ازداد التوتر في العلاقات التركية الألمانية بالسنوات الأخيرة، بسبب سعي الرئيس التركي رجب طيب #أردوغان للسيطرة على الجالية التركية في #ألمانيا، والتي يبلغ عددها بين ثلاثة وخمسة ملايين مقيم، نصفهم تقريباً حاصلون على الجنسية الالمانية، فضلاً عن تدخّله في السياسة الداخلية الألمانية، وقيامه بالتجسس على معارضيه، عبر المؤسسات الإسلامية وأئمة المساجد.

وقالت مصادر ألمانية مطلعة أن الرئيس التركي «يجنّد حوالي ثمانية آلاف مخبر، للتجسس على معارضيه في أوروبا، عشرة بالمئة منهم ينشطون في الدول الناطقة بالألمانية (ألمانيا والنمسا وسويسرا)، وتمكّنوا من العمل في المؤسسات الرسمية، بصفة مترجمين وموظفين في دوائر الهجرة، وازداد عدد هؤلاء المخبرين، بعد محاولة الانقلاب الفاشلة في #تركيا عام ٢٠١٦، مع ازدياد أعداد طالبي اللجوء الأتراك في ألمانيا، الذين يعتبرون حالياً في المرتبة الرابعة بين طالبي اللجوء عموماً في البلاد».

ودعا أردوغان أنصاره، عام ٢٠١٧،  إلى «عدم التصويت للأحزاب الرئيسية الثلاثة في ألمانيا»، وهي “الحزب المسيحي الديمقراطي” الحاكم، و”الحزب الديمقراطي الاجتماعي”، و”الحزب الديمقراطي الحر”، الأمر الذي اعتبرته السلطات الألمانية «تدخّلاً غير مقبول في الشؤون الداخلية». ثم جاء قيام تركيا بالتنقيب عن الغاز في شرق المتوسط، وتدخّلها في #ليبيا، واستفزازها أوروبا بورقة اللاجئين، من وقت لآخر، ليجعل التوتر يصل إلى ذروته، بين البلدين العضوين في حلف شمال الأطلسي (الناتو).

تتبع جميع المساجد التركية في ألمانيا، والتي يبلغ عددها ألفين وستمئة مسجد، إضافة إلى حوالي ألفي جمعية إسلامية، إلى  “الاتحاد التركي الإسلامي للشؤون الدينية في ألمانيا” DITIB، المرتبط بعلاقة مباشرة مع #أنقرة، التي ترسل الأئمة وتموّل المساجد.  وذكر “المركز الأوروبي لمكافحة الإرهاب”، في دراسة أجراها مؤخراً، أن «التنظيم الدولي للإخوان المسلمين، المدعوم من #قطر وتركيا، يشكّل أحد أكبر التهديدات الإرهابية على أوروبا». وليس بعيداً عن هذا التحذير قامت #النمسا بإغلاق سبعة مساجد على أراضيها، العام الماضي، وقالت إنها ستطرد ستين إماماً مموّلاً من تركيا. في حين تعمل #فرنسا على الحد من نفوذ الأئمة الأتراك على الجاليات المسلمة في أراضيها، من خلال تخريج أئمة محليين، وفق مناهج فرنسية.

ألمانيا بدورها ليست غافلة عن استشعار الخطر، فقد اعتبر تقرير ألماني رسمي أن «تنظيم الإخوان المسلمين أشد خطراً من تنظيمي #داعش والقاعدة»، ومع ذلك تبدو تحركات السلطات الألمانية متأخّرة وبطيئة، للحد من النفوذ التركي داخل أراضيها، فما الذي يحكم العلاقة بين ألمانيا وتركيا؟ وكيف تتعامل مختلف القوى السياسية الألمانية مع الحساسية الدينية، التي يمكن أن يتلاعب بها أردوغان؟

 

