«كل ما أقوم بفعله يُقابَل بالسُّخرية، أكرِّس وقتي لأنجز عملاً فنياً يجعلني أشعر بقيمتي الذاتية وأُرضي شغفي الداخلي، إلا أنني أقابَل بالسُّخرية، والمشكلة أنها تأتي من عائلتي، فبالنسبة لهم لا قيمة لعملي، وما يتوجب علي فعله هو البحث عن الاستقرار وإيجاد زوج لبناء أسرة، لأنني فتاة، وبالنهاية لا يمكنني العيش وحدي دون رجل».

تصف الفنانة التشكيلية “هيا”(اسم مُستعار) الآراء التي تتلقاها نتيجة عملها في الفن، مشيرةً في حديثها لـ(الحل نت)، إلى أن عملها يفقد قيمتَه بالنسبة لها نتيجة هذه النظرة، حيث تشعر في كثير من الأحيان بلا جدواه، فلكلّ فعل في المجتمع حكم قيمة يتبع لكثيرٍ من المرجعيات، أهمها من يقوم بهذا الفعل، تختلف قيمة العمل إن كانت تقوم به امرأة عن قيمته في حال قام به رجل، إذ يُحكم على أفعال المرأة بأنها بلا قيمة، فوجودها مُرتبط بشكلٍ أساسي بزوج وأسرة، وكل ما عدا ذلك من أفعالها هي أشياء ثانوية لا تؤخذ بعين الاعتبار، فيما ينفي هذا الحكم أيّة قدرات لدى المرأة، ويضعها في درجة أقل من أن تكون مساوية للرجل، ولا سيما أن ذلك يقتل لديها أي رغبة  للإبداع والتطور.

تنطبق تجربة “هيا” على تجارب الكثير من الفتيات السوريّات، حيث غالباً ما تُقابَل محاولاتهنَّ بالتعبير عن أنفسهنَّ باستقلالية وتفرد بالرفض والتشكيك بقدراتهنَّ، وبالرغم من أن المرأة في المجتمع السوري أصبحت تعمل في الخارج بعد رفض مطلق لذلك من قَبل، واستطاعت أن تتمتع بحضور جيد في الفضاء العام، إلا أن هذا الحضور تقف بوجهه الكثير من العراقيل ليكون فعالاً، فلا يزال عملها يُحتسَب ثانوياً أمام عمل الرجل ويمكن الاستغناء عنه، وعند سؤالهن يعرِّفن عن أنفسهن بأزواجهنَّ أو أبنائهن، فيما يتجاهلن دراستهنَّ وعملهنَّ في الخارج ويتحدثن عن عملهنَّ كربّات منزل.

تعريف المرأة عن ذاتها بأنها “ربّة منزل” قبل كل شيء، يرجع للكثير من الأسباب، فالنساء في مجتمعنا لا يشعرن بالقيمة الذاتية إن لم يحصلن على أسرة تشكّل الأولوية في حياتهنّ، حيث تأتي كل أعمالهنَّ الأخرى كدعم لهذا المشروع الذي تُبارِك له جميع السلطات الموجودة وتعطيه الأهمية القصوى في إنجازات المرأة.

ما هي الأسباب التي تقف وراء ذلك، كيف فقدت النساء إيمانهنَّ بأنفسهنَّ وقدراتهنَّ، وما يقوله الرجال حول ذلك؟

بعد عشر سنوات قضتها “وعد”(اسم مُستعار) في العيش وحدها والعمل ضمن مؤسسة حكومية بعد تخرجها من كلّية الاقتصاد، أُجبرت من قِبل والدها على ترك عملها والعودة للعيش مع العائلة، تقول لـ(الحل نت) متحدثة عن ذلك: «منذ سنة، وبعد ضغط كبير من قِبل عائلتي، عدّت للعيش معهم تاركةً عملي وحياتي المستقلة، أعاني الآن من حالة اكتئاب وعدم قدرة على التواصل مع أحد، لم يهتم أحد منهم لما وصلت إليه من تقدم في عملي، والعلاقات والميزات التي حصلت عليها منه، كان همهم فقط المبلغ الذي استطعت تجميعه خلال هذه السنوات، فيما نُسفت سنوات دراستي وتحصيلي العلمي وجميع رغباتي إرضاءً للمجتمع والعائلة، أصبحتُ أفكر بأن خلاصي الوحيد هو الزواج، بعد عجزي عن تقبل ما فعلوه بي أريد الهرب بأية وسيلة».

