1
مع قيام الجمهورية المصرية على يد الأب المؤسس جمال عبد الناصر، ظهرت “وزارة الثقافة والإرشاد القومي”، بوصفها ذراعاً من أذرع الدولة العسكرية البوليسية. مهمته تشكيل “الإنسان الجديد”، و”المجتمع الجمهوري”. حيث الفن والأغاني ليست بغرض التسلية فقط، بل بوق دعائي للسلطة ورسائلها. وداعمٌ لمعاركها المختلفة.
خلال السنوات الأولى من عمر جمهورية ناصر تم تأميم شركات الإنتاج الموسيقي، وكذلك منصات التوزيع. وفُرضت رقابة صارمة على الحفلات والمسارح. ليس هذا فحسب. بل تم تأسيس هيئات تابعة لوزارة الثقافة، تحت رعاية الوزير العسكري “د.ثروت عكاشة”، بغرض إيصال يد الدولة إلى عمق الريف والصعيد المصري، بحثا عن أي صوت يمكن استثماره.
تولى زكريا الحجاوى مهمة الطواف بالموالد والاحتفالات الشعبية للبحث عن المدّاحين والمغنيين الشعبيين، ثم جلبهم للقاهرة وتعيينهم في هيئات ومسارح الدولة، بصفة مغنين شعبيين. ليتم تقديمهم في الاحتفالات القومية، داخل وخارج البلاد، ممثلين للتراث والفلكلور الوطني الجمهوري.
في هذا الزمن ولدت الموسيقي البديلة “الأندرجرواند” للمرة الأولى. أحياناً وسيلةً لمقاومة خطابات السلطة السياسة. كما في تجربة الشيخ إمام الموسيقية. وأحياناً أخرى للتعبير عن ذائقة فنية ترى أن فن السلطة لا يعبّر عن الموسيقى القومية الحقيقية. مثل تجارب الروك المبكرة لعدد من الفرق المصرية في الستينيات، ومنها “بلاك كوتس” و”ليه بتى شاه“.
خلال العقود التالية من عمر الجمهورية المصرية، وحتى ثورة الخامس والعشرين من يناير، تذبذبت سيطرة الدولة على المجال الموسيقي والغنائي حسب الظرف السياسي. لكن ظلت دائماً تقوم بدور الوصي على ما يصل للجمهور. وذلك عبر مؤسساتها الرقابية المختلفة.
في ظل هذا المناخ تشكلت الدوائر الثلاث للإنتاج الموسيقي المصري: “الموسيقى الشعبية”، التي سُمح لمطربيها بالغناء في الكباريهات والأفراح وبيع أشرطة الكاسيت. لكن لا يتاح لهم الظهور على التلفزيون والإذاعات الرسمية. والحالة الأشهر كانت حالة “أحمد عدوية” وما تلاه من مغنين.
الدائرة الثانية كانت الموسيقى الرسمية الحاصلة على ختم موافقة الدولة. التي تبثّ وتعرض في الإذاعات والتلفزيون، ويُدعى مغنوها لتقديم الاحتفالات الموسيقية القومية، التي يحضرها رؤساء الجمهورية.
وأخيراً هناك الموسيقى البديلة. التي كانت هامشاً يعبّر عن تجارب موسيقية ليست شعبية، ولا معترفاً بها من الدولة. تنمو في المسارح الجامعية، ومناسبات الأحزاب والجمعيات الثقافية. وتطمح أن تنال يوماً اعتراف الدولة، لتدخل إلى الإذاعة والتلفزيون. مثل تجربة “محمد منير” وجيله في بداياتهم.
شهد عقد التسعينات توقيع اتفاقية الشراكة الأورومتوسطية، والتى توسّعت بمقتضاها الحكومات والمؤسسات الأوروبية في مشاريع التعاون والإنتاج الثقافي والفني. وظهرت المنظمات غير الحكومية “NGOs”، بوصفها منصات إنتاج، عملت على تدعيم الموسيقى البديلة. وخلق مساحات لعرضها.
وهكذا مع بداية الألفية لم تعد “الموسيقى البديلة” تجارب فرق شبابية تستمر لسنوات ثم تختفي. بل باتت جزءاً منظومة اقتصادية، تعتمد بشكل أساسي على التمويل الأجنبي ومشاريع التعاون الثقافي المتوسطية. ما أتاح لكثير من الفرق والتجارب الموسيقية البديلة الاستمرار والنمو.
