يعتبر مصطلح “بنوك الظل” واحدا من أكثر المصطلحات شيوعا وانتشارا في الأدبيات الاقتصادية العالمية، لكنه شيوع وانتشار بنكهة من السلبية الممزوجة بالقلق، فالاسم في حد ذاته يحمل في طياته شعورا بعدم الارتياح وإحساسا بالريبة. فإذا كانت تلك البنوك شرعية فلماذا تتمسك بالبقاء في الظل، وهل في أنشطتها ما يريب ويدفعها لأن تمارس أعمالها في الظل؟

المصطلح لا يرتبط بأي شكل من الأشكال بالشرعية أو عدمها، إنما هي مؤسسات تعد جزءا من النظام المالي، تؤدي وظائف شبيهة بوظائف البنوك مثل الإقراض، لكن لا تطالب بالضمانات ذاتها.

وظهر المصطلح على يد بول ماكولي، الخبير الاقتصادي المدير الإداري السابق لشركة “بيمكو” في 2007، للإشارة إلى المؤسسات غير المصرفية التي تشارك في أنشطة مصرفية مع تدقيق أقل من جانب المنظمين، على الرغم من أن كثيرا من العاملين في هذا القطاع يفضلون مصطلح “التمويل المستند إلى السوق”، إلا أن المصطلح الأكثر انتشارا هو بنوك الظل.

النظام المصرفي

من المؤكد أن الائتمان أو الاقتراض خارج النظام المصرفي ليس من الظواهر الحديثة، إذ وجد دائما مرافقا للبنوك، حتى وإن باتت المصارف العمود الفقري للتمويل الاقتصادي، فقد أدخلت الحكومات قواعد لحماية مدخرات المواطنين، وكبح جماح البنوك والحد من المخاطرة بهدف تحقيق مزيد من الأرباح، وربما شجع ذلك مؤسسات “غير بنكية” على الدخول إلى عالم الإقراض والتمويل، مع تقديم أسعار فائدة أعلى من البنوك وشروط إقراض أيسر.

وبينما يرفع مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي أسعار الفائدة، يحتدم الجدل حول ما إذا كانت دورة التشديد النقدي هذه ستؤدي إلى ركود اقتصادي أم لا؛ حيث يكشف التاريخ أنه منذ الحرب العالمية الثانية كان لتشديد بنك الاحتياطي الفيدرالي مجموعة من النتائج على الاقتصاد، منها الانهيار الشديد والناعم للاقتصاد، وإحداث أزمات مالية في العديد من القطاعات و البلدان، بما في ذلك في كل أزمة عالمية كبرى في العقود الأخيرة، وفق ما أفاد به تقرير لصحيفة “فايننشال تايمز” الأميركية.

ومع الانتشار السريع للإقراض المصرفي والرهن العقاري، غالبًا ما تتجسد أولى علامات الأزمة في ارتفاع ديون الشركات والأسر، التي تتركز في العقارات. ومع ذلك، وصلت هذه المؤشرات اليوم إلى مستويات مقلقة في عدد قليل من الدول، في مقدمتها كندا وأستراليا ونيوزيلندا.

لكن هذا لا يوفر الكثير من الراحة، فقد أدى التدفق المستمر للأموال السهلة من البنوك المركزية إلى تغذية الأزمات المتسلسلة لعقود، فيما يحاول المنظمون عادة معالجة مصادر الأزمة الأخيرة من أجل تحويل الائتمان إلى أهداف جديدة فقط.

وبعد الأزمة العالمية في سنة 2008؛ اتخذت السلطات إجراءات صارمة ضد المصادر الرئيسية لذلك الانهيار – البنوك الكبرى وقروض الرهن العقاري – التي جعلت الأموال السهلة تتدفق إلى القطاعات الأقل تنظيما، لا سيما إقراض الشركات من قبل “بنوك الظل”. في الحقيقة؛ إن القطاعات غير المنظمة هو المكان الذي ستنشأ فيه الأزمة القادمة.

وتشمل بنوك الظل الدائنين من مختلف الأنواع، من صناديق التقاعد إلى شركات الأسهم الخاصة ومديري الأصول الآخرين، وتدير هذه البنوك 63 تريليون دولار من الأصول المالية، مسجلة ارتفاعًا هائلًا من 30 تريليون دولار قبل عقد من الزمن.

