تنسج “خزنة إبراهيم” السيدة المُسنة من “كوباني”(عين العرب) على نولها اليدوي الصغير قصة حبها لمهنة صناعة وصيانة السجاد والبسط التي تشتهر بها مدينتها منذ زمن بعيد، والتي توارثتها عائلتها من الآباء والأجداد.

تحرص الجدة الطاعنة في السن على تعليم هذه الحرفة التراثية لبناتها وزوجات أبنائها(كناينها)، وحتى بنات الجيران في حيها، ولأنها مهنة صعبة وتحتاج لصبر كبير، يكون أغلب متعلميها من نفس العائلة من الأخوة والأبناء.

لا تخفي تجاعيد وجهها جمال ابتسامتها وهي تشرح لـ(الحل نت) كل خطوة تقوم بها بإتقان لتخرج بسط ملونة ساحرة الأشكال.

تقول الجدة الثمانينية أن «هذه الصناعة مرت بمراحل ازدهار في الماضي، لا سيما وأن الفتاة المُقبلة على الزواج آنذاك، كان يتوجب عليها أن تبرع في صناعة السجاد والبسط التي كانت تُحضّرها إلى بيت زوجها ضمن مايسمى بـ “تجهيزات أو جهاز العروس” كما هو متعارف عليه، حيث كن المُتقنات لهذه المهنة هن الأكثر اختياراً للزواج، لكن تلك العادات تراجعت في الوقت الحالي»، مضيفةً أن «المهنة كغيرها من الحرف القديمة تقاوم الاندثار، إلا أن المحافظين على أصالة هذه الصناعة يخشون عليها من الانقراض، ونحاول نحن الجدات إنعاش هذه الحرفة والمحافظة عليها من خلال تشجيع الفتيات الصغيرات في السن على حماية صناعة السجاد اليدوي ودفعهن إلى تعلمه».

تحفظ الجدة “خزنة” بذاكرتها تشكيلة السجادة وزينتها وتصميمها المُعقد ذو الحركات الكثيرة والأشكال المتنوعة والألوان المتناغمة، وتنفذها قطبة وراء قطبة بمئات آلاف المرات، دون حاجة إلى تصميم أو خريطة تضعها أمامها لتتبع خطوطها وزخارفها.

وتروي الجدة عن تمايز صنف سجاد “كوباني” عن سواه، وتقول: «أهمية هذا السجاد يكمن بأنه مهما تأخر العمل عليه، لا يتأثر ولا تتغير ألوانه إطلاقاً، لأن نوعية الألوان جيدة وهي من صوف الغنم، ورغم أنها تُصبغ بطرق قديمة، إلا أن نتائجها مُبهرة، علاوة على أنه لا يُضاف لها أية مواد كيماوية، فهي طبيعية مئة بالمئة».

النول اليدوي القديم

تجلس “خزنة” على الأرض في مشهدٍ يجسد الزمن القديم والجميل وهي تُحيك سجادة بطول ثلاثة أمتار بعد أن تُثبت خيوطها وتلفها على عدة قضبان خشبيّة تتوزع على مسافات متساوية مغروسة في الأرض وبجانبها كيس ضخم تضم خيطان الصوف الملونة فيه، مُستخدمةً عدة العمل التي تقتصر على النول والسكين (لقص الخيطان) والممشط المعدني (لتمسيدها متى تراكمت القطبات في صفوفها)، وهكذا، بقطعتين يتم إخراج أعمال هامة من لوازم البيوت، فنية الطابع، كبيرة الحجم، غالية الثمن، استقوت عليها الآلة الحديثة التي انتجت السجاد الأرخص ثمناً.

وعن النول، قالت “خزنة”: «لا يستكمل العمل عليه إلا إذا كان كاملاً، وللنول قطع تُكمّل دوره، مثل القسطل وخشبة النيرة التي مهمتها إبعاد الخيطان عن بعضها من الخلف إلى الأمام، أما تركيبة النول الحالية باتت أسهل من السابق، وذلك يعود إلى خبرة النجارة التي عدلت النول واستغنت عن الخشبة الكبيرة التي كانت تضغط القطبات بعد زرعها في السجادة، وحل الممشط محلها».

وتُقارن “حزنة إبراهيم” بين عمل الماضي والعمل الحالي، وتقول: إن «سابقاً، كانت الأدوات التي نستعملها أصعب من الآن، حيث كان استخدام الممشط أكثر تعقيداً لأنه كان من الخشب، وقبضته كانت بدائية الصنع، أما الممشط الحالي، فطوروه وصار من معدن، ويمكن أن يتزحلق بين الخيوط بطريقة أسهل بكثير».

حرفة تقاوم الانقراض

«توقفت الصناعة التي كانت تجري في كل بيت من بيوت البلاد سابقاً، والتي عملت فيها ربات المنازل وبناتهن، ثم توقفن هن أيضاً، وبقيت المُسنّات  مُستمرات بها دون انقطاع على نطاق فردي ضيق، إذ حرصن على وجود نولهن القديم في منزلهن، فظللن تلبين طلبات الزبائن وعشاق الفن اليدوي»، كما يقول “زبير مصطفى” صاحب محل بيع السجاد الصناعي الحديث لـ(الحل نت).

وعن صعوبة الحرفة، يُضيف: «تراجعت حرفة الأجداد اليدوية مع مرور الوقت بسبب صعوبتها، لأن حياكة السجاد تمر بأكثر من مرحلة، كالحصول على الصوف وصباغته، وغزله، ومن ثم البدء بحياكته على النول اليدوي المصنوع من الخشب، لذا العمل هو شاق ومضني ويستغرق فترة زمنية طويلة جداً».

ودعت “زهدية صبري” وهي مهندسة من “كوباني” إلى إحياء حرفة الأجداد والآباء، مشيرةً خلال حديثها لـ(الحل نت)، إلى أن المُسنّات في المنطقة لايزلن يحملن في ذاكرتهن إرث صناعة السجاد اليدوي.

وقالت: «كانت معظم العائلات قديماً تستمد قوتها من هذه الحرفة، لكن تحت تأثير الأحداث وكساد السوق، وبسبب مزاحمة الصناعة الآلية الحديثة الأرخص ثمناً توقفت حرفة السجاد اليدوي، حيث أن الحداثة أنهكت صناعة السجاد اليدوي على النول، فانكفأت الحرفة، وغابت كواحدة من أجمل وأهم الصناعات التي عرفها الإنسان».


 

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.