2
انتهى كل ذلك مع ثورة يناير. فمع الانهيار المؤقت لقبضة السلطة العسكرية (2011- 2014) تداخلت دوائر الإنتاج. ولم تعد الدولة حارساً على أذان الجمهور. وكان نجوم الموسيقى البديلة الأجدر والأسرع في التعبير عن خطاب الثورة الحماسي. وبينما كان المعتصمون في ميدان التحرير مستعدين للاعتداء بالضرب على أي مغني يُحسب على التيار الرسمي، إذا فكر بزيارة الميدان، كما حدث مع تامر حسنى، كانت المسارح تُنصب في الساحات ليغنى عليها فنانو الموسيقى البديلة.
قامت الثورة في وقت كان سوق الإنتاج الموسيقي المصري والعربي يتغيّر تماماً. فصناعة الكاسيت تنهار، والشركات الكبري تفلس. وبدلاً منها سارعت شركات الإعلانات والاتصالات لملء الفراغ. فأصبحت الإعلانات مصدر دخل رئيسي للمغنين. كما احتكرت شركات الاتصالات توزيع الموسيقى والأغاني عبر شبكاتها. وفي ظل غياب رقابة الدولة الصارمة، والحرية المستجدة للسوق الفني أثناء ثورة يناير. سارعت تلك الشركات إلى تقديم فناني الغناء البديل، وتصديرهم على منصاتها. وهكذا أصبح السائد ما كان بالأمس “غناءً بديلاً”. أي أن الهامش صار المتن.
انتهت فسحة الأمل القصيرة تلك بعودة الدبابات إلى الشوارع، وصعود السيسي إلى رأس السلطة. تم إلغاء الحفلات العامة في الشوارع والميادين، ومُنحت نقابة الموسيقيين الضبطية القضائية لتنظيم ومنع أي حفل موسيقي. فتم إطلاق يدها للسيطرة على المجال الموسيقي والغنائي.
طاردت أجهزة الدولة الأمنية الفنانين الذين أبدوا تحيّزاً للثورة. أو معارضةً وتململاً من النظام الحالي. فاختار بعضهم الهجرة مثل “حمزة نمرة” و”رامي عصام”. آخرون توقفوا عن الغناء تماماً. ومن تبقي في البلاد أعاد صياغة ذاته وأسلوبه الفني باتجاه مسالم ومربح أكتر. مثل “أبو“، الذي كان يغنى في ميدان التحرير عن مواجهة رصاص الشرطة. ثم تحوّل لغناء “ثلاث دقات“ لمهرجان “الجونة“.
3
لكن بينما كان السيسي يغلق المجال العام، ويحكم القبضة على الإنتاج الفني والموسيقي. كانت منصات العرض والتوزيع العالمية تتوسع وتستعد لابتلاع العالم. فـ”يوتيوب”، و”سبوتفاي”، وشركة “أنغامي” وغيرها، أصبحت تحتكر توزيع الموسيقى والأغاني في العالم. وصارت المنبر الأساسي لتلقي الناس للمنتجات الفنية. والثمن هو استماعهم ومشاهدتهم للإعلانات، قبل وبعد وأحيانا في منتصف الأغنية. أو دفع اشتراك شهري مباشر للمنصة، التي توفر لهم إمكانية الولوج إلى مكتبة تحتوي على مليارات الساعات من الأغاني والموسيقى من كل مكان زمان.
ترافق هذا مع تربع الكمبيوتر وبرمجيات التوليف الموسيقي على عرش الآلات الموسيقية في مصر والعالم. ناهيك عن أنواع الموسيقي الإلكترونية المختلفة. وموسيقى الراب والهيب هوب، التي أصبحت تُنتج دون آلات موسيقية. بل بكيبورد الكمبيوتر.
خلق هذا فرصة ذهبية للشباب المصريين المهتمين بالموسيقى، الذين أصبح بإمكانهم تعلّم كل شيء من على الإنترنت وفيديوهات “يوتيوب”. ثم الحصول على البرنامج المناسب، والبدء بصناعة موسيقاهم الخاصة. والالتقاء بفنانين آخرين لديهم الاهتمامات والتوجهات الموسيقية نفسها. والتعاون لإنتاج أعمال مشتركة. وتسجيل تلك الأعمال في أي غرفة من المنزل. ورفعها بعد ذلك على المنصات المختلفة. وبقليل من حنكة التسويق الإلكتروني على مواقع التواصل الاجتماعي يتدفق المستمعون. ومع كل مشاهدة أو استماع تأتى التحويلات المالية إلى جيب صانع الموسيقى.
