«لا يمكنني تذكّر حياتي قبل الحرب، أذكر فقط أنها بدأت عندما كنت قد بلغت الخامسة عشر، ثم بعد سنتين توقفت عن الشعور بالزمن وتتالي الأيام، الآن أنا في الخامسة والعشرين من العمر، عشر سنوات كانت كفيلة بأن تجعلني أشعر أنني في الأربعين وأنا في هذا العمر، توفي أبي واختفى أخي وبقيتُ أنا وأمي وأختي فقط، في اللحظة التي علمتُ فيها بموت والدي كبرت عشر سنوات دفعة واحدة، منذ ذلك الحين ونحن ثلاث نساء يحكمهنَّ الانتظار، رنين جرس بيتنا تعذيب أبدي، نتوقع من بعده أن تعود حياتنا كما كانت إلا أن ذلك لا يحدث، تحولت حياتي فجأة من حياة فتاة صغيرة تعيش في عائلة متآلفة وتقضي وقتها في اللعب، إلى حزن على هيئة إنسان. أرى دموع والدتي لا تتوقف في الصباح والمساء، وأحزن على أختي التي تخلت عن جامعتها كي تعمل وتحمل أعباء المنزل».

“هيا حسين”(اسم مستعار)، تحكي قصتها لـ(الحل نت) وكيف اختفت مرحلة كاملة من حياتها مع بدء الحرب والخسارات التي منيت بها، حيث أدت الحرب في سوريا إلى تغير ملحوظ في حياة المراهقات اللواتي انتقلن فجأة من الحياة الآمنة الطبيعية، إلى حالة أخرى تتسم باللا أمان والوعي السابق لأوانه.

تتابع “حسين”: «في البداية لم أكن أفهم تماماً ما الذي يحدث، لم يكن لدي موقف من الحرب، كنت صغيرة، ولم يتشكل لدي الفهم الصحيح للأحداث والسياق التي جرت بها، خسارتي حولتني لفتاة حاقدة، أعلم تماماً الآن أنني لم أعد إنسانة سوية، كل ما أقوم به هو ردود أفعال على ما حدث معي، فجأة أصبحت أحمل هماً كبيراً دون أن يكون لي ذنب فيما يحدث، أعيش قلقاً دائماً من أي خبر قد أسمعه، فحياة أخي على المحك، مضت عشر سنوات من الحرب ولا نعلم أي شيء عنه، إذا أردت أن أحدثك عن نفسي ومراهقتي لن أجد ما أقوله لك، اختفت جميعها مع أول رصاصة، أصبحتْ حياتي من لحظتها لا تخصني وحالتي النفسية متغيرة بتغير الحدث وتابعة للخط البياني للحرب».

تشترك “هيا” مع مئات الفتيات السوريّات اللواتي وجدن أنفسهنَّ فجأة في وضع لا يسمح لهنَّ باللعب وعيش مراهقتهنَّ ضمن الظروف الطبيعية لذلك، طاقة الشباب ومحاولات اكتشاف العالم وفهمه لم تعد تعنيهن، أصبحن فجأة مسؤولات إما عن حياة عائلة أو عن حياتهنَّ على الأقل، عدا عن خسارة الكثير منهنَّ لإمكانية متابعة تحصيلهنَّ العلمي وتحقيق أحلامهن.

«أصبحتُ أستيقظ يومياً فأجد نفسي أبكي دون أن أفهم السبب، كانت الحرب قد بدأت منذ فترة طويلة – سنتان على الأقل، وأنا أدخل عامي السادس عشر مع ثلاث انهيارات عصبية، وبكاء متواصل، كانت كل تخيلاتي عن حياتي كيف ستكون عندما أبلغ هذا العمر قد ذهبت أدراج الرياح منذ اللحظة التي بدأت القذائف تتساقط خلف بيتنا في العباسيين بدمشق، في الفترة الأولى قرر أهلي ترك كل شيء والذهاب لمكان أكثر أماناً، إلا أنني رفضت ذلك بسبب تعلقي بهذا المكان، بعد ذلك، كل يوم يمضي كان يحمل ثقلاً إضافياً بالشعور بالذنب والخوف على أخوتي ووالدي فأنا أجبرتهم على البقاء».

