مع دخول موسم الحصاد في سوريا، تبرز مشكلة المحاصيل الزراعية الموسمية على السطح، وتزداد المشكلة تعقيدا مع إعلان معظم المزارعين عدم جدوى الحصاد.

بتاريخ 28 حزيران/يونيو الفائت كتبت “Reef-Up” وهي منصة تدعم الابتكار في الريف السوري وتسعى لإيجاد سبل عيش مستدامة واقتصاد مستدام، تابعة لمكتب الأمم المتحدة الإنمائي في سوريا، وقالت بأن محاصيل وحقول القمح في سوريا تتحول إلى أماكن لرعي الأغنام بسبب الجفاف الناجم عن التغيرات المناخية. هذا التصريح يعكس زاوية ضيقة من التداعي الحاصل في إنتاج الحبوب بشكل عام في جميع المناطق السورية.

خلال السنوات الماضية التي عاشت فيها مناطق عدة من الريف السوري حالة من الحروب والمعارك، تراجع إنتاج الحبوب لأقل من 50 بالمئة من معدل الإنتاج في سنوات ما قبل الحرب. كذلك كان للأثر البيئي والمناخي دور مهم في تقلص مساحة الأراضي القابلة للزراعة في السنوات العشر الأخيرة.

مواسم إنتاج الحبوب شحيحة

يقول جمال الأحمد وهو مزارع في الجنوب السوري “يعاني المزارعون حاليا من انعدام المواد الأولية اللازمة لزراعة المحاصيل الموسمية في كل المناطق على حد سواء. ينتج الدونم الواحد في حال الظروف المثالية والأمطار الكافية بين (150- 200) كغ من القمح أو الشعير، وبين (75-125) كغ من الحمص او البقوليات، أما زراعة الذرة الصفراء فهي بحاجة للري، وقليل ما يرغب المزارع بزراعتها رغم أنها تحقق عائدا جيدا، بسبب عدم توفر مادة المازوت (الديزل) الذي يجعل من الريّ أمرا مستحيلا هذه الأيام”.

ويضيف خلال حديثه لـ”الحل نت”، “أما من ناحية التكاليف، فنحن بحاجة لمواد أساسية أولها البذار، وهناك تقصير من المصرف الزراعي ومن مديرية الزراعة في تأمين البذار، ومن دون بذار ذا جودة مرتفعة لا يمكن أن يحصل المزارع على موسم جيد، وتأمين هذه المادة من السوق السوداء تحمل المزارع ضعفي التكلفة، بالأخص عندما تلزمنا القوانين والأنظمة بتسليم المحصول كاملا لمؤسسة الحبوب، ومنعنا من بيعه في السوق السوداء، وهنا تنجم خسائر كبيرة من فارق سعر شراء البذار وسعر بيع المحصول. أما بالنسبة للأسمدة، فمشكلة تأمين السماد لا تقل صعوبة عن تأمين البذار، وتبلغ تكلفة تسميد الدونم الواحد بين (30-60) دولار أميركي حسب خصوبة الأرض ومعدل الأمطار، والانتاج لا يغطي هذه الكلفة بأي شكل، لذلك نلجأ للزراعة بدون سماد وهذا بدوره يخفض كمية الناتج الإجمالي من المحصول”.

فضلا عن الأجور المرتفعة وكلفة حراثة الأرض والعمل بها حتى يحين موسم الحصاد، فقد تضاعفت كلفة حراثة الدونم الواحد حتى وصلت (15000) ليرة كأجور وتكلفة حراثة للدونم الواحد، وبهذا يلزم لزراعة مئة دونم مبلغ يقارب المليون ونصف المليون ليرة سورية، هذا إن وجد وقود للجرارات!.