4
حرّرت منصات البث الإقليمية والعالمية صنّاع الموسيقي من الدوائر الثلاث التقليدية القديمة، التي سيطرت على الإنتاج الموسيقي لسنوات. وبرز من خلف الجدران عالم واسع وجديد. لم يعد الفنان فيه يحتاج لعرض كلمات أغانيه أمام جهاز الرقابة على المصنفات الفنية، كي يحصل على موافقة بعرض الأغنية في الإذاعة أو تلفزيون الدولة. أو حتى تسجيلها على شريط الكاسيت. كما لم يعد الموسيقي الشاب مضطراً لتعلم كيفية كتابة “بربوزال”. وتحويل مشروعه الموسيقي إلى ملف، يحتوى على شرح وميزانية مقترحة، لكي يحصل على تمويل من المؤسسات الثقافية المحلية أو الأجنبية. ولم يعد المغنى الشعبي كذلك مضطراً لأن تكون الأعراس، والغناء في صالات الرقص الشرقي، مصدر دخله الوحيد. بينما يستمر منعه من الظهور على التلفاز أو الراديو.
5
كانت السلطة، بحكم سيطرتها على أدوات الإنتاج والتوزيع، هي من يحدد المتن والهامش في الموسيقى. وتحدد كذلك مَن سينتقل من الهامش إلى المتن. ومتى يحدث ذلك.
بدأ “محمد منير” و”على الحجار” و”حميد الشاعري” حياتهم الفنية من الهامش. من خلال حفلات الجامعات والغناء في مسارح المطاعم. وتطلّب الأمر سنوات من النحت في الصخر، وتقديم تنازلات، من نوعية الغناء في الاحتفالات الوطنية، والغناء للرئيس، وفي حفلات أعياد ميلاد شيوخ الخليج، حتى يُفتح لهم الباب، وينتقلوا إلى المتن.
الآن انتقلت تلك السلطة من قبضة الدولة إلى قبضة “الألغوريثم” على منصات البث الموسيقي ومواقع التواصل الاجتماعي. وأصبح المتن والهامش تصنيفين مؤقتين. يمكن أن يتغيرا في ثوانٍ حسب “الألغوريثم”. فما قد يكون متن/ ترند الأمس، قد يصبح هامش الغد.
6
اندفعت الموسيقى الشعبية المصرية في نسختها الحديثة (المهرجانات) لاكتساح سوق المنصات. وفجأة وجد المغنون، الذين نصبتهم السلطة دائماً في متن المشهد، العرش يهتز من تحت أقدامهم. بل استفاقوا بينما كان يتم دفعهم إلى الهامش. فأعمالهم، التي يبثها التلفزيون الرسمي والإذاعات، لم يعد أحد يستمع لها. وأرقام الاستماع لهم على “يوتيوب” و”سبوتفاي” ضئيلة جداً. لذا سعوا إلى شحن وتعبئة السلطة ضد الأنواع الموسيقية الجديدة. وذلك عبر السيطرة على نقابة المهن الموسيقية، وتحويلها من مؤسسة هدفها الدفاع عن الفنانين والموسيقيين إلى سلطة رقابية تمنح وتحجب تراخيص الغناء في الأماكن العامة.
التقت رغبة السلطة بالسيطرة على المجال العام مع مصالح ديناصورات الموسيقى والغناء في مصر، المسيطرين على النقابة. والذين لديهم سلطة إرسال ضباط الشرطة، للطواف في الأماكن العامة، ومنع أي مغنٍ أو عازف من تقديم أعماله، مادام ليس عضواً في نقابتهم، ولا يحوز تصريحاً منها.
لكن السلطة الحالية في مصر ليست ابنة عصر دول ما بعد الاستعمار. وليس لديها أي خطاب أيديولوجي أو وجداني كما في عصر ناصر. بل هي نتاج النظام النيوليبرالي العالمي، الذي لا يكتفي بفرض سلطة الشركات العالمية (يوتيوب، سبوتفاي، وغيرهما) على الأسواق المحلية، بل يعيد تشكيل طبيعة الدولة ومفهوم السلطة. من كونها أداة حكم وإدارة موارد وطنية، إلى اعتبارها هيئة تعمل بمنطق الإدارة الاقتصادية. أي أشبه بشركة غرضها تحقيق الأرباح وإرضاء المساهمين.
وبما أن الدولة وأجهزتها وشركاتها تحتكر امتلاك وإدارة المسارح الكبيرة فقد كان صعباً عليها الانجراف الكامل إلى جبهة “هاني شاكر” نقيب “المهن الموسيقية”، لأن “شاكر” وفناني النقابة لا يمكنهم مثلاً أن يجذبوا ثلاثين ألف شاب لحضور حفلة موسيقى في قاعة “المنارة”، التي تملكها شركة تتبع لجهات سيادية، لكن مغنين مثل “حمو بيكا” و”ويجز” و”مروان بابلو” يمكنهم بسهولة تحقيق هذا الرقم.