وانتشرت الظاهرة التي نشأت في الولايات المتحدة في جميع أنحاء العالم؛ حيث نمت بنوك الظل مؤخرا بشكل أسرع في أجزاء من أوروبا وآسيا.

وجهان لعملة واحدة

الخبير الاقتصادي، جهاد النجار، اعتبر خلال حديثه لـ”الحل نت” بأن بنوك الظل كأي عملة لها وجهان، وغالبا ما ينصب الانتقاد على المؤسسات المالية غير البنكية التي تقوم بعمليات إقراض، ويتم غض الطرف عن الصعوبات والقيود الموجودة في النظم المصرفية الدولية أو المحلية التي لا تساعد الشركات على الاقتراض من القنوات الرسمية.

ويتابع بالقول “الشركات الصغيرة التي تعجز عن الوصول إلى الائتمان المصرفي جزء من المشهد، وتعد ضمن القوى التي تعزز بنوك الظل، فالبنوك عادة تطلب ودائع لمنح القروض، لكن بنوك الظل ربما لا تطلب تلك الضمانات، كما أن بنوك الظل لا تعد منبوذة من النظام المصرفي، فالعلاقة بين القطاع المصرفي المنظم وبنوك الظل قائمة عبر الاقتراض من صناديق رأس المال أو المعاملات المشتقة في صناديق التحوط، ولذلك فإن تلك العلاقة بين الطرفين لا تمثل خطرا في الظروف الاعتيادية، لكن تكون شديدة الخطورة في أوقات الأزمات”.

إحدى المشكلات التي تواجه المتخصصين عند التعامل مع تلك القضية، تتعلق باتساع نطاق المؤسسات التي تدخل ضمن دائرة بنوك الظل، فهي تشمل الوسطاء وغرف المقاصة والصناديق وصناديق الاستثمار وأدوات التمويل، وعمليات الرهونات وما يعرف بالإقراض من نظير لنظير، أي أن تقرض شركة شركة أخرى، بل واتسع نطاق التعريف أخيرا ليشمل تجارة الأعمال الفنية.

كذلك تقوم بدور في المزادات الكبرى، بإقراض عملائها ملايين الدولارات لشراء التحف الفنية لضمان استمرار ازدهار الأسواق، ورغم اتساع نطاق المؤسسات التي تقع ضمن بنوك الظل فإن للاسم قناعات غير إيجابية بحيث لم تنجح محاولة مجلس الاستقرار المالي في إعادة تسمية جميع تلك المؤسسات باسم “وسطاء ماليون غير بنكيين” بدلا من بنوك الظل.

ويبرز التحدي الأكبر في قضية بنوك الظل في أنها في الوقت الذي تساعد فيه على النمو الاقتصادي، توجد حالة من عدم الاستقرار المالي، فزيادة إجمالي رأس المال الذي يمثل وعاء يمكن للمقترضين في أي نظام اقتصادي الاقتراض منه أمر مفيد اقتصاديا، حيث يسمح بتوسيع النشاط الاقتصادي. ولا شك أن زيادة الحاجة إلى رأس المال وعدم قدرة البنوك على توفير تلك الاحتياجات كافة، يحدان من هذا التوسع الرأسمالي، وهذا يحفز نشاط المقرضين غير البنكيين.

تبرز المشكلة في أن كثيرا من هؤلاء المقرضين غير البنكيين يقومون بعملية الإقراض دون أن تكون لديهم مصادر تمويل مستقرة، كما أنهم غالبا أقل تحوطا ضد المخاطر الدولية مقارنة بالبنوك، كما أن عملية الإقراض خارج الأطر البنكية الرسمية تزيد من المعروض من رأس المال ومن ثم تسهم في رفع معدلات التضخم.

في حين ترى الباحثة الاقتصادية، غيداء الشربيني بأن بنوك الظل تعاني مشكلات رئيسة عندما تتعرض الأسواق للضغط، فاغلب بنوك الظل “غير مهيكلة” والإطار التنظيمي لها يتسم بدرجة عالية من عدم التنظيم في هيكل واحد، ولذلك في فترات انخفاض السيولة وعمليات السحب المالي الكبيرة لا تستطيع مواكبة تلك التحديات وتصاب بالارتباك.