ويتابع الأحمد حديثه بالقول “إذا عرجنا على أجور الحصاد، في ظل عدم توفر الأيدي العاملة التي تعمل في الحصاد، وارتفاع أجور الحصادات الآلية، نكون أمام معضلة جديدة في عالم الزراعة، فحصاد البقوليات (حمص، فول، عدس) وكذلك حصاد (الكمون، والسمسم) يحتاج إلى أيدي عاملة تمتلك خبرة بالحد الأدنى بحيث لا تفرط بحبوب المحصول أثناء الحصاد، وبحاجة أجواء تتوفر فيها رطوبة مرتفعة، وهذه الأجواء تكون في ساعات الفجر الأولى، وتصبح الأجواء غير مناسبة للحصاد مع اشتداد أشعة الشمس، ويحجم العمال عن العمل في ساعات الفجر ويطلبون أجور أعلى مما يزيد من كلفة الإنتاج”.

ويزيد بالقول “كذلك تؤثر أزمة الوقود والمحروقات على التنقل والنقل، مثلما تؤثر على تكلفة وإيجار الحصادات الألية، والتي تستخدم لحصاد محصولي القمح والشعير والذرة، وبلغت كلفة حصاد الدونم الواحد عشرين ألف ليرة سورية. وبحساب بسيط للكلفة والانتاج نكون بحالة خسارة فادحة، وعجز عن تغطية التكاليف، هذا إن افترضنا أن الظروف البيئية مواتية ومعدلات الأمطار مناسبة لزراعة الحبوب، أما في حال عدم توفر أمطار كافية وثلوج لتغذية الأرض بالمياه، فيصبح بيع المحصول لرعاة الأغنام أمرا لا غنى عنه، قد يعيد لنا بعض التكاليف التي صرفناها والحؤول دون المزيد من الخسائر”.

التغير المناخي وأثره على المحاصيل الزراعية

تشير معظم التقارير والدراسات إلى أن قطاع الزراعة في سوريا قد انكمش نتيجة الحرب وكان الأثر الأبرز على زراعة الحبوب، فقد تراجع الناتج الإجمالي من الحبوب بين عامي 2013 و2022 إلى أقل من النصف، ولكن الحرب وهجرة الأرياف لم يكونا من الأسباب المباشرة لتراجع هذا القطاع. فهناك التغير المناخي، وشح الأمطار كان لهما الأثر الأبرز في تقلص المساحات المزروعة بالحبوب.

ونورد هنا لمحة عن المناطق والأراضي القابلة والتي تستثمر في زراعة الحبوب في سورية (حسب الهيئة العامة للبحوث العلمية الزراعية). منطقة الاستقرار الأولى: تشكل حوالي 14.6 بالمئة من مساحة البلاد معظمها في المنطقة الساحلية، وتتميز بتجاوز معدل الأمطار حتى عتبة 350 مم في السنة. وأهم محاصيل هذه المنطقة فهي الحبوب، الخضروات، المحاصيل الصيفية، والأشجار المثمرة من الحمضيات واللوزيات.

منطقة الاستقرار الثانية: بمساحة تعادل 13.3 بالمئة من الأراضي السورية بمعدل أمطار سنوي بين 250 إلى 350 مم. في الواقع، تتوزع أراضي هذه الفئة في المناطق الشمالية الغربية، وأهم محاصيلها الحبوب من البقوليات والأشجار المثمرة كالزيتون والكرمة.

منطقة الاستقرار الثالثة: تغطي 7.1 بالمئة من مساحة الدولة، ويصل معدل الأمطار فيها إلى 250 مم في السنة. وأبرز المحاصيل في هذه المنطقة فهي الشعير والبقوليات.

منطقة الاستقرار الرابعة: تشكل حوالي 9.9 بالمئة من مساحة الأراضي الزراعية، إذ يتراوح معدل أمطارها السنوي بين 200 و250 مم. كما تشتهر هذه المنطقة بزراعة الشعير بشكل عام.

منطقة الاستقرار الخامسة: تغطي وحدها ما يزيد على نصف مساحة البلاد، حيث تتجاوز مساحتها 55% من الأراضي السورية. تمتد هذه المنطقة ضمن منطقة البادية في الجنوب الشرقي على الحدود الأردنية والعراقية. يبلغ معدل الأمطار حوالي 150 مم في السنة، لذلك فهي غير صالحة للزراعة وتستخدم بشكل أساسي كمراعي للأغنام.

