يميل المقال السياسي في سورية إلى تجرّيم دور العسكر منذ الستينات، وأنه قطع المسار “الطبيعي” للتطور. يعتمد أصحاب هذا المقال، القياس ذاته ليؤكدوا أن مشكلة العالم العربي تكمن في هيمنة الجيوش على السلطة. إن أيّة رؤية أوليّة لأشكال الحكم في العالم العربي، الآن ومنذ عقود، توضح أن الفشل كان عاماً وشاملاً، والحمد لله، وليس مقتصراً على تسلط العسكر على الدول.

بعد ثورات 2010، وما تلى ذلك، وحتى الانقلاب السوداني الأخير، كرّر كثير من أصحاب القلم إياه، إن العسكر هم المشكلة من جديد، ولن نكرّر ملاحظتنا السابقة بأن الفشل عامٌ وكلي. السؤال الجاد هنا، لماذا هذا الفشل في التصنيع والزراعة المتقدمة والتجارة والديمقراطية وعدم تحييد الدين عن الدولة وفي التعليم “العقلاني”، وتهميش دور المرأة، وسواه كثير. 

إن وجود أنظمة عربية فاشلة وليست عسكرية، يوضح ضرورة التفكير بشكلٍ أعمق في مشكلات الانتقال السياسي، ودراسة أسباب فشل الثورات العربية على يد العسكر في مصر، وعلى يد رئيس شعبوي في تونس، وعبر توسّل الحرب الطائفية في سورية واليمن، والدعم الخارجي في ليبيا. السؤال أيضاً، هل العسكر يمثلون أنفسهم أم يمثلون قطاعاتٍ مجتمعية كذلك. العسكر يمثلون شريحة مجتمعية ساعية إلى السلطة، وهي في الستينات غيرها بعد ثورات 2010. ومن الطبيعي أن يتقدم السؤال التالي: لماذا يطمحون إلى السلطة وتكمن وظيفتهم في الدولة الحديثة في حمايتها من التعديات الخارجية بصورة رئيسية، أو هذا ما يفترض أن يكون؟!

هنا يصح التمييز بين دور الجيش في الدولة الحديثة وفي البلاد المتخلفة، ودون أن نتوسع في توضيح أن ميزانيات الجيوش في البلاد المتقدمة أكبر، ولها وظائف عالمية وتغطي الكوكب وليس فقط في بلادها الأصلية، ومثالنا هنا أمريكا وروسيا والصين وفرنسا بصفة خاصة. الجيوش في البلاد العربية، كانت مسيسةً للغاية في الستينيات؛ الحقبة الأقرب للاستقلال من الاستعمار والتحرّر منه، وكان طبيعيّاً أن تكون من الطامحين للسلطة حينها. يساعدها في ذلك ضعف الطبقات البرجوازية العربية، و”خيانتها” لقضايا الاستقلال القومي والثورة الصناعية وللثورة الزراعية وعدم مواجهة الاستعمارالاستيطاني في فلسطين، واكتفائها بالقطرية وتهميش مصالح الطبقات الفقيرة.

كان هذا وضع الجيوش في الستينيات، وسُميت أنظمته بالناصرية والبعث ولديكم القذافي والجزائر. لقد تبنت الحركات القومية الإصلاح العام وقضايا الفقراء والمسألة القومية والوطنية والإصلاح الزراعي، وانخرطت في الجيوش من أجل تحقيق مطالبها، هذا أوّل سبب لدخول الجيش إلى السياسة العامة، ونقصد، ضعف البرجوازية التقليدية وافتقادها إلى مشروعٍ تاريخيٍّ، وبالتالي استَغل الجيش ذلك الضعف وسيطر على السلطة والدولة والمجتمع.

بعد 2010، هدفت الثورات العربية إلى انتقالٍ ديموقراطيٍّ شامل. كان هذا هو الحلم، ولكن أسابيع قليلة وسنوات حينذاك أوضحت قصوراً كارثياً في القدرة على الانتقال؛ فالقوى السياسية المعارضة لم تتبنَ مشروعات تاريخية للتطور العام، بل وراحت تغازل الجيش وكأنّه امرأةً حسناء تنتظر علاقةٍ من نوع خاص! وباعتباره القوة الأكثر تنظيماً استطاع الدخول إلى اللعبة السياسية الكاملة، واستَغلت قياداته ذلك الغزل والحب وقتلت المُحب الساذج، وتمّ إنهاء الثورات، التي لم تستطع أن تحسم معركتها مع النظام القديم بطبقاته وجيوشه والتدخلات الخارجية.

ليس موضوع المقال الكلام عن دور الأنظمة السابقة عن 2011 وقمعها للمجتمع المدني والقوى السياسية وتطييف العلاقات المجتمعية، وتهميش دور المرأة ونشر التعليم غير العقلاني وتعميم الجهل وسواه. القضية تكمن حينذاك في أن هناك ثورات اجتماعية تنتقل من دولة عربية إلى أخرى، وقد تنتقل إلى خارج العالم العربي، وإن مشكلة تلك الثورات، وقد زلزلت أركان الأنظمة القديمة وأسقطت بعضها، أنها لم تجد قوىً سياسية جادة تتبناها وتقودها نحو الانتقال الديموقراطي.