تُشير “دانا عيسى”(اسم مستعار)، إلى أن الحرب قد غيرتها إلى الأبد، تبدو أحياناً عندما تنظر إليها غائبة تماماً عن الواقع، تصمت لوقت طويل ثم تتابع لـ(الحل نت): «كنت يومياً أجلس على الأرض وأبدأ بضرب كل شيء من حولي مع البكاء، كان جميع من في الجوار يعرف أن في منزلنا يوجد فتاة خائفة، كنت أتبع أي أحد في بنائنا عندما أراه  ذاهباً للخارج وأجبره على العودة، أصبحتْ حالتي مرضيَّة يوماً بعد يوم، وفي ذات الوقت توقفت عن الدراسة حتى لا أجبر أحداً من عائلتي على مرافقتي كي لا يصاب بمكروه ما».

تتميز فترة المراهقة بأنها المرحلة التي يسعى الفرد فيها لتشكيل هوية خاصة به، وتعتمد هذه الهوية على استجابات الفرد للمؤثرات الخارجية والداخلية التي يمر بها، ويرتبط النمو النفسي السوي في هذه المرحلة في “الحالة الطبيعية” بقدرة الفرد في السيطرة على الاكتئاب والقلق الناتج عن التحديات التي تواجهه في هذه المرحلة، فترافقت مراهقة عدد كبير من المراهقات السوريّات بالخوف وعدم الأمان الناتج عن الحرب والقتل اليومي، كيف يمكن لهاته الفتيات تجاوز هذه المرحلة والخروج منها بحالة نفسية متوازنة، علماً أنها مرحلة حرجة في حالة السلم. الآن تلك الفتيات أصبحن في أواخر العشرينات خسرن أجمل أيام شبابهن في حرب عبثية نتائجها، وما سيليها غير واضح أو معروف. يعانين جميعهنَّ على الأغلب من اضطراب ما بعد الصدمة، وبعضهن تخلَّين عن جميع رغباتهنّ وأحلامهنّ ليعملن بهدف تأمين حياتهنَّ نتيجة موت عوائلهنَّ أو خسارات مادية لحقت بهن.

في إحدى المحال التجارية القريبة من سكني تعمل فتاة تمتلك ملامح طفولية، تعمل منذ الصباح حتى الثانية بعد الظهر، لتخرج بعدها مسرعة للاعتناء بوالدتها العاجزة عن الحركة بسبب فقدانها لساقيها في الحرب، “عهد محمد”(اسم مستعار) لا تحتاج وقتاً كي تحكي لك قصتها، فهي فتاة صغيرة حياتها ممتلئة بالأحداث التي لا تتناسب مع عمرها وحساسيتها، وتقول لـ(الحل نت): «استيقظنا في إحدى الأيام على صوت تفجيرات في حيّنا، بعد ذلك سقطت إحدى القذائف على بيتنا، وأصيبت أمي بالحادثة وتوفي أخي البالغ من العمر خمس سنوات. كنت في السابعة عشر من عمري وكان أبي قد توفي قبل ذلك بثلاث سنوات، لم أحظى بعد هذا اليوم بأي شيء مما يمكن لفتاة بعمري أن تحظى به. كان علي البحث عن مكان آخر لي ولوالدتي لنعيش فيه، وبدء حياة أخرى أنا المسؤولة فيها عما يمكن أن يحدث لنا أو نعيشه. حِملٌ كبيرٌ ومرهق، أشعر أحياناً بالعجز وانعدام القدرة على فعل شيء، أغمض عيني ليلاً وأنا أحلم بحياة أخرى وعالم آخر، لكنَّ الصباح يوقظني على عالم مخيف. لقد تدمرت حياتنا في هذه الحرب، وخسرنا بساطتنا ورغباتنا جميعاً».

يختلف أثر الحرب على المراهقات السوريّات تبعاً للكثير من العوامل، كالمنطقة التي كنَّ يعشن فيها، والوضع المادي والنفسي الذي يمتلكنه أساساً، بالإضافة إلى دور عوائلهنَّ في حمايتهنَّ من آثار الحرب عليهنَّ كفتيات في عمرٍ حَرج، إلا أن جميعهنَّ تقريباً قد تأثرن بشكل أو بأخر بنتائجها وبما سببته من حالة قلق وخوف وانعدام الأمان، في الوقت الذي هُجِّرت فيه الكثيرات من منازلهن، وسافرت أخريات، وأصبحت كل واحدة منهنَّ تمتلك قصةً ومصيراً مختلفين عما حلمن به وانتظرنه. بقيتْ الكثيرات يعشن دون خسارات مادية واضحة، لكنَّ ذلك لم يحميهنَّ من الخلل النفسي والقفز فوق مرحلة كاملة من حياتهنَّ، ليصبحن فتيات مراهقات يعانين من اضطرابات نفسية مختلفة وانعدام القدرة على الإحساس بالزمن الحقيقي، فضلاً عن غياب تام للرغبة والأحلام بفعل شيء.


 

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.