تحقق جلاء القوات الفرنسية عن سوريا 1946، لأسباب خارجية وداخلية، دولية ببروز الاتحاد السوفييتي وأمريكا كقطبين عالميين بعد الحرب العالمية الثانية وتأييد السوفييت بصفة خاصة لقضايا التحرر الوطني والقومي، واندحار بريطانيا وفرنسا وحلفهما في ذلك الحين؛ وداخلياً بسبب كتلة وطنية وشعبية أصرّت على مسألة التحرّر كاملاً وغير منقوصٍ، وعلى نضالٍ وطنيٍّ لم ينقطع، وتعددت أشكاله منذ أن استُعمرت سوريا من قبل فرنسا.

ذكرى الاستقلال، تثير الكثير من المواجع والأشجان؛ فسوريا الآن تقع تحت عدّة احتلالاتٍ، وتدخلاتٍ إقليمية ودولية، وبالتالي يصبح الاحتفاء بالجلاء لاغياً، بينما يبرز السؤال الواقعي، كيف سيتم إجلاء القوات الأجنبية عن بلادنا، وكف أيدي الدول الإقليمية عن التدخل فيها.

المشكلة الأسوأ، أن أسئلة السوريين طالت مفهوم الوطن ذاته، وإذا تجاهلنا الاستطراد العدمي في أن سوريا ليس سوريا بالنسبة للبعض، وأنها جزء من عالم عربي، وهناك من يؤكد أنها إسلامية، والبعض مسيحية، وسواه كثير، فإن الاعتراف بسوريا الحالية ذاته يدور حوله الخلاف أيضاً، عدميٌّ، لأن الخلاف مع النظام ومسؤوليته في مآلات سوريا منذ 2011، يجب ألا يكون على حدود سوريا الحالية وأنها جزء من عالم عربي أو إسلامي، أو على سوريا المواطنين الذين يقطنون فيها “الأكراد، الشركس، التركمان”.

وفي حال أصبح يدور حول ذلك، يصبح الوطن بأكمله في مهب الريح، وتلتغى إمكانية التفكير بأية قواسم مشتركة بين البشر القاطنين في سوريا، وبالطبع المنفيين والمغيبين والمهجرين قسرياً. إن سوريا بوضعها الحالي، ومنذ سايكس بيكو، شُكلت استعمارياً، ولكن لا يمكن تغيير المُشكَلة هذه، وإن محاولات النظام للاعتراف لتركيا بلواء إسكندرون كان خاطئاً، وكذلك إن تمّ التفاوض على الجولان وإلحاقه ب (إسرائيل). إذاً بوجود نظامٍ استبدادي أو ديمقراطي أو سواه، يجب الإقرار بالوطن الموحد ” جمهورية، إمارة.. “، كفاية و مصلحة للسوريين وأن سوريا هي وفقاً للترسيمة التي اشتُقت من سايكس بيكو، وتغييرها نحو التوحيد مع محيطها الإقليمي هي قضية قابلة للنقاش الفكري الواقعي حينما تُستفتى الشعوب العربية وغير العربية، وبالتالي يجب رفض كل تقسيم جديد، وهو، لن يتحقق دون إشرافٍ من الدول المتدخلة. إن التقسيم، ومهما تعاظمت الكراهية بين المناطق المتواجدة “المقسمة” تحت السيطرة الروسية والإيرانية والتركية والأمريكية، لا يمكن أن يكون لصالح “شعوب” تلك المناطق، التي هي شعب سوري واحد، بقوميات متعددة بالمعنى السياسي، ومتعدّد أهلياً بالمعنى بالاجتماعي والثقافي.

هناك فكرة تكثر الأحاديث حولها، ومفادها أن سوريا انقطعت عن التوحد الوطني بعد مجيء البعث للسلطة في عام 1963، وبالأدق بعد عام 1971، والسبب في ذلك أن البعث “العسكري” أحدث قطيعة مع التاريخ “الطبيعي” لسوريا.

