تؤكد الأرقام التي تنشرها الحكومة السورية حول إنتاج المناطق التي تسيطر عليها من القمح الطري، حجم الكارثة التي يمكن أن تصيب رغيف الخبز، الذي طالما اعتبرته الحكومة لعقود طويلة خطا أحمر. إذ يتوقع مراقبون استمرار الحكومة في خطتها لتقليص الدعم على الخبز، الذي يمكن أن يطال شرائح جديدة من المجتمع السوري.

وفيما لا يمكن أن يغطي موسم القمح الحالي، في أفضل ظروفه، أكثر من 25 بالمئة من حاجة البلاد؛ يواجه خط الاستيراد المباشر للقمح القاسي، من روسيا باتجاه الموانئ السورية مصيرا مجهولا، مع تفاقم الصراع في أوكرانيا.

ونقلت إذاعة “ميلودي إف إم” المحلية، عن مدير الإنتاج النباتي في وزارة الزراعة، أحمد حيدر، أنه لا يمكن إحصاء تقديرات إنتاج القمح لهذا الموسم لعدم الوصول إلى مرحلة “التسنبل” بعد، لكن المساحة المزروعة بلغت 1.2 مليون هكتار، وهي أقل من عام 2021، إذ بلغت 1.5 مليون هكتار.

وأضاف أن التراجع بالمساحات كان في مناطق الزراعة البعلية بسبب تأخر الأمطار والإحجام عن الزراعة البعلية في بداية الموسم، موضحا أن الاعتماد الأساسي في محصول القمح على المساحات المروية، ولا يوجد في مساحاتها المزروعة فارق كبير عن عام 2021.

وفي نفس السياق، أعرب اتحاد الفلاحين عن تخوفه من تأثر محصول القمح بشكل سلبي خلال موسم العام الحالي، باعتبار أن قسما كبيرا من إنتاج المادة يعتمد على السقاية، خاصة المساحات المروية، ما يهدد بتأثير سلبي في حال عدم كفاية الهطولات المطرية للمساحات المزروعة، إلى جانب عدم توفر مادة المازوت.

وبالتوازي، أوقفت روسيا تصدير القمح والشعير وسلع غذائية أخرى إلى الدول الحليفة لها، حيث قالت وزارة الاقتصاد الروسية إن البلاد ستعلّق صادراتها من القمح والجاودار (الشيلم) والشعير والذرة إلى دول الاتحاد الاقتصادي الأوراسي حتى 31 آب/أغسطس، وذلك في خطوة لتأمين سوقها المحلية بما يكفي من الغذاء. ما يثير مخاوف من توقف شحنات القمح التي كانت روسيا تصدرها نحو سوريا.

مأزق الاستيراد من روسيا

يرى الخبير الاقتصادي رفعت عامر خلال حديث لـ”الحل نت” أن مصير العقود التي وقعتها دمشق مع روسيا لاستيراد القمح والتي تكفي حتى نهاية العام الحالي بحسب بيانات رسمية، هي في مهب الريح بسبب الحرب الروسية على أوكرانيا وخسارة الأسواق العالمية 60 بالمئة من استيراد الحبوب من هذين السوقين الروسية والأوكرانية، ما سيؤدي إلى ارتفاع باهظ في أسعارها.

وبالفعل، أعلن المدير العام لـ”المؤسسة العامة لتجارة وتخزين وتصنيع الحبوب”، عبد اللطيف الأمين، أن المؤسسة تنوي التعاقد على توريد 200 ألف طن قمح من الهند، كما أنها تبحث عن خيارات بديلة لاستيراد القمح.

ونقلت صحيفة “تشرين” المحلية عن الأمين، أن المؤسسة تبحث عن خيارات بديلة عن روسيا لاستيراد القمح بسبب ارتفاع أسعارها فقط، مشيرًا إلى أن قرار روسيا بمنع تصدير القمح لا ينطبق على سوريا.

وبحسب الأمين، ارتفعت تكاليف استيراد الطن الواحد من القمح من 317 دولار أمريكي إلى 400 دولار بعد رفع قيمة التأمينات، إلا أن العقود القديمة من روسيا (300 ألف طن) يتم توريدها بالتدريج وبالسعر القديم.

في السياق يتوقع رفعت عامر أنه سيكون “من الصعب جدا للدول الفقيرة والمفقرة كسوريا بسبب الحرب وسوء الإدارة وفسادها تأمين احتياجاتها من أسواق أخرى، بسبب ندرة العملات الصعبة في البنك المركزي وسياسة الحكومة المتجهة تدريجيا للتخلي عن سياسة الدعم لمادة الخبز التي هي آخر ما تبقى لأغلب السوريين للبقاء على قيد الحياة” .

ويضاف لتلك العوامل، بحسب عامر، ارتفاع أسعار الطاقة عالميا ما سينعكس سلبا على إنتاج الحبوب في سوريا التي هي بالأساس تعاني من فجوة هائلة في تأمين القمح سنة بعد أخرى، بسبب الجفاف ونقص اليد العاملة وتراجع الأراضي الصالحة تدريجيا. ومع الأخذ بعين الاعتبار أن 80 بالمئة من إنتاج القمح في سوريا يتركز في مناطق الشمال السوري الذي تسيطر عليه “الإدارة الذاتية”، ومن غير الوارد أن تتمكن الحكومة السورية من شرائها بأسعار التي بدأت بالارتفاع، وقد تصل إلى أرقام قياسية إذا استمرت الحرب الروسية على أوكرانيا فترة أطول.

