تثير إجراءات حكومة دمشق الأخيرة حول ملف المعتقلين السوريين، ووقف الملاحقات الأمنية، والتي سبقها مرسوم يجرّم التعذيب، ثم تعيين وزير دفاع لا يخضع لعقوبات دولية، إشارات استفهام عديدة، سواء فما يتعلق بتوقيتها، والذي جاء عقب زيارة خاطفة أجراها الرئيس السوري بشار الأسد إلى الإمارات؛ أو حول فعاليتها السياسية. على اعتبار أن بعض المراقبين اعتبروها خطوة أولى من حكومة دمشق باتجاه مطالب المعارضة، تنتظر مقابلها خطوة مماثلة من المعارضين.

وكان الأسد قد أصدر، في نهاية نيسان/أبريل من العام الحالي، مرسوما يقضي بتعيين اللواء الركن علي محمود عباس، الذي ينحدر من قرية إفره في وادي بردى بريف دمشق، وزيرا للدفاع، بدلا من العماد علي أيوب، الذي شغل المنصب منذ الثاني من كانون الثاني/يناير 2018.

وفي بداية أيار/مايو الماضي بدأت دمشق بالإفراج عن بعض من المعتقلين السوريين، بموجب قرار عفو عام. إذ تم الإفراج عن 527 معتقلا فقط، من أصل قرابة مئة واثنين وثلاثين ألفا، بحسب إحصاءات الشبكة السورية لحقوق الإنسان.

وتزامنت عمليات الإفراج عن المعتقلين مع مرسوم تشريعي، يقضي بمنح عفو عام عن الجرائم الإرهابية، التي ارتكبت قبل تاريخ الثلاثين من نيسان، عدا تلك التي أفضت إلى موت إنسان. إضافة لإلغاء وزارة العدل السورية جميع البلاغات والإجراءات، المستندة إلى الجرائم المنصوص عليها في قانون الإرهاب، الصادرة بحق جميع المواطنين السوريين في الداخل والخارج، “ما لم يتسبب فعلهم بموت إنسان، أو يثبت استمرار انتمائهم إلى تنظيمات إرهابية، أو ارتباطهم بدول أخرى”، بحسب تعميم الوزارة.

ملف المعتقلين السوريين والتطبيع مع الدول العربية

الكاتب والمحلل السياسي فراس علاوي يضع، خلال حديثه لـ”الحل نت”، الإجراءات الأخيرة، التي أقدمت عليها حكومة دمشق في ملف المعتقلين السوريين، ضمن سياق المتغيرات الدولية والإقليمية الراهنة. معتبرا أنها “استجابة للشروط، التي وضعت أمام دمشق، مقابل عودة التطبيع العربي معها”.

ويوضح علاوي أن “حكومة دمشق تسعى لتحقيق مكاسب عديدة من هذه الإجراءات، على أكثر من محور. إذ كانت هناك شروط لإعادة تعويم الحكومة السورية، وعودة دمشق إلى الجامعة العربية، من خلال المبادرة الإماراتية-الأردنية، التي تسعى لاستعادة دمشق من الحضن الإيراني. ما يعني أن دمشق وضعت الكرة الآن، من خلال ملف المعتقلين السوريين والإفراج عن عدد منهم، في ملعب المعارضة والجهات الضامنة لها”.

الكاتب الصحفي إياد الجعفري يتفق مع هذه القراءة، مؤكدا، خلال حديث لـ”الحل نت”، أن “دمشق تحاول تلطيف الأجواء وتلميع نفسها أمام الغرب ودول المنطقة، التي تدعو للانفتاح على الحكومة السورية. فهي تخشى أن تتحمل تداعيات التوتر بين الغرب وروسيا، خاصة أنها اضطرت لإظهار دعمها العلني للروس في غزوهم لأوكرانيا”.

ويضيف أن “دمشق تحاول دوما إبقاء الحبال موصولة مع كل الأطراف، حتى تلك التي تعد خصوما لها. وفي الوقت نفسه، تحاول أن تعزز حجة الدول المنادية بجدوى التطبيع معها في المنطقة، من خلال محاولة تجميل نفسها، كي تستطيع تلك الدول أن تجادل الغرب والدول الأخرى، التي لا ترحب كثيرا بالانسياق بعيدا في التطبيع مع دمشق. وفي هذا السياق يمكن قراءة التطورات الأخيرة في ملف المعتقلين السوريين”.

ماذا عن موقف واشنطن من التطورات في ملف المعتقلين؟

إلا أن فراس علاوي يعتقد أن التطبيع العربي مع حكومة دمشق ما يزال صعبا. إذ أنه “مع زيارة الأسد إلى طهران يمكن القول إن جهود المبادرة الإماراتية-الأردنية تمر بعوائق ومشكلات، تسببت بها الزيارة، التي كان الأسد يحاول من خلالها الحصول على موافقة طهران لعودته إلى الجامعة العربية”. حسب تعبيره.