 يفوت أصحاب هذه الفكرة، التساؤل البسيط، ولماذا كان سهلاً ذلك الانقطاع؟ الذي هو ليس كذلك، بل سياق طبيعي للأحداث. ولماذا قبل انقلاب البعث 1963، حدثت انقلابات عسكرية متعددة، وكان يمكن أن ينجح إحداها، لو توافرت له شروط داخلية أو خارجية.

 هذه أسئلة أساسية لنفي فكرة الانقطاع الطبيعي “الليبرالية”، وضرورة وصل ما انقطع، وحذف ما بينهما! طبعاً هذا لعب كلامي لا علاقة له بالتاريخ وشروطه، وتحولاته وظواهره، وسيادة بعضها وتلاشي بعضها. إن حدوث تلك الانقلابات، يعني أمراً واحداً، أن الفئة التي وَجدت نفسها في السلطة بعد الاستقلال لم تمتلك مشروعاً تاريخياً، متوافقاً مع حاجات الشعب في التطور العام، اقتصادياً وسياسياً وقومياً ووطنياً، وبالتالي سقطت بسهولة وبسلاسة عبر الانقلابات العسكرية، ثم الوحدة، ثم الانفصال، فانقلاب 8 آذار، فحركة شباط 66، وانتهاء بالحركة التصحيحية، وبداية تشكل الدولة الشمولية.

هذا سياق طبيعي، وليس انقطاع متوهم، رغبوي بامتياز. إن إخفاق ما بعد 1963، كان طبيعياً بدوره، وأنتج برجوازية جديدة، كانت صغيرة مع استلامها السلطة، وتضخمت، وحاولت بعد عام 1991، أن تكون تابعة للسوق العالمية، وتكثف الأمر بعد عام 2000، وفي 2011 انفجر الوضع الاجتماعي بسبب التحولات التي أجرتها السلطة في بنية الدولة، وحولتها نحو دولة رأسمالية نيو ليبرالية بمواصفات سورية طبعاً، وهو حال الدول المتخلفة بعامة.

 إن انقلاب الستينيات، عزّز سيطرة الدولة، وألغى المجتمع سياسياً، وأعاد إنتاج المجتمع القديم بثقافته وطائفيته ودينيته. هنا بدأت الانقسامات الأهلية تتعاظم، ومفهوم الوطن بالمعنى السياسي يتراجع، ولم يعد موجوداً إلا بشكل محدود، ولدى نخب يسارية أو قومية، وبالطبع ظلّ النظام يتبنى القومية والاشتراكية والوطنية كمفاهيم أيديولوجية لإخفاء طبيعته البرجوازية الجديدة، وتحوله نحو اللبرلة، وكذلك لإخفاء استبداديته والفساد والنهب كآليات ناظمة لصيرورته.

صحيح أن حبل الكذب قصير، ولكنه امتد لعدّة عقود، وعاد وانفجر في 2011، ليكتشف السوريون أن انتمائهم لوطنٍ واحد تمَّ تشويهه كثيراً، وأنهم صاروا يُعرفون أنفسهم بالهويات الأهلية! ولم تصمد مقولاتهم الأولى حول الحرية والكرامة، ومناهضة الفساد، حيث تحولت الحرية إلى الحرية الدينية على يد القوى السلفية فالجهادية، وبرأس القائمة الإخوان المسلمون؛ فالحرية حرية الجماعات الدينية الكبرى في استلام السلطة، ولا شيء آخر، والبعض يغرد مزهواً بأن تلك حقيقة الشعب السوري ولم يكن سوى ذلك، وهذا تفكير بائس بامتياز. أيضاً الكرامة أصبحت تعني الشيء ذاته، ولم تظل رغبة المضطهدين تاريخياً في إسقاط النظام، وجعله ممثلاً للمجتمع بكليته، أي استبداله بنظامٍ ديمقراطي. الضخ الإعلامي الخليجي وتركيا، لعبوا دوراً سياسياً، أكملوا به أيديولوجية السلطة، التي تبنتها مع بداية الثورة، بأن السنة قادمون لالتهام الأقليات وتحديداً العلويين. والعكس صحيح، فالقوى الإسلامية والسلفية ولاحقاً الجهادية شربت من النبع نفسه، أي أن السلطة يجب أن تكون للسُنة، وتغير شكل الصراع من شعبي ووطني إلى ديني وطائفي وقومي، وهذا أدّى إلى انقسامٍ وطنيٍّ شديدٍ؛ يستقي منها الكثير من التحليلات “العدمية”.