لذلك، وبدلاً من المنع، وحصار الموجة الموسيقية الجديدة في الهامش، جرت وتجري عملية تشذيب وتقليم أظافر للغناء الشعبي والأنواع الموسيقية الصاعدة بقوة، مثل الراب والهيب هوب. فالكلمات التي تشير للمخدرات أو العنف المبالغ به في الأغاني الشعبية بدأت تقل. لأن المغنى الشعبي، الذي يغنى مثل تلك الكلمات، لا تفتح له أبواب مسرح “المنارة” وأشباهه. ولا أدل على هذا من أغنية “بنت الجيران“ لـ”حسن شاكوش”، و”عمرو كمال”، اللذين اضطرا للاعتذار عن ذكرهما كلمتي “حشيش وخمور” في أغنيتهما. ففتحت لهما أبواب مسارح وحفلات الساحل الشمالي والعاصمة الإدارية الجديدة، وغيرها من المشاريع العقارية المملوكة للدولة.
يتكرر الأمر في مشهد الراب والهيب هوب المصري، فكثير من المغنين الشباب الجدد اضطروا لتغيير أسلوبهم الفني. وحذف أغانٍ و تجارب موسيقية سابقة لهم، كي يقدموا نفسهم بشكل يليق بالسلطة الجديدة. خاض “ويجز” مثلاً معارك لحذف حلقة من برنامج راب قديم، يظهر فيها مغنياً لكلمات، أصبح لا يليق أن ينطق بها مغنٍ يظهر في برنامج “صاحبة السعادة”، الذي تقدمه الممثلة الفاضلة “إسعاد يونس”. وبات أيضاً من ضيوف مهرجان “الجونة”. ويستعد لاقتحام عالم التمثيل.
7
سوق توزيع “يوتيوب” وغيره من المنصات ليس محدوداً بالحدود الجغرافية لمصر. أو محصوراً في السياق العربي فقط. فحين يرفع المغني الشاب أغنيته على “سبوتفاي” مثلاً أصبح في منافسة مع كل الفنانين في العالم، الذين يرفعون أعمالهم هناك.
أضف إلى ما سبق أن غزو برمجيات التوليف الموسيقي ليس مقصوراً على صناعة الموسيقى في مصر. بل غيمة غطت الإنتاج الموسيقي في العالم.
يستخدم صناع الموسيقى في مصر البرمجيات والأصوات نفسها التي يستخدمها صنّاع الموسيقى في البرازيل أو اليابان. فأصبحنا نعيش في عصر “التناسخ” لا “النسخ” كما في زمن “فالتر بنيامين”، الذي تحدث عن “ضياع هالة العمل الفني” بعد انفصاله عن زمان ومكان إنتاجه الأول، بسبب إمكانية نسخه آلياً بشكل غير محدود، وتلقيه في سياقات زمانية ومكانية مختلفة. في عصر “التناسخ” لا يقتصر ضياع “الهالة” على إمكانية نسخ العمل الفني الواحد بلا حدود. بل تبدو كل الأعمال الفنية على اختلافها أشبه بتكرار لنغمة وصوت واحد. وبالتالي فالانفصال عن الزمان والمكان لا يقتصر على لحظة التلقي. بل أيضاً لحظة إنتاج العمل الفني نفسها.
التشابهات الصوتية بين الموسيقى المنتجة تجعل من الصعب أحيانا تمييز مصدر تلك الموسيقى. الأمر الذي وضع الموسيقيين أمام تحدى كيفية إخراج صوت يعبّر عنهم، لكن يتوافق مع الإيقاع الإلكتروني الواحد للعالم. وحتى الآن ما يزال الفشل مستمراً، ربما لاستحالته. وقد يكون السياق، الذي كان يجعل موسيقياً شاباً يتمرّد على الصناعة المحلية في بلده، ويسعى لتقديم الجديد، لم يعد موجوداً. بل أصبح السياق الآن كيف يمكن أن تنتج موسيقى تتوافق مع الصوت الموجود والأكثر انتشاراً. لكي تضمن التسلل إلى أذن الجمهور، وركوب “الترند”. لذا فمعدل حرق التجارب الموسيقية صار سريعاً جدا. الأذن المعاصرة تملّ سريعاً، وعمر التجارب الفنية أصبح قصيراً جداً.
