يشير خبراء اقتصاديون إلى أن موسكو، وعلى الرغم من فشل رهانها على قبول الغرب ودول خليجية بالمشاركة في إعمار البلاد، لا تزال متحمسة لمواصلة الاستثمار في سوريا. ويمكن للعقوبات الغربية التي فرضت على خلفية الغزو الروسي لأوكرانيا، أن تحفز موسكو على مزيد من الانفتاح الاقتصادي على الدول المعاقبة مثل سوريا، ما يعني أن انفتاحها الاقتصادي على سوريا سوف يزيد، بالتوازي مع عدم اكتراثها بالعقوبات الغربية.

بدأت أولى الاستثمارات الروسية في سوريا من خلال اتفاق في العام 2013 مع شركة “سيوزنفتاغاز” الروسية، من أجل الحفر والتنقيب عن النفط والغاز في منطقة قبالة الساحل السوري، وفق عقد يستمر لمدة 25 عاما.

وفي كانون الثاني/يناير 2018، وقّعت موسكو اتفاقا ثنائيا مع دمشق، حصلت بموجبه على حقوق حصرية لاستخراج النفط والغاز، تلاه تصريح لوزير الطاقة الروسي ألكسندر نوفاك، بأن موسكو وقّعت “خريطة طريق” مع سوريا حول “ترميم حقول النفط وتطوير تراكمات طبيعية جديدة”.

وفي شباط/فبراير 2018، وقعت روسيا اتفاقا مع الحكومة السورية للاستثمار في قطاع الفوسفات السورية لمدة 50 عاما.

وفي آذار/مارس 2018، استحصلت شركات روسية على عقود مسبقة لتنفيذ مشاريع لتوليد الطاقة في حمص، وسكة حديد تربط مطار دمشق الدولي بوسط المدينة.

وفي 20 نيسان/أبريل 2019، أعلنت روسيا عن ترتيب عقد مع الحكومة السورية يتضمن استئجار ميناء طرطوس لمدة 49 عاما، بحسب نائب رئيس الوزراء الروسي، يوري بوريسوف، الذي أضاف بحسب وكالة “تاس” الروسية، أن الميناء سيتم استخدامه من قبل قطاع الأعمال الروسي، وسينعكس إيجابا على التبادل التجاري بين البلدين، كما أنه سيخدم الاقتصاد السوري.

و تلاه تصريح لوزير النقل السابق في الحكومة السورية علي حمود في 25 نيسان، أن العقد مع الشركة الروسية بشأن مرفأ طرطوس هو عقد استثمار لا استئجار. وقد وُقّع مع شركة “ستروي ترانس غاز” الروسية الخاصة، لمدة 49 عاما، وكان مضمون العقد، هو استثمار لشراكة في إدارة وتوسيع وتشغيل مرفأ “طرطوس” وفق نظام عقود التشاركية بين القطاع العام والخاص المعمول به في سوريا.

العقوبات الغربية تحفز الانفتاح الروسي على سوريا

يؤكد كرم شعار، مدير الأبحاث في “مركز السياسات وبحوث العمليات” خلال حديث لـ”الحل نت” أن “موسكو لم تنفض يدها من الاستثمار في سوريا، وهنا يمكننا تقسيم الاستثمارات الروسية داخل سوريا إلى ثلاثة أنواع. استثمارات أقرب إلى وضع اليد، كما في القطاع النفطي، “تعلم روسيا أنها لن تستطيع الاستثمار فيها حاليا لكنها تأمل بتغير الوضع ورفع العقوبات لاحقا وبالتالي، وحينها يمكنها مباشرة الاستثمار فيها”.

هناك بالمقابل استثمارات تستفيد منها روسيا حاليا اقتصاديا ولكن بشكل محدود ومن ضمنها البتروكيماويات، الفوسفات، ومرفأ طرطوس التجاري. أما النوع الثالث من الاستثمارات يتعلق بمرفأ “طرطوس” العسكري وقاعدة “حميميم”، وهي استثمارات عسكرية وسياسية أكثر من كونها اقتصادية ولن تتخلى عنها روسيا مالم يتم لي ذراعها بشدة.

وبناء عليه، يلمح شعار إلى أن الشركات الروسية لن تغادر الأراضي السورية. وكون روسيا منشغلة بالحرب في أوكرانيا ومعاقبة غربيا سيجعلها ذلك تنفتح أكثر على الدول المعاقبة مثل سوريا، ما يعني أن انفتاحها الاقتصادي على سوريا سوف يزيد بالتوازي مع عدم اكتراثها بالعقوبات الغربية، وفق تعبيره.

وبالموازاة، لا يتفق شعار مع الفرضية التي تقول بأن روسيا تخفف وجودها العسكري في سوريا في ظل انشغالها بالحرب في أوكرانيا. إذ “لا توجد لدينا أدلة على ذلك. نعم، روسيا تعتمد على مقاتلين اكتسبوا خبرة خلال الصراع في سوريا، ما يجعلها تعمل على سحبهم مقابل زج مقاتلين آخرين أقل خبرة في سوريا عوضا عنهم، كون الصراع في سوريا مجمد حاليًا. غير أنه ما من مؤشرات توحي بانسحاب روسي من سوريا”.