 هذا الانقسام لم يستطع أطراف الصراع حسمه سريعاً، فكان التدخل الخارجي، والذي لم يرَ الصراع في سورية إلّا طائفياً، ورفضَ أي توجهٍ سياسيٍّ لا ينطلق من ذلك، وظلَّ الأكراد مهمشين في المعارضة السورية، ودخولهم فيها، كان خاضعاً لشروطٍ خاصة بهم أو بالمعارضة العربية، ولم تَسمح الشروط المتعددة باستمرار وجودهم إلّا لأوقات قصيرة، ودائماً من موقع الهامش فيها، وليس وفقاً لتمثيلٍ حقيقيٍّ للوجود الكردي في سوريا.

يمكن القول إن سوريا عانت فعلاً بعد الجلاء من إشكالية عدم تشكل كامل للهوية الوطنية والوطن، ولكن لا يمكن القول إن سوريا بلا هوية جغرافية محددة، أو سياسية محدّدة، أو ناضلت طويلاً من أجل توحيد هويتها، فهذا عبث وعدمية كما قلت. هناك بلد اسمه سوريا، ويعاني فعلاً من انقسامات أهلية، وهي حالة مجتمعات كثيرة، ولكنه يعاني انقساماً سياسياً خطيراً منذ 2011، وهذا انقسام يتغذى من الصراع على السلطة و الاقتصاد والمجتمع والقوميات، ورغم ذلك، نرى أطراف هذا الصراع تؤكد وحدة سوريا، نظاماً ومعارضة، عرباً وكرداً، وبقية القوميات. الكلام الأخير ليس كذباً، ولكنه أيضاً ليس مشروعاً سياسياً تنطلق منه تلك المعارضات أو النظام، فالأخيرة تعمل بالسياسة وفقاً لشروط الاحتلالات والتدخلات الدولية والإقليمية وانطلاقاً من موقعها التابع، وكذلك من تهميش الآخر المحلي، ولا سيما النظام، الذي ما زال لا يعترف بأية ثورة، أو معارضة، أو الشعب بكليته.

هناك سوريا كحقيقة تاريخية مُشكلة، ولا يجوز اكتشاف العجلة من جديد حول ذلك أو جعلها مسألة قابلة للنقاش بشكلٍ عدميٍّ، ولكنها أصبحت بأزمةٍ وطنيةٍ شديدة، وتتطلب بالضرورة مشاريع فكرية وسياسية تلبي مصالح كافة الطبقات الاجتماعية، وهذا لا يمكن تحقيقه بمشروعٍ سياسيٍّ يقول بالديمقراطية فقط! بل بمشروعٍ سياسيٍّ ينطلق من ضرورة إكمال تشكيل دولة حديثة، غير طائفية، ونظام ديمقراطي تمثيلي، وبدور سياسيٍّ للطبقات الشعبية عبر النقابات والأحزاب السياسية والاتحادات وسواها، وأن تكون مصالحها مضمونة في العمل والثروة والاقتصاد، وأن يكون الأخير صناعياً وغير تابع؛ هكذا أفكار يمكن أن تجذب الأكثرية الشعبية، وتتعالى على تسييس الأكثريات الدينية والأقليات الدينية، والإمعان في تخريب البنية الاجتماعية، أكثر مما هي مخربة ومفككة؛ نريد بناء دولة ومجتمع حديث بالفعل، وهو الخيار الحقيقي للسوريين منذ الاستقلال عن العثمانيين وليس الفرنسيين فقط..

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.