“نسوان الفرن” مصطلح شعبي قديم اشتهر عبر التاريخ في بلاد الشام بشكل خاص، يُطلق عادة على الأشخاص سواء كنّ نساء أو رجال، هؤلاء الذين يجيدون نقل الكلام بحكم طبيعة عملهم الذي يقضون فيه ساعات طويلة في إعداد الأطعمة، وبمعنى أدق هم وكالة أنباء متنقلة بين الحارات والمحلات يحملون معهم أسرار وأخبار الجيران ويتجولون بها.

حين قررت المصرفية والمديرة السابقة ابنة العائلة المرموقة، جنان الجميّل، اختيار اسما ملفتا لمحلها لم تكن تقصد بـ “نسوان الفرن” المفهوم التقليدي للمصطلح، لكن جميع العاملات معها في فرن المناقيش والمعجنات الواقع وسط بلدة بكفيا الاصطيافية (في منطقة جبل لبنان شرق البلاد) هنّ نساء بينهن موظفات سابقات وربات منزل قررن كسر الصورة النمطية التي تحيط أصحاب المراكز والمناصب عادة والتفرغ لعمل ممتع وشيّق كما تصفه صاحبة المشروع لموقع “الحل نت”.

لا شك في أن المشاريع الصغيرة والمتوسطة هي الأولى التي تدفع ثمن الأزمة الاقتصادية في لبنان، بل إنها أيضا الأولى التي تتفاعل وتنمو خلال الانتعاش الاقتصادي، لأنها مستعدة دائما للنهوض مجددا والتعرف إلى الفرص التي تخبئها الأزمات. لا تزال المشاريع الصغيرة والمتوسطة وستبقى ركيزة وأساس القدرة الاقتصادية على الصمود. بالتالي فإنه من الواجب مساعدتها على الحصول على الأموال اللازمة لتمويلها بشكل مستمر، ومدّ يد المساعدة لها للبقاء والاستمرار والنمو على رغم الصعوبات.

اقرأ أيضا: جمعية مصارف لبنان: لا داعي لهلع المودعين وأموالهم محفوظة

نقلة نوعية

عملت جنان نحو 28 سنة في المجال المصرفي وتدرجت في مناصب عديدة، حتى أضحت مديرة فرع في أحد المصارف المهمة في لبنان، ووفق كلامها لـ”الحل نت” فإن وظيفتها كمديرة كانت تحتم عليها التعاطي المباشر مع الزبائن والموظفين لذا اكتسبت مَلكَة التواصل الاجتماعي، وباتت تعرف كيف تتعامل مع كل الشخصيات والتقرب من الناس، وهذا الأمر سهل تعاطيها مع زبائنها الجدد في مهنتها الجديدة.

لكن كيف ولماذا قررت هذه السيدة الانخراط في مهنة بعيدة تماما عن دراستها وخبرتها المصرفية؟

منذ أربع سنوات؛ أي قبل الأزمة الاقتصادية اللبنانية تسجلت جنان في إحدى الجامعات لدراسة تخصص عن أساسيات ريادة الأعمال؛ والذي يختلف عن تخصصها الجامعي الأول، فدمجت خبرتها المهنية مع خبرتها العملية، وحين أتت الظروف استفادت من ذلك في مشروعها الجديد.

الأزمة الاقتصادية عصفت بكل المؤسسات والجوانب الحياتية في لبنان، وخاصة القطاع المصرفي فأقفلت فروع وتم دمج فروع أخرى، ووسط تلك الظروف فقد الكثير من اللبنانيين وظائفهم كانت من بينهم جنان. كثير من الموظفين لم يحصلوا على تعويض كامل بل مجرد أقساط شهرية بسيطة كحال آلاف الموظفين الذين فقدوا أعمالهم. كانت هذه الأوضاع دافعا لـ جنان بأن تضع مبلغا من المال على حدى في مكان ما، وحينما جاءتها الفرصة قررت الاستثمار بالأموال التي وفرتها.