لا تزال الكثير من العائلات السوريّة تعتبر استقلالية الفتاة وحياتها المهنية “مشكلة”، وحتى الاعتراف بفرديتها وقدراتها على تدبر حياتها وحدها شيء لا يمكن حدوثه أو تقبُّله، وهنا لا يبقى للفتاة وسيلة سوى الزواج لتحقق ذاتها، لا تُعامل النساء والفتيات في مجتمعنا ككيان مستقل، لا تؤخذ أمنياتهنَّ ومخططاتهنَّ بعين الاعتبار، فيما يمكن التخلي عن ذلك والسماح لهنَّ بالعمل إن كان يساعد في تحقيق ربح مادي للعائلة، وخاصةً في حال تدني الوضع الاقتصادي لهذه العائلة.

تبقى حياة الفتيات أكثر سهولة من النساء المتزوجات العاملات، فالمرأة تعيش تحت ضغط مضاعف نتيجة اضطرارها للعمل خارج المنزل وداخله، في الوقت الذي لا يعطي زوجها لعملها أي قيمة مما لا يعطيه دافعاً للقيام بجزء من مهام المنزل معها.

“مها”(اسم مُستعار)، امرأة متزوجة تعمل في معمل صناعة المشمش المجفف (قمر الدين) في العاصمة “دمشق”، إذ يتصف هذا العمل بأنه صعب ويحتاج لبنية جسدية قوية بسبب الأثقال التي عليها حملها، فتقول لـ(الحل نت): «ضمن الوضع الاقتصادي القائم، يضطر كل أفراد الأسرة للعمل، المشكلة أنني أعمل خارجاً وعندما أعود أجد أعمالاً أخرى تنتظرني، يتعامل زوجي معي باستهزاء وسخرية، في نهاية الشهر يأخذ راتبي متذمراً من عدم كفايته، وغالباً ما يعنِّفني لأنني لا أقوم بواجبي كزوجة، أعامَل على أنني عبد ولست إنسانة لقدرتها على التحمل حدود».

عمل المرأة في ميزان الرجل

يقول صاحب متجر في “دمشق” لـ(الحل نت): «ليس لدي مشكلة مع عمل المرأة خارج المنزل، إلا أن عملها يجب أن يكون مدروساً وبشروط محددة، فأنا أرى أنه لا يمكن لأي امرأة أن تعمل في عمل يقلل من مكانتها واحترامها كأنثى، “معلمة” أو “ممرضة” مهن مناسبة جداً أما غير ذلك فستتعرض للمشاكل حتماً».

يرى معظم الرجال أن النساء لا يمكنهنَّ العمل خارجاً إلا ضمن مهن تُعتبر استكمالاً لعملهن في المنزل، فما يلقى قبولاً لدى الغالبية هي المهن المقاربة لطبيعة النساء الأنثوية والتي تقارب تجربتهن كزوجات وربّات منزل. مهنٌ تبدو كتفصيلٍ صغيرٍ من ضمن تفاصيل حياتهنّ الأسرية، تجسد عطاءهنَّ كنساء وخضوعهنَّ للقيم العامة، في ذات الوقت الذي تحافظ فيه هؤلاء النساء على حياتهن الأسرية كشيء مقدَّس وتأتي أعمالهنَّ في هذه المهن كتأكيد على تمسكهنّ بالقيم والأخلاقيات التي تحكمهن.

