«تزوجت في الثلاثين من العمر، بعد ستة أشهر حملت بطفلي الأول كنت سعيدة جداً بالمشاعر المرافقة للحمل، وبنفس الوقت شعرت بالخوف من المسؤولية، كما رافقتني خلال أشهر الحمل التسعة الكثير من التغيرات النفسية والجسدية، ثم ولد طفلي وكنت سعيدة جداً ولكن أصابني خوف رهيب من فكرة أني مسؤولة وعليَّ حماية هذا الطفل، و لعدة أشهر بعدها أصبت باكتئاب ما بعد الولادة وفكرت مراراً بالانتحار، كان لدي شعور دائم بأني خسرت نفسي وأصبحت حياتي كلها معلقةً بهذا الكائن الصغير».

تبلغ “نتالي اسماعيل”(اسم مستعار) الآن أربعة وثلاثين عاماً، تعيش مع زوجها وطفلها الذي بلغ من العمر ثلاثة أعوام، عانت “نتالي” في السنة الأولى من ولادتها حالة من الصراع بين مشاعرها الذاتية وأناها التي ترغب بحياة مستقلة وتحرر من الخوف، وبين التزامها بحماية طفلها وخوفها عليه.

الأمومة والحالة النفسية للمرأة

تمتد فترة الأمومة من بداية فترة الحمل وحتى بدء التعامل مع الطفل ككائن منفصل بعد أن يولد، وتعتبر فترة الولادة هي الأصعب حيث ترافق انفصال الطفل عن أمه مشاعر مختلطة، وتسبب هذه المرحلة عند بعض النساء بالترافق مع مشاعر السعادة حالة خوفٍ من فقدان الذات و قلقٍ من مسؤولية الاعتناء بالطفل، وتعتبر مرحلة الإرضاع هي المرحلة الأكثر حساسية في حياة الطفل والأم وقد تتسبب التأثيرات النفسية للولادة بعدم قدرة الأم على الإرضاع.

تتابع “نتالي” لـ (الحل نت): «بالرغم من أنني أعتبر نفسي فتاة محظوظة فقد عشت فترة جيدة من حياتي بحرية نوعاً ما، عملت وسافرت وخضت الكثير من التجارب، إلا أنني بالرغم من ذلك أصبت بمشاعر الخوف على ذاتي ونهاية استقلاليتي، الفرق الأكثر حضوراً بين فترة ما قبل الأمومة وما بعدها هو على الصعيد النفسي، والذي ينعكس على الجسد والعلاقة مع الزوج وكل شيء آخر، وبالطبع للزوج دور في فقدان المرأة شعورها بذاتها وأنوثتها حسب تعامله مع الحالة».

علاقة المراة بزوجها وتأثير الأمومة على ذلك

تؤثر الولادة ودخول المرأة في مرحلة الأمومة بشكل أساسي على علاقة المرأة بزوجها، أولى التأثيرات تبدأ بالحالة العاطفية للمرأة، حيث يذهب كامل اهتمامها وعاطفتها للطفل المولود، بعض الرجال يستطيعون تقبل هذا التغيير وفهمه والبعض الآخر لا يتقبلونه مما يؤثر على علاقة الزوجين ببعضهما البعض.

«يختلف مفهوم الحب بالنسبة للمرأة بعد أن تصبح أماً، فعندما أقول لابني إنني أحبه فأنا متأكدة من هذه المشاعر أنها ستستمر ولا يمكن لهذا الحب أن ينقص أو يتغير إنه حب كامل، بينما لا يمكنني أن أشعر بذات المشاعر تجاه زوجي فقد تمر أيام أشعر بأنني لا أستطيع تحمّله أو حتى الإقرار بإعجابي به، لا يمكنني القول إن مشاعر الأمومة تشعرني بالاكتفاء لكنني متأكدة من أنه ما من عاطفة تفوقها، عانيت في بداية ولادتي من عدم تفهُّم زوجي لحالتي حيث تحول هو أيضاً لطفل صغير بحاجة لعناية، ولم يشاركني مسؤولية الاعتناء بالمولود».

“سعاد المصري”(اسم مستعار) معلمة لصفوف المرحلة الابتدائية، تتحدث لـ (الحل نت) عن التغيير الذي أصاب علاقتها بزوجها بعد ولادة طفلها الأول، حيث غالباً ما يسبب دخول المرأة بمرحلة الأمومة تبدلاً واضحاً في مشاعرها واهتمامها، سبب ذلك حدوث خلل في علاقتها بزوجها، فحكم على علاقتهما بالفتور بسبب الخوف والقلق ومشاعر الاهتمام التي كانت تبديها تجاه طفلها وعدم تفهم الزوج لهذه المشاعر.