الجيوش قوىً منظمة، وقياداتها مسيسة، وهي تتخوّف من الدعوات المتكرّرة إلى تحييدها في الثكنات والدفاع عن الدولة، وبغض النظر عن شكل النظام السياسي والتحولات المجتمعية أيضاً. في سورية التصق الجيش بالسلطة قبل وبعد 2011، وفي مصر استغل وضعاً ثوريّاً وانقلب على الحكم 2013 وفي تونس استطاع قيس سعيد توظيفه من أجل مشروعٍ سياسيٍّ يقوده الرئيس الطامح لدور استثنائي في تاريخ تونس. إذاً هناك مشكلة كبرى في دور الجيوش العربية، وتأهبها المستمر لفرض هيمنتها على الدولة، وفي السودان الآن، يحاول قادة الجيش وقائد ميليشيا الجنجاويد أحمد حمدان دقلو السيطرة المتفردة على الدولة.

إن تضخم دور الجيوش يفرض قراءةً جيّدة للواقع العربي، ووفقاً لكل دولة على حدا. الأكيد أن هناك حالة تمازجٍ بين السلطة السياسة والجيش، وعدم رغبة السلطات العربية بإبعاد الجيش عنها؛ الأخير لا يتم استبعاد دوره إلّا في الأنظمة الديموقراطية، وبالتالي استبعاد الديموقراطية كشكل للحكم يستدعي بالضرورة ذلك التمازج، وعبره تُستبعَد الديموقراطية، وتنشأ الدولة الأمنية أو الملكية أو الحزبية وكذلك الأميرية والسلطانية.

إذاً هناك مشكلة كبرى تواجه المجتمعات العربية، ولا تكمن بالجيش فقط بل بضعف الطبقات البرجوازية العربية، وهذا ما خلق مشكلات في بنية ووعي الطبقات المهمشة والكادحة، وأدى إلى تعقيدات كبرى أمام الثورات وفقدانها بوصلة المشروع التاريخي، القادر على تكثيف المشكلات والنضال من أجل تجاوزها، ونقصد بالمشكلات رداءة المشاريع الاقتصادية وغلبة التجارية منها ونمط الزراعة التقليدية، وسيادة الوعي الديني والطائفي والعصبوي الفئوي بعامة والمحلي أي المناطقي، وعدم تفضيل النظام الديموقراطي بشكل نهائي.

إن الثورات ستتجدّد بحكم غياب المشروع التاريخي للطبقات الحاكمة والتأزم الشديد في حاجات المجتمع، وسيظل للعسكر دوراً في شؤون الدولة، وسيستغلون غياب الطبقات القوية ليكونوا هم المسيطرون على السلطة والدولة. القضية المراد التطرق لها هنا، أن الكلام العام عن الديمقراطية أو الحرية والأحلام لا يفيد أبداً في تنظيم حركة الشعوب في حركاتٍ سياسية فاعلة وقادرة على تحقيق ما ذكرنا، وفي حالة ثورات 2011 تمّ التضحية بنضالاتها عبر رفض تجذيرها أو عدم القدرة على تجذيرها نحو مشروعٍ تاريخي يتبنى قضايا الطبقات الأشد فقراً، وعامة أفراد المجتمع، وبالتالي أخفقت الثورات، ولنقل أخفقت مرحلتها تلك، وها هي الثورة السودانية تكرّر الفشل ذاته. وقد تستطيع الأخيرة تحييد الجيش لأسبابٍ عديدة تخص هذا البلد، وقد أخفقت حينما اختارت الشراكة مع الجيش، فلم تنهض بالسودان منذ 2019، واستطاع الانقلاب عليها بسهولة، ومشكلته الحقيقية الآن مع الشعب، الذي جدّد ثورته؛ ولن يغركم تشكيله لمجلس سيادة جديد!

تثير التجربة السودانية النقاش حولها كثيراً؛ فهي تتيح لنا مراقبة أدوار الجيش، والقوى السياسية المنظمة، والقوى النقابية الواعية والذكية “تجمع المهنيين السودانيين” والأخيرة تشكل قوة سياسية شعبية كبيرة. قصدت بالفكرة الأخيرة، أن وجود قوى سياسية منظمة، ولها شعبية كبيرة، وتنتهج السلميّة في الثورة وتمتلك مشروعاً سياسياً وشاملاً للسياسة والاقتصاد والتعليم ووضع القوميات ولحقوق المرأة، سيكون مدخلاً دقيقاً لإبعاد الجيش عن السياسة وتلبية مطالب التطور التاريخي وحاجات الناس.

في سورية لا يمكن إبعاد الجيش عن السلطة دون ما أوضحناه في السودان، فهي أدوات الانتقال السياسي الديموقراطي. إن التجربة السورية مؤلمة للغاية؛ فالجيش أصبح جيوشاً، والمجتمع مجتمعات، ولدينا عدّة احتلالات، وهناك الانقسامات القومية والطائفية الحادة وترميم كل ذلك، والنهوض بالتحرر الوطني نحو مشروع جامع للسوريين تعدّ مسألة المسائل، فهل يمكن تجاوز ذلك في الوقت القريب؟ القضية معقدة، وأكثر من السودان بالتأكيد، ولكن لا يمكن الكلام عن سورية من جديد دون ذلك.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.