في سوريا تمر الأيام الأخيرة من الصيف، مؤذنة باقتراب الشتاء الذي يطل من بعيد كشبح مرعب للسوريين الذين يفضلون الصيف على الرغم من حرارته وندرة وسائل التكييف والماء البارد، إلا أنه يبقى أسهل وأهون عليهم من الشتاء الذي لا بد من وسائل للتدفئة وبأي شكل، فالبرد لا يمكن منعه من نخر عظامهم وعظام أبنائهم، ولكن أسعار مواد التدفئة باتت فوق قدرتهم كالمازوت والحطب، وحتى بعض المواد البدائية التي لا يتمكن معظمهم من الحصول عليها.

الأسعار “دبل”

خيارات التدفئة في درعا، تضيق على الأهالي عاما بعد عام، نتيجة ارتفاع الأسعار غير المسبوق والذي تضاعف خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة.

تقطع الأخشاب كحطب في سوريا “وكالات”

 أبو بسام عواد، (خمسيني من ريف درعا الغربي)، يعمل مزارعا وهو معيل لأسرة مكونة من 4 أبناء، وتعيش معه والدته السبعينية، يروي لـ”الحل نت” صعوبة تأمين وسائل التدفئة، حيث يقول: “في الشتاء الماضي كانت الأوضاع أسهل قليلا مما هي عليه الآن، ولكن حاليا وعلى الرغم أن الشتاء لم يبدأ بعد، إلا أن الصعوبات للحصول على مواد التدفئة موجودة وخاصة من الناحية المادية، فالأسعار ارتفعت بشكل كبير خاصة مع ارتفاع سعر المازوت لنحو 6000 ليرة، لليتر على البسطات، أما المازوت المدعوم فقد بدأ التسجيل عليه لكن الكمية لا تكفي أبدا، فماذا تفعل 50 ليتر، لكل الشتاء؟”.

ويضيف أبو بسام، “استطعت قبل شهرين أن أشتري حوالي 400 كيلو من الحطب وكان ثمن الطن حوالي 750 ألف ليرة، لعلمي أن الأسعار سترتفع مع نهاية الصيف وهذا ما حدث فعلا، فقد ارتفعت الأسعار منذ بداية الشهر الحالي بشكل كبير، فالطن من حطب الزيتون، وصل سعره إلى مليون و200 ألف ليرة، بينما يُباع الطن من حطب الكينا، واللوزيات بحوالي مليون ليرة، وهناك خيار يتوفر بعد موسم الزيتون في شهر تشرين الثاني/نوفمبر، وهو بقايا الزيتون الذي يتم تصنيعه كمكعبات في المعاصر، ولكن هناك مخاوف أن يرتفع هذا العام إلى “الدبل”، بعد أن كان يُباع في الشتاء الماضي بـ400 ألف للطن الواحد”.

يشير أبو بسام، إلى أن المحظوظ في المنطقة من يربي عددا من الأبقار حيث يمكنه استعمال روثها لصناعة أقراص “الجلة”، واستخدامها للتدفئة بدلا من دفع مبالغ كبيرة لا يقوى معظم الناس على دفعها، خاصة أن الموظفين يعانون من تدني في الرواتب التي لا تزيد في أحسن الأحوال عن 200 ألف، مبيّنا أنها لا تكفي لتلبية أي من احتياجات العائلات.

إقرأ:“قبل موسم الشتوية”.. طن الحطب بمليون ليرة سوريّة

ملابس البالة “نار” ليست للتدفئة

في كل منطقة من المناطق والمحافظات السورية، يعتمد الأهالي على ما هو متوفر للتدفئة في الشتاء، ففي حين ترتفع أسعار المازوت في عموم سوريا فإنها أقل قليلا في بعض مناطق ريف إدلب، ولكن ليس للجميع، وهناك وسائل مختلفة يعمد الأهالي لاستخدامها شتاء.

محمود العبد، شاب عشريني من بلدة عقربات بريف إدلب، يروي لـ”الحل نت” معاناة أهالي البلدات والمخيمات في الشتاء في الحصول على وسائل التدفئة، “خلال الأعوام الأخيرة انتشرت في المنطقة مدافئ قشر الفستق، لتوفره بكثرة واعتماده كبديل للمازوت ولكن في هذا العام ارتفعت أسعاره بشكل كبير، ففي ظل قلة المازوت وصعوبة الحصول عليه، بلغ سعر طن قشر الفستق 225 دولار، أي مليون و100 ألف ليرة تقريبا، وهناك الحطب وهو أقل ثمنا ويبلغ سعر الطن حوالي 150 دولار، أي نحو 750 ألف ليرة، وعادة ما تُوضع مادة تسرّع من اشتعال الحطب تدعى البيرين وهذا العام ارتفع سعرها ليبلغ الطن 175 دولار، أي 850 ألف ليرة”.