كما قال عالم النفس، والكاتب الأميركي دوغلاس ماكغريغور، ”العقل كالمظلة لا يعمل إلا إذا كان مفتوحا”، وفي قول آخر له “الغاية غير المخطط لها مجرد حلم”. ولعل التوجه إلى الاعتماد على المشاريع الصغيرة في لبنان، يعتبر من أفضل الخيارات التجارية في ظل الأوضاع الاقتصادية الصعبة. هناك عدة أفكار لمشاريع ربحية صغيرة ناجحة، وبالانطلاق من أن لبنان تعتبر من أكثر الدول مقصدا للسياحة في الشرق الأوسط، فإنه لا بد من طرح بعض الأفكار الفريدة لضمان الفائدة الاقتصادية للشباب اللبناني، وقد تكون نواة رئيسية لمشروع صغير ناجح، ولعل من أبرزها افتتاح مطعم مأكولات لبنانية، لا سيما وأن لبنان تشتهر بطعامها المميز ذو النكهات الفريدة، كما تعد بيئة حاضنة للشيفات ومحضري الطعام على قدر عال من الاحترافية، ومن هذا المنطلق فإن افتتاح مطعم أكلات شعبية لبنانية قد يوفر ربح مادي لا يستهان فيه في موسم السياحة، ناهيك عن متطلبات السوق المحلي في باقي أيام السنة.

حين طرحت جنان الفكرة على العائلة والأقارب والأصدقاء أبدى غالبيتهم استغرابهم، لا بل كانت صدمة للبعض، ولم يستوعبوا فكرة أن تكون مديرة سابقة؛ عاملة فرن مستقبلا، لكنهم كانوا يدركون أنها شخصية عنيدة، وتضيف “حين أقرر أنفذ وكل قرار أدرس تفاصيله البسيطة، واستطعت إقناعهم بوجهة نظري”.

بعد إعلان قرارها بدأت في البحث عن المكان للانطلاق منه إلى حياتها المهنية الجديدة فكان الاختيار محل متوسط المساحة بجوار منزلها.  أولى المساندات لها كانت عبر صديقتها في الجامعة سهى عطية التي تكفلت بتنفيذ هندسة الديكور بشكل وألوان متميزة غير تقليدية لفرن مناقيش حيث طغى اللون الأسود على جدران المحل واللوحات الخارجية والداخلية.

المرحلة الثانية كانت تشكيل فريقها الذي سيعمل معها وكان مخططها أن يتألف من النساء حصرا، فطرحت فكرتها على قريباتها وصديقاتها، نجلاء هي صديقة الطفولة والموظفة المتقاعدة أولى المنضمات لها، ثم ملاك والدة جنان، وبعدها سيرين ابنتها الوحيدة الجامعية، الأمر الذي شجع جارتها رشا للالتحاق بفريق “نسوان الفرن” ومعها ابنتها الجامعية.

خلال تشكيل فريق عملها كانت تبحث جنان عن معلم مخبوزات ٍيعطيها دروسا خاصة في كيفية تحضير العجينة وطرق تنفيذها، لم يعجبها طريقة عمله، حسب كلامها، لذا أحضرت معلم آخر وحصل الأمر ذاته فقررت أن تتعلم بنفسها، وحوّلت عائلتها وجيرانها إلى حقول تجارب وفق وصفها.

من المهم أن تعيد المشاريع الصغيرة والمتوسطة الهيكلة على كل المستويات للتعامل مع التغيرات الاقتصادية غير المسبوقة، وتحديدا إعادة جدولة ديونها قدر الإمكان بمساعدة القطاع المصرفي، وإعادة هيكلة استدانتها من خلال جذب المستثمرين وفتح رأس مالها، أي تحويل قسم من الدين إلى رأس المال، وخفض كلفتها الثابتة والمتقلبة إلى أدنى حد ممكن، ووضع استراتيجيات جديدة للتوريد بالاعتماد على ميزاتها التنافسية.

المشاريع لا تأتي صدفة

اختيار جنان مشروع فرن المناقيش لم يأت صدفة لسبب أنها من محبي ومتذوقي الطعام وخاصة المعجنات كذلك زوجها لذا شعرت أنها ستنجح في هذا المجال، والمفارقة أن فكرة فرن مناقيش كان مشروع تخرجها في دراستها الأخيرة فقررت تحويله لواقع.

كانت كل يوم تصنع كمية من المناقيش وتذوقها إلى محيطها ومعارفها وبالتالي كانت تأخذ بملاحظاتهم، لتتجنب الأخطاء في المرة القادمة، وبغضون أسبوعين أصبحت “معلمة عجين”.

