يقول الكاتب الروسي أنطون تشيخوف: «قد لا أملك انتصارات مدهشة، لكنني أستطيع إدهاشك بهزائم خرجت منها حياً». هذا الخطاب ينطبق على الحالة العراقية التي لم ترَّ أي نصر واقعي، لا سيما على أصعدة التطورات الأمنية، ولكنها حققت ذلك من خلال التصورات المجازية.

ينطبق قول “تشيخوف” أكثر على صواريخ الـ”كاتيوشا” التي تزيَّن سماء بغداد منذ مطلع العام الماضي 2020، وتطير باتجاه المنطقة الخضراء لتسقط في نهر دجلة مرة، وبالقرب من الأبنية الحكومية والسفارة الأميركية لمرات، حيث أنها لم تسجل الانتصارات التي ترجوها، ولكن الجماعات التي تقف خلفها، تنجو من الهزائم السياسية والأمنية والغارات الأميركية بأعجوبة.

هذه الصواريخ التي بعد أن كانت تستهدف مبنى السفارة الأميركية، وصارت تسقط على القواعد العسكرية في عموم البلاد، بضمنها إقليم كردستان، تُخاطب واشنطن، وتريد منها أن تترك القوات الأميركية أرض العراق، فيما تردُّ الإدارة الأميركية والطيران الحربي الذي يملكه التحالف الدولي بعنفٍ على قواتٍ تتبع الحشد الشعبي على أراضٍ عراقية.

أخيراً، كانت الضربة التي تلقتها أربيل موجعة من قبل جماعة “سرايا أولياء الدم”، لكن الرد الأميركي أكثر إيلاماً، بعد قصف مقرات تتبع فصائل مسلحة على الحدود العراقية السورية.

راح ضحية الغارة الأخيرة على “البوكمال”، مقاتل ينتمي للحشد الشعبي، لكن مصادر حقوقية أشارت إلى أن حصيلة قتلى الغارة بلغت 18 مقاتلاً.

صراع “كاتيوشا المقاومة” والغارة الأميركية ليس متكافئاً، ويستمر منذ حادثة “المطار” التي اغتيل فيها “المهندس وسليماني”، ولكن مع ذلك، تستمر الأطراف العراقية المسلحة بالقصف لتتلقى ضربات دموية، والضحية من الضربتين هم أبرياء ومقاتلون زرعتهم الفصائل في أماكن مميتة.

المشكلة، أن عدم التكافؤ بين طرفي الصراع لا يفرز فكراً جديداً عند جبهات “المقاومة”، حيث لا تلجأ هذه الأطراف إلى السياسة أو الضغط البرلماني أو الاحتجاجي، هي تؤمن بأن جنود الولايات المتحدة وسلاحها، لا يخرج من العراق إلا بالجنود والسلاح، كما لا تسفر خشية المراقبين من تأزم الأوضاع إلى حلولٍ تخدم العراقيين بالدرجة الأساس.

تريد الـ”كاتيوشا” أن يخرج “المحتل الأميركي”، لكن إذا خرج أو مات “العدو” ماذا يبقى للمقاتل، أو كيف سيعيش، مثلما يفكر “فريدريك نيتشه”، الذي كان يرى أن «من يحيا من خلال مهمة مقاتلة عدو، سيكون من مصلحته أن يظل ذلك العدو على قيد الحياة»، لذلك تبدو غالباً أن خروج الأميركيين من بلاد الرافدين ليس غاية الصواريخ، بل هناك مصلحة أكبر.

يرى مراقبون وصحفيون وناشطون، حتى باعة الشاي والملابس المستعملة في شوارع بغداد أن الجماعات التي تقصف المنطقة الخضراء، تستثمر كل مواردها للعمل على تحويل وظيفة الـ”كاتيوشا” من صاروخ إلى رسالة، وأحياناً تكون هذه الرسالة غاضبة، وأحياناً أخرى ناقمة، وأخرى تشبه التنبيه.

تسعى هذه الصواريخ لفتح ملف الحوار الإيراني الأميركي بشأن الاتفاق النووي، الذي عادت إيران لخطاب التهديد بتقليص الالتزام ببنوده، بعد تخلي الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب عنه، ولكن في واقع الأمر، فإن أكثر ما تحتاجه طهران هو الالتزام به، ولكن كيف تلتزم به وتفتح باب النقاش حوله، والإدارة الأميركية لا تسمع النداءات.

كانت الـ”كاتيوشا” قد تراجعت كثيراً خلال فترة الانتخابات الأميركية الأخيرة، وكان أمل الجماعات المسلحة في العراق بأن يفوز جو بايدن، عسى أن يكون أكثر مرونة مع طهران، ولكن الأشهر التي أعقبت فوز بايدن، أكدت أن رئيس أميركا الجديد ليس كما توقعت إيران، وهو ما أعاد سلسلة الهجمات ومسلسل الـ”كاتيوشا”.

إنه الاتفاق النووي، الذي تُتهم إيران بانتهاك حدوده، وتخصيب اليورانيوم بما ينسجم مع رغبتها، دون الالتفات إلى العالم، وهي تتجاوز بنحو 20 بالمائة مما هو متفق عليه من حيث التخصيب الذي حُدد بأن يكون 3.67 بالمائة فقط، وهو الاتفاق الذي يتسبب باضطراب الأمن في بغداد، وسقوط ضحايا المدنيين والحشد الشعبي وقوات عراقية، ناهيك عن الخسائر المادية.

يتأكد يومياً أن إيران غير قادرة على فتح أي أبواب تعاون مع العالم، كما أنها فقدت بوصلتها السياسية والدبلوماسية عقب الأزمات الاقتصادية التي تكونت بعد سلسلة العقوبات التي تلقتها من واشنطن، ولا تملك غير التوجه نحو العراق، مستخدمة شبّان معظهم من العاطلين عن العمل، لصالح تهديد السفارة الأميركية والقواعد العسكرية، كي توصل رسائلها، وبعد فشل حصول طهران على المكاسب، يسقط هؤلاء الشبّان ضحية الانتقام الأميركي.

كما أن السلطات في العراق، محاصرة بالسلاح المنفلت والأحزاب ذات المصالح المتنافرة، ولم تستطع حكومة مصطفى الكاظمي أن توقف هجمة واحدة من هجمات الـ”كاتيوشا” كما أنها لم تتمكن من اعتقال أي متورطين بهذه الأعمال، فيما تواصل أميركا ردودها على الهجمات الصاروخية.


 

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.