وحول ذلك تقول المهندسة الزراعية إيناس بلال، لـ”الحل نت” وهي المختصة في الزراعات الموسمية “باتت المخاطر البيئة تهدد كل شيء في حياة الإنسان (غذاء وماء)، ولا نستطيع فصل الآثار البيئية السلبية عن الآثار الاجتماعية. التغير المناخي لا يؤثر على المزارعين بشكل مباشر، فالمزارع يحجم عن زراعة أرضه في حال تدني مستويات الأمطار، وتبقى أرضه دون زراعة، أي لا تستثمر، ولكن هذا ما ينعكس سلبا على الإنتاج الوطني من المحاصيل الزراعية وعلى رأسها الحبوب”.

خلال العقد الماضي تقلصت مساحات الأراضي وتراجعت مساحات كبيرة من مناطق الاستقرار الأولى والثانية بنسب لا تقل عن عشرة بالمئة من هذه المساحات، فمثلا منطقة الاستقرار الأولى والثانية خرج منها مساحة لا تقل عن عشرة بالمئة منها وتحولت لمنطقة الاستقرار الثالثة، وهذه النسبة تعني ان عشرات آلاف الهكتارات أصبحت في منطقة استقرار زراعي أقل تصنيفا، وبالتالي أقل إنتاجية.

وكذلك انخفض مستوى أنهار كانت تستخدم في الزراعة وجفت آبار ومصادر مياه كثيرة، مما أثر على إمكانية ريّ محاصيل الحبوب الموسمية وبالأخص الذرة الصفراء. وهنا يجب أن ننوه إلى تكاليف الريّ المرتفعة بسبب غلاء المحروقات والوقود وتدني مستويات الأنهار والحاجة لرفع المياه بالمضخات الألية، وتوجه المزارعين لزراعة الخضراوات التي تأتي بعوائد أكبر بالمقارنة مع زراعة الحبوب.

وتضيف المهندسة “كان إنتاج القمح قبل عقد واحد من الزمن يصل ل(4.6) مليون طن سنويا و هذا يشكل اكتفاء ذاتي من مادة القمح، أما إنتاج الشعير فوصل قبل عقد لحوالي (2) مليون طن، وإنتاج العدس وصل (200000) مئتا ألف طن، وإنتاج الحمص (150000) مئة وخمسون ألف طن سنويا، وإنتاج الفول الحب وصل (50000) خمسين ألف طن والذرة الصفراء والبيضاء بلغ الإنتاج تقريبا (300000) ثلاثمئة ألف طن وكان هناك إنتاج لا بأس به من مادتي القطاني والبيقية وهي أعلاف للحيوانات والدواجن. أما اليوم وبعد عقد من الزمن تدنى الإنتاج لأقل من النصف في المجمل”.
يعود هذا التدني حسب المتحدثة إلى شح الأمطار التي من أبرز أسبابها تقلص المساحات من الغطاء الأخضر والغابات والأحراج.

أما عزوف الفلاحين عن زراعة هذه المحاصيل حسب المتحدثة فهو بسبب تدني أسعارها بالمقارنة مع التكاليف وتحويل أراضي واسعة من زراعة الحبوب إلى زراعات أخرى كالخضراوات والأشجار المثمرة، وتعزو المتحدثة تدني حجم المحاصيل من الحبوب لهذا.

كذلك نوهت المهندسة لما أسمته “هدر الأراضي القابلة للزراعة”، بحيث تحولت أراضي زراعية الى مناطق سكنية ودخلت المخططات التنظيمية للمدن والبلدات المجاورة لها، وأصبحت الكتل الاسمنتية والطرق تقضم هذه المساحات بشكل مرعب.