أما الباحث الاقتصادي يحيى السيد عمر فيستبعد خلال حديث لـ”الحل نت” أن تتوقف إمدادات القمح الروسي إلى سوريا، وذلك كون روسيا ترى في حكومة دمشق ورقة في يدها في ظل التوتر غير المسبوق بينها وبين الغرب، لذلك فهي تحرص على عدم سقوط حكومة دمشق، بل تسعى لتقويتها كونها قد تستثمر في الحكومة خلال مفاوضاتها مع الغرب. و”لذلك وفي ظل هذا الواقع، من المتوقع استمرار تدفق القمح الروسي لدعم الحكومة للسورية ومنع سقوطها”.

وحول خطة الحكومة استيراد شحنات من القمح من الهند، يرى السيد عمر أن عقبات عديدة تقف أمام هذه الخطوة، أولها بعد المسافة والذي يعني تكاليف نقل أعلى وبالتالي تكلفة استيراد أعلى، والحكومة غير قادرة على تحمل أي تكلفة إضافية. بالإضافة لأزمة سلاسل التوريد التي لم تنتهي مفاعيلها حتى الآن، وهي ما تعقد عمليات الاستيراد. لذلك “فالاستيراد من الهند يمكن وصفه بخطة أخيرة في حال توقف الواردات من روسيا. وعموما فمن المستبعد في ظل الظروف الحالية توقف الإمدادات الروسية، ولكن يمكن تقليلها وليس إلغاؤها، فهي ضرورة لروسيا كما هي ضرورة لدمشق”.

و فيما يتعلق بإنتاج الحكومة من القمح الذي يشهد تراجعا كبيرا، فيلمح السيد عمر إلى أنه “حتى وإن كانت الأمطار الحالية قد تعزز الآمال بزيادة الإنتاج، لكن وفي أفضل الظروف لن يتمكن إنتاج الحكومة من القمح على تغطية أكثر من 25 بالمئة من حاجة البلاد، وهذا الأمر يبقي قضية الأمن الغذائي في سوريا في تهديد مستمر، وهو ما يجعل السوريين في تهديد مستمر من مجاعة حقيقية”.

ماذا ينطبق على الحالة السورية؟

اتبعت الحكومة السورية، مؤخرا، آلية جديدة لتوزيع الخبز تنص على اختيار معتمدين من أصحاب البقاليات يحسب عددها على أساس تقسيم عدد البطاقات التي تنتجها الأفران على عدد بطاقات كل محافظة؛ بحيث تكون مخصصات أي معتمد أكثر من 250 ربطة تحت أي ظرف.

ويتم توزيع عدد المعتمدين بناء على الخرائط وعدد السكان في كل حي من الأحياء. وتربط كل مجموعة منهم بفرن حسب طاقته الإنتاجية. على أن يتم البدء بتطبيق في محافظتي دمشق وريف دمشق، ثم تطبيقها على باقي المحافظات.

ويسود الاعتقاد بأن الآلية الجديدة تمهد لرفع تدريجي لدعم الخبز، يكون بمثابة انعكاس لأزمة القمح في سوريا. فالحكومة وفي ظل أزمتها المالية غير قادرة على توفير القمح، لذلك فهو يحاول تقليص كمية الخبز المقدمة للسوريين، بحسب يحيى السيد عمر.

ويوضح الباحث أنه لن يتم رفع الدعم عن الخبز بشكل تام، حتى في ظل توقف إمدادات القمح من روسيا – وإن كان هذا الأمر مستبعداً- نظرا لأن هذه الخطوة تعد انتحارا سياسيا للحكومة في دمشق، ففي ظل مستويات الأجور المتدنية جداً لا يمكن المغامرة برفع الدعم عن الخبز، ولكن يمكن تخفيف فاتورة الدعم من خلال إخراج شرائح جديدة كالأطباء والمحامين وغيرهم، ولهذا الأمر تبعات سلبية لكنها أقل وطأة من رفع الدعم بشكل تام.

يتفق رفعت عامر مع هذه القراءة، حيث يرى أن الحكومة “بالأساس تبحث عن حجج ومسوغات لرفع الدعم عن هذه المادة وغيرها بسبب العجز الحقيقي في ميزانيتها وفقدانها لمصادر تمويل سهلة من الخارج أو من الداخل عن طريق المصادرة والتشليح وغيرها وهي في أشد الحاجة لاستمرار وجود آلتها الحربية والأمنية.لذلك بدأت سياسة التخلي عن الدعم تدريجيا، كما شهدنا تسارعا كبيرا، في السنة الأخيرة، في عملية التخلي عن الدعم. وتعد الحرب في أوكرانيا حجة جاهزة لتمرير خطط الحكومة السورية المتعلقة بمعيشة السوريين”.

في المقابل، وبحسب عامر، ستسعى الحكومة السورية إلى “المحافظة على شعرة معاوية مع من ما تبقى تحت سيطرتها ولكن هذا متوقف على التكلفة التى ستدفعها من هذه الناحية، وهي لا تملك من الاحتياطات ما يكفيها لهذا الدعم”.

ويرى عامر أن من المحتمل أن تحظى دمشق على دعم خارجي يطيل في عمر دعم الخبز، لكن ذلك متوقف على الظروف العالمية. “على كل حال، لن يستطيع أحد التنبؤ بمآلات الحرب، والتضخم العالمي وتعقيداته وانعكاسه على الحالة السورية”.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.