نساء ينافسن الرجال على فرص العمل

بعد الحرب ونتيجة الحاجة الاقتصادية توجهت الكثير من النساء للعمل خارج المنزل، بدا الأمر طبيعياً ضمن الصراعات والأحداث الجارية حتى أنهن بدأن العمل في كثير من الأماكن التي لم تعمل بها السوريّات مسبقاً، يعلق “مهند”(اسم مُستعار) وهو طالب جامعي على ذلك بالقول: «لا أرفض عمل المرأة في الخارج بكل تأكيد، لكنَّ عواقب عملها تنعكس علينا بشكل سلبي نحن الشباب، مؤخراً- بعد الحرب- أصبحنا نرى النساء يعملن في أماكن متعددة والأسوأ من ذلك أنهنّ مرغوبات أكثر منا، وهذا ما يقلل من فرصنا في الحصول على عمل، يمكن للنساء الاستغناء عن العمل في الخارج أما نحن فلا يمكننا ذلك، نحتاج العمل لنحظى ببعض الاستقرار».

تختلف نظرة الرجل لعمل المرأة حسب موقعه، فرجل الأعمال ينظر بصورة تختلف عن رجل الدين أو عن الشاب الذي يبحث عن عمل، مع الحفاظ على مرجعية لا واعية لدى كل منهم ترفض عمل المرأة وتواجدها في الخارج، إلا أن المصلحة المؤقتة التي يرجوها رجل الأعمال من وجود امرأة في مؤسسته تجعله يتجاهل ذلك ويرحِّب بفكرة عملها ويدعمه، في وقتٍ يشتكي الشبان من قلة فرص العمل ومنافسة النساء لهم معتبرين أنفسهم الأحق بها، وهم بذلك يستقون من نفس الفكر الذي يدعم تفوق الرجل على المرأة ويفرز أدواراً خاصةً بكل منهما، فالرجل هو الأكثر حاجة للعمل من وجهة نظرهم إذ أن بإمكان المرأة البقاء في المنزل ومتابعة حياتها بشكل طبيعي، والسبب في ذلك هو المفهوم المجتمعي الذي يدعم تَوجه الشاب في مرحلة ما أن يحقق هويته واستقلاليته الذاتيتين، في حين تُوجَّه نفس الرغبة عند الفتاة بتحقيق هويتها في اتجاهات أخرى، حيث يتم تحفيز خيالهنّ وتوجيه أفكارهنّ بأن رغبتهنّ بالاستقلالية والهوية تتم من خلال الرجل، يؤثر هذا بالتساوي على الفتاة والشاب ويجعل مفهوم كلٍّ منهما عن الآخر مسبقاً وجاهزاً، يعمل كلٍّ منهما ليحقق دوره وفق هذه المنظومة المرسومة والمتكاملة.

عمل المرأة حاجة أم قيمة

مهما كانت جذورهم الاجتماعية والنفسية يشترك جميع الرجال بنظرة شبه واحدة فيما يخص عمل النساء، فهو بالدرجة الأولى عمل مشروط بشروطٍ محددة، وتأتي في مقدمة هذه الشروط الحاجة إليه كمورد اقتصادي داعم، وفي غير هذه الحالة تٌحرم معظم النساء منه وهذا يعد استغلالاً، بالإضافة لإخضاع العمل بشكلٍ مستمر لتقييمات أخلاقية ومجتمعية.

ليس من الممكن أن يرى الرجل ما تقوم به النساء بأنه ذو أثر في الحياة العامة، مما أدى لإلغاء الحاجة للتفكير والإبداع وتحفيز القدرات والعمل عليها لدى النساء، وذلك عبر نظام اجتماعي صارم خضعن له على مرّ السنين، نفيُ قيمة عملهن واعتباره شيء ثانوي لمنفعة اقتصادية جعلهن غير قادرات على تطوير أنفسهن ومعرفة مكامن الإبداع لديهن، وبهذا أصبح نصف المجتمع يمتلك طاقات كامنة مهدورة في أعمال لا تنبع من إرادته الحرة.


 

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.