فضلا عن أنها لا تمتلك الخبرة في التعامل مع فترات ضعف شروط الائتمان، لأنها في الأساس ليست مؤسسات إقراض، إنما تقوم بأنشطة مالية أخرى، يضاف إلى ذلك أن قنوات تنوع الأرباح لديها لا تتمتع بالتنوع كما هو في النظم البنكية، ولذلك تصاب بخسائر كبيرة عندما تتدهور الأنشطة الرئيسة التي تتعامل فيها.

واقعية اقتصادية

إن الواقعية الاقتصادية تتطلب منا الإقرار بأن بنوك الظل باتت قوة اقتصادية لا يمكن الاستهانة بها، وأنها تتوسع بسرعة، وقد أدخلت إصلاحات ضخمة على هذا القطاع منذ الأزمة المالية 2008، في مسعى لجعل التمويل غير البنكي أكثر أمانا، وليس للخلاص منه، هذا لا يعني أنه تم إغلاق جميع الثغرات، بالطبع لا، لكنها أقل حدة الآن، والإصلاحات المالية التي اتخذت خاصة في الولايات المتحدة جعلت صناديق أسواق المال أكثر استقرارا.

وتستدرك قائلة “لكن هذا لا ينفي أنه في لحظات الأزمات الكبرى يتحمل هذا القطاع جزءا كبيرا من الأزمة، آخذا في الحسبان القوة المالية التي يتمتع بها، إذ في آخر مرة قدر فيها حجم الأصول المالية لهذا القطاع كانت في 2019 وقدرت حينها بنحو 52 تريليون دولار بزيادة 75 في المائة عما كانت عليه في 2010، وبنك التسويات الدولية أشار إلى أن التمويل غير المصرفي يمثل الآن ما يقرب من نصف جميع الأصول المالية في العالم، أي نحو 160 تريليون دولار مقارنة بإجمالي الأصول المالية البالغ 340 تريليون دولار على مستوى العالم، لكن بنك التسوية أدخل في هذا المقياس صناديق التقاعد وشركات التأمين والمؤسسات المالية الأخرى ضمن تعريفه لبنوك الظل، موسعا بذلك ماهية بنوك الظل بشكل كبير، تلك القوة المالية توفر مخزونا ماليا ضخما للغاية، لكن في الوقت ذاته تشكل خطرا كبيرا في لحظة تدهور ظروف الائتمان”.

ويعتقد عدد من الخبراء أن قطاع التمويل غير البنكي أو بنوك الظل ستشهد مزيدا من التوسع خلال الفترة المقبلة لعديد من الأسباب.

إن بنوك الظل ستواصل الانتعاش نتيجة الوضع الاقتصادي، والحرب الروسية – الأوكرانية التي سينجم عنها كثير من المصاعب الاقتصادية والمالية الدولية، وستكون عملية الاقتراض من المؤسسات البنكية أمرا شديد الصعوبة خاصة للشركات الصغيرة، التي سيصعب على كثير منها الوفاء بالشروط التي ستطلبها البنوك للاقتراض، تلك الشركات ستتجه غالبا إلى مؤسسات الإقراض غير الرسمية.

إن التطورات التكنولوجية في عالم المال تسهم أيضا في انتعاش قنوات الإقراض خارج النظم المصرفية، إذ تلاحظ زيادة دولية في الإقراض العقاري غير المصرفي نتيجة سهولة التواصل مع المقرضين غير البنكيين عبر الإنترنت، وكذلك في إقراض الطلاب وبعض القروض الاستهلاكية، وجميعها ازدادت سهولة نتيجة تنامي الشبكة العنكبوتية.

يرى خبراء اقتصاديون بأن الواقعية الاقتصادية تتطلب عدم الاصطدام ببنوك الظل، مع مطالبتها بمزيد من الشفافية المالية والإدارية، خاصة لتوضيح روابط العلاقة بينها وبين النظام المصرفي، مع مطالبة الجهات المسؤولة عن تنظيم القطاع المالي بتنظيم أكثر صرامة لبنوك الظل، بعد أن باتت أكثر أهمية من أي وقت مضى، في معظم عمليات التمويل الأساسية.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.