في حين يستبعد الجعفري أن “تأتي خطوات دمشق حول ملف المعتقلين السوريين في سياق مبادرة وافقت عليها واشنطن”. موضحا أن “الأسد ربما ناقش خطواته تلك مع قادة الإمارات، في زيارته إلى هناك قبل أسابيع. لكن هذا لا يعني بالضرورة أن واشنطن موافقة على هذه الخطوات. فالأميركيون الآن يركزون على صراعهم مع روسيا. لذلك لا أعتقد أنهم سيتعاملون مع إجراءات دمشق الأخيرة، بوصفها مندرجة في سياق “خطوة مقابل خطوة”، أي الاستراتيجية الأميركية، التي تحاول دفع كل من السلطة والمعارضة لتقديم تنازلات متبادلة. لأن هذه الاستراتيجية اعتمدها الأمريكيون مع الروس، وليس مع الحكومة السورية، وهي استراتيجية قد تتعرض للإجهاض نتيجة تفاقم التوتر بين الغرب وموسكو، على خلفية غزو الأخيرة لأوكرانيا”.

ويعتقد الجعفري أن “المنعطف المنتظر في هذا السياق قد يكون استحقاق تمديد تمرير المساعدات عبر الحدود في تموز/يوليو القادم، وهو استحقاق ألمحت روسيا بأنها ستستخدم الفيتو ضده. وهذه المرة، من المرجح أن تفعل ذلك، إلا إذا استجد تطور ما، يخفف من التوتر على خلفية الأزمة الأوكرانية، وهو أمر مستبعد في المدى المنظور”.

مقالات قد تهمك: مصادرة أموال المعتقلين السوريين: جانب من اقتصاد الحرب الذي تتقاسمه دمشق وطهران

السيناريوهات المحتملة بين الحكومة والمعارضة

فراس علاوي يشير إلى أن “دمشق تعتبر أنها، عبر تساهلها النسبي في ملف المعتقلين السوريين، قد خطت الخطوة الأولى، وعلى المعارضة أن تقابلها بخطوة مماثلة”. مرجحا أن “تكون خطوة المعارضة القبول باللامركزية الإدارية، التي تعني أن قوى الأمر الواقع، أي حكومة دمشق، إيران، قسد، الجيش الوطني، هيئة تحرير الشام، ستدير مناطقها بشكل محلي/لامركزي، مع بعض التغييرات، التي يمكن أن تطال تلك القوى”.

وحول الخطوات اللاحقة، يعتقد علاوي أن الحكومة السورية “ستعمل على إعادة ترتيب بنيتها وفقا لعوامل متعددة، تتعلق بتطورات المشهد السياسي، وإملاءات طهران، ومصير الوجود العسكري الروسي على الأراضي السورية. في حين ستفقد قوى المعارضة قوتها الإقليمية تدريجيا، وبالتالي تتحول إلى قوى محلية”.

بينما يستبعد إياد الجعفري أن “تكون هناك خطوات مقابلة من جانب المعارضة، ردا على إجراءات حكومة دمشق في ملف المعتقلين السوريين، فأميركا تحديدا تركز الآن على سيناريو آخر بديل، وتحاول استكشاف إمكانية تنفيذه، ومفاده جسر الهوة بين قوات سوريا الديمقراطية والمعارضة المدعومة تركياً. ويؤكد ما سبق قرار استثناء مناطق بالشمال السوري من عقوبات قانون قيصر، بما فيها مناطق ريف حلب الشمالي، الخاضعة لفصائل مدعومة من تركيا، في إشارة أميركية إلى تركيز واشنطن على خيار إعادة إعمار المناطق الخارجة عن سيطرة دمشق، والرهان عليها بوصفها مساحة مستقلة عن الحكومة السورية”.

وبناء عليه، لا يرجح الجعفري أي تغير محتمل في بنية حكومة دمشق، مشيرا إلى أن “الفترة القادمة ستحكمها معادلة تراجع النفوذ الروسي لصالح نظيره الإيراني، داخل المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة السورية. وسيتطلب الأمر بعض الوقت، كي نرى كيف سيُترجم فائض النفوذ الإيراني الجديد، خاصة في ضوء ضبابية مصير إعادة إحياء الاتفاق النووي بين طهران والدول الغربية”.

أما بالنسبة لبنية المعارضة، فيشير الجعفري إلى “السيناريو الأميركي، المتعلق باستثناء مناطقها من عقوبات قيصر، والذي يعد طموحا، نظرا لفشل التجارب السابقة لمحاولة توحيد فصائل المعارضة، سياسيا، على الأقل، كما أن الرهان على حصول توافق أميركي–تركي، ينهي عوامل الخلاف العميقة بين الطرفين، قد يكون أيضا رهانا طموحا”.

ويختتم الجعفري حديثه باقول: “قد تكون التوافقات في المرحلة المقبلة مرحلية، كما كانت سابقا، نظرا للمشاكل الكثيرة بين أنقرة وواشنطن، بانتظار ما سيحدث في تركيا خلال الانتخابات النيابية والرئاسية في العام المقبل، والتي تعد مصيرية للحزب الحاكم في أنقرة”.

ووسط كل هذه المعادلات المعقدة يبقى ملف المعتقلين السوريين عالقا، لا يحرك من جموده كثيرا إطلاق سراح عدد محدود من المغيبين في سجون حكومة دمشق.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.