يتابع محمود “أما بالنسبة للمخيمات في المنطقة فالأمر عبارة عن مأساة حقيقية، ففي الصيف يمضي سكان المخيمات معظم وقتهم في جمع النايلون والكرتون وأي مواد قابلة للاشتعال ويمكن استخدامها للتدفئة، ففي السابق كانوا، ومعهم قسم كبير من أهالي البلدات يعتمدون على ملابس البالة للتدفئة لكن في هذا العام ملابس البالة “نار” لكن من حيث السعر وليس التدفئة، إذ بلغ سعر الطن منها 150 دولار، أي 750 ألف ليرة، وفوق كل ذلك نعاني معظمنا من البطالة وأنا أحد الأشخاص الذين لم يفكروا حتى الآن بتركيب مدفأة لعدم قدرتي على شراء أي نوع من الوسائل الموجودة للتدفئة”.

قد يهمك:الحطب مقابل المازوت.. مافيا اقتصادية جديدة في سوريا؟

بورصة الحطب

غياب تصريحات الجهات المسؤولة عن الشروع في إعطاء المواطن بدائل للوقود المنزلي، تسبب في البحث عن بدائل منها شراء الحطب للسخانات التي تعمل بالديزل، والغاز، والكهرباء، والتي ملأت أيضا صفحات التواصل الاجتماعي بأشكالها وأنواعها المستخدمة، والتي لم تعد تخدم الغرض في ظل غياب الوقود، الذي نشهده اليوم.

وبحسب تقرير سابق لـ”الحل نت”، فإن سوق بورصة حقيقية ظهرت في سوق المدفأة المستعملة داخل سوريا، حيث تحول معظم سكان المدن من المدافئ الأساسية إلى تلك التي تحرق الأخشاب، وأدخلوا إلى المدينة سخانات تعمل بالحطب من الريف.

طابور من السوريين للحصول على مازوت للتدفئة “وكالات”

ولكن ما واجهه المواطنون هذا العام، كان ارتفاع تكلفة طن الحطب، ما كبّدهم خسائر متزايدة، إذ استغل تجار الحطب الذين انتعش سوقهم خلال السنوات الأخيرة لاسيما مع هجرة الفلاح لأرضه بعد تكبّده خسائر متزايدة وتركه أشجار الحمضيات، والتفاح عرضة للتحطيب من قِبل شبكة تتجول خلال هذه الأشهر في القرى لاصطياد زبائن ممن لا حول ولا قوة.

وحسب التقرير، فإن سعر طن الحطب لهذا العام يبدأ من المليون ليرة، ناهيك عن تحول الغابات في تلك المناطق إلى أشباه غابات بعد تحطيبها من الداخل وترك الواجهة خضراء على الطرقات العامة خوفا من المساءلة القانونية.

إقرأ أيضا:الكاز والحطب بديلان عن الكهرباء في سوريا

“فيسبوك” وسيلة للترويج لمواد التدفئة

من الملاحظ في الأشهر الأخيرة انتعاش الصفحات التي تروّج لوجود الوقود خلال هذا الشهر بسبب الحاجة إلى تموينه قبل قدوم الشتاء وارتفاع أسعاره، متخلّين بذلك عن أموال طعامهم وملابسهم، خصوصا وأن رسائل الحصول على المادة عبر “البطاقة الذكية”، تتأخر إلى 3 أشهر.

وبحسب تقرير “الحل نت”، من يراقب هذه الصفحات يجد انتعاشا لها خلال هذا الشهر من خلال إقبال “طبقة معيّنة” على شراء مادة “مازوت الشتاء” بأسعار خيالية، إذ تجاوز سعر الليتر الـ 7000 ليرة في بعضها، وفي حال رفضك للسعر يكون الرد،”هاد الموجود وراح يغلى بالشتي أكتر”، الأمر الذي يخلق عشرات إشارات الاستفهام حول غض الجهات المسؤولة، النظر عن هذه الصفحات التي يمكن معرفة القائمين عليها بسهولة.

قد يهمك:ريف دمشق.. 30 ساعة دون كهرباء والمياه مرة أسبوعيا

مافيات للحطب

مع اقتراب فصل الشتاء وندرة المازوت، نمت تجارة الحطب مع بحث بعض السوريين عن وسائل تدفئة بديلة قبل حلول الأشهر الباردة، وخوفا من تكرار الوضع الذي كان سائدا في العام الماضي، حيث كانت معظم العائلات تعتمد على وعود لتوفير المازوت ولكنها لم تتلقَ الدفعة الثانية، مما أدى إلى ظهور مافيات جديدة، فبات بعض تجار الحطب يشهرون السلاح بوجه عناصر الضابطة الحراجية.