معضلة الشريك الديني

الحكومة الألمانية تُقدّر الحرية الدينية، فهي تريد الحدّ من نفوذ أردوغان وسطوته على المؤسسات الإسلامية، وفي الوقت نفسه تَعتبر هذه المؤسسات شريكةً لها فيما يتّعلق بالشؤون الدينية. «إنها معضلة»، يقول “ماكسيميليان بوب”، الكاتب الصحفي الألماني، المتخصص بالشؤون التركية، ويضيف في حديثه لموقع «الحل نت»: «من الواضح أن الدولة الألمانية بحاجة إلى شريك، عندما يتعلق الأمر بالخدمات الدينية لمواطنيها المسلمين، مثل إمامة المساجد، والتعليم الديني في المدارس، ورعاية المرضى والمسنين والمساجين. وكانت تستعين بمصادر خارجية لأداء هذه المهام، لمدة طويلة. الآن بدأ الوضع يتغيّر، فقد تأسست برامج لتعليم الأئمة والمرشدين الدينيين في الجامعات الألمانية، وهذه خطوة مهمة. باختصار: إذا كانت الدولة الألمانية لا تريد لاعبين أجانب على أراضيها، مثل المخبرين التابعين لأردوغان، فعليها الاستثمار بهذا الموضوع بنفسها».

وتعتزم الحكومة الألمانية افتتاح معهد ديني في مدينة “أوسنبروك”، لتدريب أئمة مسلمين، وكان مشرّعون ألمان قد سعوا، منذ عامين، لمناقشة تشريع قانون لإقرار ضريبة على المسلمين، أسوة بضريبة الكنيسة، التي يدفعها المسيحيون، بهدف تمويل المساجد، وذلك لإيقاف وصول الأموال الخارجية للمؤسسات الإسلامية، وبالتالي فك ارتباط هذه المؤسسات بالخارج، ومحاربة التطرف.

ودعا سياسيون ألمان، خلال “مؤتمر الإسلام”، الذي انعقد في #برلين عام ٢٠١٨، إلى «الاعتراف بالإسلام ديناً رسمياً في ألمانيا»، لكن التعقيدات والخلافات بين الطوائف الاسلامية، وقفت عائقاً أمام هذا الاعتراف، إذ لم يتفق المسلمون أنفسهم على جهة تمثلهم، وتكون شريكاً رسمياً للحكومة الألمانية.

ولدى سؤال “ماكسميليان بوب” عمّا إذا كان التدخّل التركي سيعرقل جهود “مؤتمر الإسلام”، لتنصيب ممثل رسمي للمسلمين، لم يعط الصحفي الألماني إجابة مباشرة، واكتفى بالقول: «ما يمكنني تأكيده هو أن التعايش والتوافق بين الجميع في ألمانيا هو واجب على كل  المواطنين، سواء كانوا مسلمين أو غير مسلمين، وهو مسألة لا يجب أن يكون للسياسيين الأجانب رأيٌ فيها».

اليسار الألماني، الذي يدعم الانفتاح، ويحارب العنصرية، يجد نفسه مُرتبكاً أيضاً أمام عدائه لأردوغان من جهة، ودعمه، المباشر أو غير المباشر، للمؤسسات الإسلامية، باسم مكافحة “الإسلاموفوبيا”. «العنصرية ضد المسلمين، كما أسميها، مشكلة كبيرة في ألمانيا وأوروبا» يقول “بوب”،  «لكن التحدي، الذي يواجه اليسار الألماني، هو معالجة هذه المشكلة، وعدم السماح لأردوغان وغيره باستغلالها، في الوقت ذاته. إذاً من المهم أن نفرّق بين التصدي لسياسة دولة خارجية، وبين السقوط في خطاب عنصري ضد المسلمين».