لا خسائر روسية لانغماسها في “استثمارات ريعية”

ويرى الباحث الاقتصادي يحيى السيد عمر خلال حديث لـ”الحل نت” أن روسيا “حتى الآن لم تخسر أي مبالغ في سوريا، وعلى مستوى تكاليف التدخل العسكري استعادت جزءا كبيرا منه عن طريق سيطرتها على حقول النفط والغاز الواقعة في مناطق سيطرة دمشق، وكذا على الموانئ، لذلك فروسيا لن تخسر خسارة حقيقية في حال فشلت رهاناتها على تمويل خليجي أو غربي لعملية إعادة الإعمار، فهي لم تستثمر في البنية التحتية ولم تقدم أي شيء، لذلك فليس لديها ما تخسره”.

ويرى السيد عمر أن تأثير تنامي الضغوط الاقتصادية الغربية على الاستثمارات الروسية في سوريا، سيبقى محدودا كون هذه الاستثمارات تعد محلية ولا بعد دولي لها، كما أنها استثمارات ريعية تعتمد بشكل رئيس على موارد الطاقة التي تستهدف السوق المحلي السوري، لذلك يبقى تأثير العقوبات محدود نسبيا.

وفيما يتعلق بتأثير الانكفاء الروسي في سوريا على خروج الشركات الروسية، يرجح السيد عمر حدوث ذلك ولكن بدرجة بسيطة، فالشركات الروسية لا تمتلك ذاك الانتشار الواسع في سوريا، وغالبيتها شركات رابحة كالشركات المستلمة إدارة مرفئ طرطوس وإدارة المنشآت النفطية، فهذه الشركات لن تنسحب من سوريا.

وفي المقابل، يعتقد السيد عمر بتأثير الحد من الوجود العسكري الروسي (الذي يتم تداوله عبر وسائل الإعلام) في سوريا على طموحات روسيا الاقتصادية في البلاد، فهي تؤثر كونها تفسح المجال أمام إيران لتعزيز حضورها الاقتصادي، ففي السنوات السابقة استحوذت روسيا على غالبية الموارد السورية في ظل انكفاء واضح لإيران، والمتغيرات الجديدة قد تكون في صالح إيران.

ولا يخفي السيد عمر إمكانية انسحاب بعض الشركات الروسية ذات الوجود الرمزي من سوريا، و “هي شركات لم تنفذ استثماراتها بعد، كشركات السدود والكهرباء والمطاحن وغيرها، كونها ليست موجودة في سوريا وجودا حقيقيا، ولا تملك تجهيزات ومعدات ورأس مال حقيقي، بل تملك مكاتب تمثيل ليس إلا، لذلك فانسحاب هذه الشركات ليس انسحابا بالمعنى الحقيقي كونها ليست موجودة وجودا تاما، بل وجود رمزي ليس إلا”.

فشل مساعي إعادة الإعمار

في العام 2018، حاولت موسكو تحفيز الغرب وبعض الدول الخليجية على الاستثمار داخل سوريا، وذلك بغية تزويد دمشق بالموارد الاقتصادية التي تحتاج إليها لإعادة إعمار سوريا.

وفشلت المساعي الروسية التي بدأت في 19 تموز/يوليو 2018 في استقطاب الاستثمارات الأميركية إلى عملية إعادة الإعمار السورية. فبعد أن وجّه رئيس هيئة الأركان العامة في القوات المسلحة الروسية، فاليري غيراسيموف، مذكّرة إلى نظيره الأميركي جوزف دونفورد ناشد فيها الولايات المتحدة الاستثمار في جهود إعادة الإعمار التي تبذلها دمشق، في حين تم رفض الطلب الروسي من قبل واشنطن، التي تشترط حدوث انتقال سياسي قبل أي حديث عن إعادة الإعمار.

كذلك باءت مساعي موسكو لحث الأوروبيين على المساهمة في إعادة الإعمار، فواجهت موسكو فشلا ذريعا مع المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل، فقد عرض بوتين خلال الاجتماع بالمستشارة الألمانية في 18 آب/أغسطس 2018، التخفيف من العبء الشديد للاجئين السوريين على أوروبا مقابل مشاركة أوروبا في عملية إعادة الإعمار. وفي المقابل لم تلتزم ألمانيا بهذه العملية التي يقودها الأسد.

وانتهت محادثات مماثلة مع السعودية بنتائج مطابقة، حيث ترفض الرياض أي استثمار في المناطق التي تسيطر عليها دمشق كونها تعتقد بـ”عدم شرعية الأسد”. كما نفت في 26 كانون الأول/ديسمبر 2018، مزاعم الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب عن أن المملكة وافقت على تمويل إعادة الإعمار في سوريا.

ويقول كرم شعار إن روسيا فشلت فعلا في رهانها على قبول الغرب ودول الخليج بالوضع القائم في سوريا والمشاركة بإعادة الإعمار، خلافا لما يؤكده بعض المحللين الذي يشيرون إلى أن قطار التطبيع مع دمشق لا يزال يسير بسلاسة.

ويضيف بأنه يعتقد “أن ملف التطبيع تمت عرقلته بشكل واضح، والدليل على ذلك الضغط الذي مورس على إدارة الرئيس بايدن على سبيل المثال لإيقاف صفقتي خط الغاز العربي واستجرار الكهرباء الأردنية نحو لبنان عن طريق سوريا”.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.