قررت الانطلاق بالمشروع وكل فريقها بات جاهزا، ولأن عمل الفرن يحتاج لمجهود كبير وصبر ووقت، فقد احتاجت لبعض العاملات معها، “عملت معي سيدتين لكنهما لم يتحملا مشقة العمل، والأهم أن مهنتنا تحتاج للابتسامة، وليس العبس في وجه الزبائن، فقررتا ترك العمل وبحثت عن وجوه جديدة”.

في هذا الصدد لفتت إلى قصة اختيارها لإحدى عضوات الفريق عن طريق الصدفة. كانت تحتسي القهوة على باب الفرن، وكانت جارتها على شرفتها؛ دعتها لشرب القهوة ومن حديث لحديث أقنعتها بالعمل معها، كانت مترددة وخائفة وخجولة، لكن بددت كل مخاوفها، وهي اليوم من أنشط العاملات”.

قد يهمك: رسميا لبنان بلا أموال.. إفلاس الدولة اللبنانية والمصرف المركزي

في الأوقات الاقتصادية المتأزمة والصعبة التي تمر فيها لبنان، لا بد للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة التركيز على نقاط القوة لديها ومزاياها التنافسية ونقاط الاختلاف والقوة لديها، للتعامل في شكل أفضل مع المشاكل ومواجهتها والوقوف في وجه التحديات المقبلة استراتيجيا. وبهدف البقاء والمثابرة، يشير تقرير سابق أصدره “اتحاد المصادر العربية” واطلع عليه موقع ” الحل نت” فإنه يجب أن نكون مقتنعين بضرورة تغيير منتجاتنا وخدماتنا وعملائنا وأسواقنا وتطويرها وتنويعها. ومن الآن فصاعدا بات من الضروري التحول من اقتصاد تقليدي إلى اقتصاد إبداعي، لأن الإبداع هو إحدى نقاط القوة في المنطقة لاسيما في لبنان، وأحد العوامل الرئيسة الأكثر أهمية.

في أيام العطل تزداد ضغوط العمل، وهو أمر طبيعي بحسب طبيعة المكان، لذا تنضم جويل زوجة شقيق جنان للفريق. بالمبدأ معظم الفريق هم من الأقارب والجيران. يلقى المطعم إقبالا كبيرا لأن عجينتهم مميزة ويقدمون عدة أنواع من المناقيش، بحسب تعبير جنان.

يبدأ العمل من الساعة السابعة صباحا حتى الثانية ظهرا، لكن قبل انطلاق الدوام لاستقبال الزبائن؛ يقمن عند الفجر لتحضير العجين ومستلزمات المناقيش من مواد أولية من تحضير الجبن والزعتر والسبانخ والخضروات الأخرى.

لم تكتف جنان بنجاحها وفريقها في مشروع “نسوان الفرن” لذا قررت الدخول إلى معهد الفندقية في بيروت لتدرس ثالث تخصص لها، ولكن هذه المرة في مجال الطبخ وتزيين السفر وغيرها، والسبب أنها تطمح للتقدم في عملها الذي بات مصدر رزقها وأحلامها. لا تريد جنان التوقف عند فكرة المناقيش أو نجاح المشروع، فهي تعتبر أن النجاح لا سقف له ويجب الاستمرار في طموحنا وأحلامنا وكيفية تطويرها.

يتمثل التعامل مع التغييرات الاقتصادية بالاستناد إلى اقتصاد وتجارة خاصة وليس عامة، وتنويع نشاطاتها الاقتصادية واللجوء إلى مجالات في عز نموها (مثل بعض الإنتاجات الغذائية). ولا يمكن أيضا إغفال الانخراط في مشاريع إعادة هيكلة داخلية شاملة مع عرض الاستراتيجيات والخطط.

وبحسب تقرير “اتحاد المصارف العربية” فإنه يجب على المؤسسات الصغيرة والمتوسطة النظر إلى اقتصاد المنطقة؛ لاسيما لبنان، على أنه متخصص وليس جماهيريا، وعلى أنه اقتصاد الجودة والتحسين وخلق الأفكار وابتكار المنتجات والمفاهيم، وتشكل كلها نقاط قوة يجب الاعتماد عليها.

حاليا، لا بد من النظر إلى المنطقة على أنها مختبر اقتصادي وتجاري وصناعي وخدمات، إذ تُبتكر الأفكار والمفاهيم والمنتجات. لبنان أرض خصبة حيث يمكن القيام باختبار الموارد البشرية وتحسينها وتدريبها لتصدير المعرفة والمهارات والأفكار.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.