لذلك كانت الخطوة الأولية لبعض العائلات شراء وتخزين الحطب، لأن الطن منه بات يكلّف نحو مليون ليرة في دمشق، في حين أن الطن يكلف ما بين 300 ألف، و500 ألف ليرة، في المحافظات التي تكثر فيها الأحراج مثل منطقة حماة.

وفي هذا الإطار، قال عبد الرزاق حبش، أمين سر جمعية حماية المستهلك، في تصريحات سابقة لصحيفة “الوطن”، إن عدم توفّر مادة المازوت خلال العام الماضي كان درسا للمواطنين، لأن عدم التزام وزارة النفط بتوزيع مادة المازوت أدى إلى زيادة ملحوظة في نسبة أمراض الشتاء، مما سبب لهم الخوف اليوم. ولتجنب تكرار ما حدث، لجأ المواطنون إلى بدائل مثل شراء الحطب، أو إخفاء الورق المقوى، والمواد البلاستيكية المضرة بالبيئة التي جُمعت من الشوارع والأزقة، بحسب “الحل نت”.

وتابع: “طن الحطب يكلف ما بين مليون ومئتي ألف ليرة، في دمشق حسب جودة الحطب، مع العلم أن العائلة تحتاج إلى كميات كبيرة للتدفئة وفق برودة المنطقة، مع إضافة أعباء إضافية لتأمين المال لشراء هذه المادة، علما أن فصل الشتاء لم يبدأ بعد، لكن خوفا من فقدان الحطب في الأسواق يلجأ بعض المواطنين لخزنه في ظروف غير صحية”.

رغم تحديد السعر الرسمي للطن الواحد من الحطب بـ 300 ألف ليرة، إلا أن وزارة الزراعة غير قادرة على تأمين الكميات التي يحتاجها المواطن نتيجة لفقدان مادة المازوت، لذا يرى حبش، أنه من الضروري إيجاد سبل لتأمين مادة المازوت عن طريق توزيع الحصص على العوائل لتغطية جزء من الحاجة.

من جهته، لم يشكك الدكتور علي ثابت، مستشار وزير الزراعة لشؤون الغابات، حقيقة عمليات قطع الأشجار في العديد من المحافظات، مشيرا إلى استمرارها طيلة فصل الصيف رغم تعميم وزارة الزراعة بحظر نقل قطع الحطب وتجارته.

وتابع: “وكل من يكتشف قيامه بأنشطة لحطب الوقود يُسجن دون تأخير إلى أن تتم محاكمته في المحكمة، ويقرر القاضي ما إذا كان سيحكم عليه بالسجن لمدة شهر، أو بالإفراج عنه في نفس اليوم”، لافتا إلى أن هؤلاء الأشخاص معظمهم تجار، وليسوا أشخاصا عاديين، وغالبا ما يستخدمون أهالي القرى لتجميع الحطب ثم الشراء منهم، بحسب متابعة “الحل نت”.

استخدام الملابس للتدفأة بأحد المخيمات شمال سوريا “وكالات”

وفي سياق متصل، ذكر ثابت، أن معظم عمليات تهريب الحطب بين المحافظات تتم ليلا، إذ يوجد مناطق يقوم المتعدون بسحب السلاح على عناصر الضابطة الحراجية، وتهديدها خاصة في الجنوب بمحافظات القنيطرة ودرعا والسويداء. وبسبب افتقار الشرطة إلى السلطة لإطلاق النار، يتم تشكيل فرق مشتركة للتعامل مع هذه الحالات.

وأكد ثابت، أن هنالك تهريب على الحدود السورية اللبنانية وخاصة في مدينة القصير بحمص، نظرا لوجود تداخل بين الأراضي السورية واللبنانية فيتعدى المواطنون هناك على الحراج، ويدخلون إلى الأراضي اللبنانية أحيانا، كما تم تسجيل حادثة لتعديات من الجانب اللبناني على الأراضي السورية وتواصلت وزارة الزراعة حينها مع وزير الزراعة اللبناني، لضبط هذه العمليات.

إقرأ:متى ينتهي تقنين الكهرباء في سوريا؟

أزمة الوقود التي تنامت في سوريا خلال الأعوام الأخيرة فتحت الباب على مصراعيه لخلق أزمات أخرى لم تكن موجود من قبل، حتى بات الحطب، والبالة، وأقراص “الجلة”، حلما لدى شريحة كبيرة من السوريين لدرء البرد عنهم وعن عائلاتهم.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.