 

لا خوف على “الأداء الألماني”

وعن سياسة أردوغان في أوروبا عموماً تواصل موقع «الحل نت» مع الإعلامي “عادل قسطل”، كبير المراسلين في قناة “فرانس 24″، الذي قال: «خلافاً للجارة فرنسا احتوت ألمانيا الضجيج حول الموضوع الإسلامي، بفضل أسلوبها الاستباقي في التعامل معه، فتاريخ المسلمين في ألمانيا مختلف عما هو عليه في فرنسا أو #بريطانيا، فهي لم تكن دولة استعمارية، والأتراك لا يعاملون ألمانيا بمنطق المحاسبة على جرائم الاستعمار، أو استغلال الثروات التركية، كما يفعل الجزائريون في فرنسا مثلاً. المنطلق الاقتصادي هو الذي يربط بين ألمانيا وتركيا بالدرجة الأولى. وقد رأينا سابقاً كيف انتقد الرئيس التركي المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، وربطها بأسوأ مراحل التاريخ الألماني، لكنه عاد إليها طالباً المساعدة، عندما تدهورت الليرة التركية. وعلى الرغم من مشكلة المؤسسات الإسلامية في ألمانيا، إلا أن المصالح الاقتصادية تتقدم على الأيديولوجيا الدينية، حتى في حسابات أردوغان نفسه».

ويتابع “قسطل” تحليله بالقول: «الرئيس التركي أردوغان رجل سياسة، فهم أنه شريك لا غنى عنه لدى الأوروبيين، وأثبت أنه يحب المناورة، بل الاستفزاز أحيانا. لكنه لا يستفزّ لمجرد الاستفزاز، فهو يريد اختبار القادة الأوروبيين، ويبدو أحياناً كأنه يلعب بأعصابهم. لكن أكبر خطأ قد يرتكبه هو نسيان الجانب العقلاني في السلوك السياسي الأوروبي، والألماني بوجه خاص. وإذا كان يملك أوراقاً، يستطيع اللعب بها، مثل ورقة الجالية التركية، فإن المسؤولين الألمان يمسكون بالورقة ذاتها ببراعة، فالتعامل الألماني مع المسألة الدينية فيه من الصرامة والمرونة، ما يذكّرنا أحياناً بالأداء الألماني بشكل عام، في السياسة والصناعة وغيرها من المجالات، ولن تترك ألمانيا طرفاً أجنبياً يتلاعب بأمنها القومي».

 

مخبرون باجتهاد شخصي

“عائد عميرة”، الإعلامي المتخصص بالشؤون الإسلامية والمغاربية، يحاول إعطاء وجهة نظر أخرى، وتفنيد التقارير، التي تتحدث عن استغلال السلطات التركية للمساجد في ألمانيا، والتي يصفها بـ«الأخبار العارية عن الصحة»، مؤكداً، في حديثه لموقع «الحل نت»، أن «هذه الاتهامات قديمة، دائماً ما يتم اللجوء إليها للضغط على أئمة المساجد والنظام التركي. إلا أن “هيئة حماية الدستور” (الاستخبارات الداخلية الألمانية) لم تؤكّد هذه الاتهامات، ولم تشر إليها حتى، ومصدرها اليمين المتطرّف في ألمانيا، الذي يسعى لاستهداف المسلمين. وبما أن الجالية التركية، تعتبر أكبر الجاليات المسلمة في البلاد، يعمل اليمينيون جاهدين لتشويه صورتها، بقصد حشر المسلمين في الزاوية، والتقليل من تأثيرهم، وقد زادت الاعتداءات على المسلمين، السنة الماضية، على الرغم من القيود المفروضة على الحياة العامة، بسبب جائحة #كورونا، وسجّلت السلطات ما لا يقل عن 901 حادثة مناهضة للمسلمين، في عموم ألمانيا، بزيادة قدرها 2٪ تقريباً، مقارنةً بعام 2019».

ويستدرك “عميرة” بالقول: «صحيح أن جمعية “ديتيب”، التي تدير المساجد التركية في ألمانيا، تتبع وزارة الشؤون الدينية التركية، إلا أنها تبقى مستقلة، ومهتمة فقط بالشأن الديني، ولا علاقة لها بالسياسة، كما يروّج بعض المنتمين لليمين المتطرف. لكن في حال ثبت تورّط بعض الأئمة، بالتجسس على رواد المساجد، فعلى السلطات الألمانية إعادتهم لتركيا. فقد يتجسس بعض الأئمة بناءً عن اجتهادات شخصية، ولا دخل للحكومة التركية بهذا»، حسب تعبيره.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.

الأكثر قراءة