفسهن

تلجأ النساء للعمليات التجميلية عند فقدانهنَّ القدرة على التعبير عن ذواتهنَّ أو الإحساس بقيمتهنَّ الذاتية، نساءٌ ينكرن عقولهنَّ ويعتمدن الصورة كمؤثرٍ يتفوَّق على الكلام والفعل، ينطوي ذلك على خللٍ في التربية والثقافة التي تَلقينَها والتي شكلت نظرتهنَّ عن أنفسهن، ازدياد العمليات مؤشرٌ واضحٌ على أن المرأة تزداد خضوعاً للمقاييس العامة وما تمليه عليها السلطات المختلفة المتحكمة في المجتمع، فكما تم تكريس مصطلح “ربة المنزل” في السابق كنموذج للمرأة المثالية، يتم اليوم تكريس المرأة الجميلة كنموذج آخر يجعل النساء حبيسات دور آخر وهو أن يكنَّ جميلات، يبدو هذا واضحاً وبكثرة في الدراما السوريّة، حيث تختلف ملامح الكثير من الفنانات بين موسم وآخر، و يُرافق ذلك نكرانٌ للزمن وأثره على الجسد البشري والتغير الحتمي في الشكل نتيجته.

لا يمكننا لوم المرأة بالكامل في حال توجُّهها لهذا النوع من العمليات، فبالرغم من الانفتاح وتعلُّم النساء وعملهن في مهنٍ مختلفة، إلا أن الموروث الجمعيَّ موجودٌ ولا يمكننا نكرانه بأن الجمال مرتبطٌ بشكلٍ أو بآخر بجسد المرأة وصورتها، البعض من النساء ترفضن العمل والتعلم لأنه قد يفقدهنَّ شيئاً من بَريق أنوثتهن، وهذا شيء طبيعي أن يفكرن به ضمن المنظومة المتكاملة التي تكرِّس هذه الأفكار لديهن، فهناك مناهج تعليمية وتربية عائلية متكاملة تعمل بالتوازي لإعاقة المرأة عن النموِّ الذاتيِّ والتقدُّم، بسبب نوعٍ من التصوُّر المسبق عن حياتهنَّ وما عليهنَّ القيام به كنساء والذي يتم تلقينهنَّ إياه بكل الوسائل وتدريبهنَّ ليكنَّ ناجحات بتحقيقه، فحياة الفتاة وهويتها تتمركز حول جنسها وكيف ستكون زوجةً ناجحةً ومحبوبة، ففي الوقت الذي ينشغل فيه الشاب بدراسته وعمله والتخطيط لحياته في المستقبل تغرق الفتاة بنحت جسدها لتناسب تصورات الرجال وأحلامهم ورغباتهم، وفيما كانت الفتاة تمتلك من الطموح والمهارات ما يجعلها مساوية للرجل تقابَل بالتشكيك المتواصل بأنوثتها ومهارتها لأنها خرجت عن الدَّور الذي خُصِّص لها في المجتمع.


 

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.