8
في هذا الفضاء الجديد لم يعد من المجدي الحديث عن تصنيف باسم “الموسيقي البديلة”. إذ لم يعد هناك بديل، أو حتى سعى لخلق بديل، بل الجميع صاروا في بوتقة واحدة. يسعون لتقديم الخلطة ذاتها: صوت وصورة الموسيقى التي لا تختلف كثيراً عن تلك المنتجة في أميركا. بل كلما اقترب المنتج الموسيقي والفني من النموذج الأميركي اعتبره الجمهور أشد احترافية. وفي بعض الأحيان يصل الأمر إلى أن تكون الأغنية محاكاة للحن وإيقاع أغنية راب أو تراب أمريكية.
مع ذلك يقدم منتجو الموسيقي الجديدة أنفسهم بصفتهم متمردين، أو صوتاً موسيقياً بديلاً للنغمة السائدة. لكن هذا الادعاء ليس إلا “وردة في عروة الجاكيتة” بحسب التعبير الشعبي. وحيلة تسويقية.
الموجة الموسيقية الجديدة صوت وإيقاع وطاقة جديدة بكل تأكيد. لكنها ابنة شرعية لنظام الإنتاج الموسيقي والفني الجديد. الذي ينهض في كل العالم. وشديدة الوفاء والإخلاص له. وخلال سنوات قليلة سيصبح جميع الفنانين في العالم يعملون بوصفهم أجراء بلا أية حقوق لدى منصات كلها أميركية. الأمر نفسه يحصل مع منتجي الأفلام والمسلسلات، الذين يتحولون تدريجياً إلى موظفين في منصات مثل “نيتفليكس” و”أمازون برايم”.
بلغة القومجيين المصريين يمكن القول: إنها القوة الأمريكية الناعمة تبتلع العالم. ولا تترك مساحة لأى بديل.
9
من المثير للاهتمام غياب الأغاني الوطنية عن الموجة الموسيقية الجديدة. رغم أنها كانت دائماً رافعة الموسيقى البديلة. فقد اعتاد مغنو هذا النمط الموسيقي على تقديم أنفسهم بصفتهم أصحاب رسالة، فناين ملتزمين، يعبّرون بصوتهم وموسيقاهم عن آلام وأحلام الناس.
كان “الوطن” عادة في الأغاني الوطن القومي، ممثلاً بدولة ما بعد الاستعمار. أو يكون تصوّراً منبثقاً عن القومية العربية. الآن لم يعد أحد يغنى لـ”الوطن” في مصر سوى “حسين الجسمي” الإماراتي. إضافة لمغني الزمن الماضي. حين كان الوسيط الأساسي للغناء هو “الفيديو كليب”، الذي يبث على قنوات فضائية مثل “روتانا”. كل فترة يصدر هذا النوع من المغنين أغنية في حب مصر، أو حتى في حب سجون مصر، أو ربما تحرير القدس، أو ضد طيور الظلام والارهاب.
في حين يهجر مغنو الموجة الجديدة (المهرجانات والراب) كل هذه الخطابات القومية عن الهويات الجماعية المتخيّلة. ويستبدلون الوطن بالمناطقية. فـ”الوطن” بالنسبة لهم هو منطقة سكنهم ومحل إقامتهم.
وهذه الظاهرة لا تقتصر على مصر، فحتى “شب جديد”، مغني الراب الفلسطيني المعروف، لم تشتهر له أي أغنية ذكر فيها اسم فلسطين. في المقابل نلحظ لدى مغني الموجة الجديد الفلسطينية حالة فخر بأحيائهم السكنية، مثل أحياء الخليل والقدس والناصرة. وإصراراً على استخدام اللهجات والتعبيرات المحلية. بل وتوسيعها عبر نحت واشتقاق أسماء ومصطلحات جديدة. وهو الأمر نفسه الذي نلحظه لدى “ويجز”، المغني السكندري، الذي يحاول إعادة صياغة اللهجة العامية المعاصرة لمدينة الإسكندرية.
لا داعٍ للإفراط في التأويل، واعتبار المسألة مجرد خضوع لهيمنة المنصات الفنية العالمية، بطرحها النيوليبرالي عن العالم، باعتباره سوقاً مشتركة، لا مساحة فيه للحدود والسلطة القومية. لكن الأكيد أن التغييرات التكنولوجية. وابتلاع الشركات الكبرى لسوق الإنتاج الموسيقي، سيؤثّر على طبيعة الموسيقى وكلمات الأغاني ومعانيها. وسينتج مع الوقت تصنيفاً جديداً للأنواع الموسيقية. وتقسيماً جديداً لعالم الموسيقى المصرية والعربية. لن يحوي بالتأكيد مفاهيم ذات رنين ثوري مثل “الموسيقى البديلة” أو “الأندرجراوند”.
هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.