وأضافت: “هناك بعض الأراضي تحولت زراعتها من زراعة الحبوب والمحاصيل الموسمية لزراعة الأشجار المثمرة، وهناك مساحات أخرى استثمرت في مشاريع سكنية أو سياحية. كل هذا أثر بشكل ما على إنتاج الحبوب، ولا يوجد أرقام وإحصاءات دقيقة عن المساحات التي خرجت من الخدمة”.

أزمة الغذاء ترافق الأزمة الاقتصادية

المهندسة المختصة في الزراعات الموسمية قالت بأن هناك صراع قائم بين السلطة المركزية والمناطق الخارجة عن سيطرتها في الأرياف في شمال وشرق البلاد، ولخصت هذا الصراع بقولها: “تسعى السلطة المركزية المتمثلة بوزارة الزراعة ومؤسسة الحبوب ودائرة الأعلاف للحصول على محاصيل الحبوب من شمال وشرق البلاد، وتدفع أسعار أعلى من تلك التي تدفعها للمزارعين والتجار في بقية مناطق سوريا، في حين تمنع سلطات الأمر الواقع في تلك المناطق المزارعين من بيع محاصيلهم للمركز وتنافسه في الحصول وشراء تلك المحاصيل، وتشترتيها منهم بعقود إذعان. وأضافت: “اعتماد غالبية المواطنين على ما يسمى المساعدات الإنسانية، يصنع من المواطن مواطن مستهلك واتكالي، ويحول غالبية المزارعين إلى عاطلين عن العمل، فماذا سيفيد المزارع تعبه وشقاه، في حين يستطيع الحصول على سلة غذائية بدون أي جهد يذكر؟!”.

يذكر أن كيلوا البقوليات بالمتوسط وصل لحوالي (1.5) دولار أمريكي، وكيلوا القمح على عتبة الدولار الواحد في حين أن المزارع مجبر على بيعه بنصف دولار وكذلك سعر الشعير.

وفي السياق ذاته قال المزارع جمال: “هناك حد أدنى من المساحة المزروعة التي يمكن أن تعود بجدوى اقتصادية على المزارع، وهذه المساحة تختلف من منطقة لأخرى. اليوم يقوم المزارع بزراعة أرضه دون أي هامش من الأرباح، بحيث تتساوى التكلفة أو تزيد قليلا عن العائد من الزراعة، ويقوم التجار بجني المرابح بينما يبقى المزارع يعاني ويكد طوال العام بدون أي ربح يذكر، هذا إن نجت تلك المحاصيل من الحرائق”.

تذكر منظمة “الفاو” بأن هناك حوالي (6.4) مليون سوري مهددين بفقدان الأمن الغذائي في سوريا، وأن معدلات الفقر هناك بلغت حوالي 90 بالمئة تحت خط الفقر.

وفي هذا السياق يقول جمال: “يحتاج المزارع لمساحات أوسع حتى يقلص الفارق بين التكلفة والربح وتحقيق هامش مناسب من الأرباح تقيه شر العوز والفقر، وهذا أمر بات مستحيلا في ظل الأزمة الاقتصادية وأزمة الوقود التي تسود البلاد، وتبقى معظم الأراضي بدون زراعة ولا استثمار زراعي، نأمل في الموسم القادم بكميات أمطار مناسبة وسياسات حكومية تقينا من أزمة الوقود وارتفاع أجور العمل الزراعي”.

في ظل هذا التعقيد يبقى مصير الأمن الغذائي في سوريا، ومصير قوت المواطنين والمزارعين، على حد سواء، رهينة التغير المناخي وتدني مستويات الأمطار، ورهينة الأنظمة والقوانين التي تحكم زراعة وتجارة محاصيل الحبوب التي تشكل أساس السلة الغذائية في سوريا، ويبقى السؤال مفتوحا: هل هناك أمل بعودة الإنتاج الزراعي من محاصيل الحبوب لسابق عهده، وعودة أسعار الحبوب لمتناول ومقدرة المواطن السوري؟!

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.