غالباً ما يقع على عاتق النساء كامل العبء بتربية الطفل والاهتمام به، وخصوصاً في مجتمعاتنا حيث تعتبر ثقافة مشاركة الرجل في هذا الفعل شبه معدومة بالإضافة إلى عدم المعرفة لدى الرجال بما يصيب المرأة من تغييرات نفسية وجسدية في فترة الحمل وما بعدها، معظم الرجال يتعاملون وكأن المرأة تغيرت إلى الأبد، متجاهلين فكرة أنها تغييراتٌ مرحلية تفرضها الحالة، وهذا غالباً ما يؤدي إلى تحول العلاقات الزوجية لشكل آخر على المرأة التعامل معه ضمن ظرف صعب وضغط نفسي كبير.

الأمومة قلق نفسي مستمر

تتميز علاقة النساء بأبنائهنَّ في المجتمع السوري بأنها علاقات تقيّد الطرفين إلى حد كبير، وذلك ناتج عن العاطفة الأمومية المبالغ بها لدى النساء السوريّات وهذه سمة ملازمة لكل نساء الشرق، لا ينطفىء القلق الذي يصيب المرأة بانتهاء سنوات طفلها الأولى، بل يبقى متحولاً إلى شكل آخر من القلق، يصبح هذا الطفل في كل مرحلة محركاً لنفس القلق الذي أصاب الأم في لحظة الانفصال، وتصبح كافة أفعال الطفل تسترعي اهتماماً وخوفاً من أمه، تعبر الأم عن هذا القلق بأشكال مختلفة، من حنان مفرط، أو قساوة مفرطة، الخوف من فراقه، والخوف على صحته النفسية والجسدية، ينتج عن ذلك بالضرورة أطفال غير متوازنين.

تقول “سعاد محمد” لـ (الحل نت): «لا يمكنني ضبط مشاعري تجاه طفلي في الكثير من الأحيان، بالرغم من أنني أعلم بأن ذلك ضروري من أجله بالدرجة الأولى، حتى أن خوفي وردود أفعالي علي أي مكروه يصيبه وحتى بكائه سبب الكثير من المشاكل بيني وزوجي، والذي يعتبرني أبالغ باهتمامي وخوفي، هناك شيء لا أستطيع التحكم به، مشاعر الأمومة مخيفة ومتعبة، أشعر بالذنب دائماً تجاه طفلي وما يحصل له ولا يمكنني التخلص من هذه المشاعر».

في الكثير من الأحيان تنجب المرأة طفلاً دون قصد عيش مشاعر الأمومة، وإنما تحكم هذا الإنجاب مقاصد أخرى، كرغبة الزوج بأن يجلب طفلاً يحمل اسمه، أو محاولة إثبات المرأة لمن حولها بأنها ليست عاقراً، أو ربما لتُلزم زوجها بها وبطفلها، والكثير من الأسباب الأخرى، المشكلة في هذه الحالات هي عدم استعداد المرأة نفسياً لتجربة الأمومة وما يرافقها من تبدلات في حالتها النفسية، وتشكل حالة الفتيات اللواتي يتزوجن في عمر صغير انتشاراً واسعاً في مجتمعنا، فتيات يصبحن أمهات قبل وصولهن إلى مرحلة النضج الكافي لتحمل هذه المسؤولية، ينتج عن ذلك علاقات مَرضيَّة وعصابية بين الأم وطفلها تتعدد أسبابها.

هناك حالة أخرى شائعة أيضاً وهي عادة قديمة في مجتمعنا، تتمثل بعملية الحمل المتكرر وإنجاب أكبر عدد من الأطفال، لا يمكن لأي طفل من هؤلاء الأطفال أن يحظى بالاهتمام الكافي الذي يحتاجه لاكتمال نموه ونضجه، بالإضافة لافتقاد الأم لمشاعر الأمومة الحقيقة والواضحة، خاصة وأنها تُجبَر على القيام بفعل الأمومة، ويصبح من الصعب عليها الشعور بالإشباع لهذه العاطفة إلا عن طريق إنجاب طفل آخر، فيصبح الطفل وسيلتها للوصول إلى شعور هي عاجزة عن الإحساس به أو امتلاكه.

تفتقد مجتمعاتنا الفهم الكامل لمدى حساسية فترة الأمومة وأهميتها بالنسبة للأم والطفل على حد سواء، وغالباً ما يتم الزواج والولادة بشكل اعتباطي ودون دراسة أو تخطيط، ينعكس ذلك على جميع أطراف العلاقة ويؤدي إلى نشوء حالات نفسية غير مستقرة لديهم، ويحتاج موضوع كهذا إلى بلورته وطرحه بشكل علمي وتربوي، والتنبيه إلى أهمية الوعي بهذه المرحلة بكافة الوسائل الممكنة.


 

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.