لا يزال الشرق الأوسط يحاول رسم مساره الخاص في سياق التحولات الجيوسياسية العالمية، لكن الحقيقة هي أنه مع تضييق الحيز المالي والنقدي في معظم الاقتصادات، يظل الانتعاش غير منتظم.

منذ القرن التاسع عشر، كان النفط أحد مصادر الطاقة الرئيسية في العالم، حيث يلبي النفط 33 بالمئة من الطلب العالمي على الطاقة، لكن الطلب على النفط قد بدأ في الانخفاض في وقت أقرب مما هو متوقع بسبب اتجاهات الموارد المتجددة حول العالم والتقدم التكنولوجي. بدأت الدول العربية في المنطقة في اتخاذ الاحتياطات من خلال التنويع لأنها بحاجة إلى تحويل اقتصاداتها المعتمدة على النفط، حيث اكتسبت قضية التنويع الاقتصادي تركيزا كبير في دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.

النشاط الاقتصادي في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى وشمال أفريقيا، وفق ما أعلن عنه صندوق “النقد” الدولي، اليوم الاثنين، فإنه يتسم بالمرونة مع استمرار التعافي في عام 2022، لكنه يتعين على المنطقتين توخى الحذر من زيادة الظروف غير المواتية على مستوى العالم، لكن ما فرص الأسواق الناشئة والدول ذات الدخل المتوسط في ما يتعلق بمؤشر معدلات التبادل التجاري، وما التحديات الملحة في معالجة أزمة تكلفة المعيشة.

الرياح المعاكسة

لا تزال النظرة المستقبلية لمنطقة الشرق الأوسط إيجابية على الرغم من الانخفاض الكبير في نمو الناتج المحلي الإجمالي العالمي، وارتفاع التضخم في مؤشر أسعار المستهلكين وارتفاع أسعار الفائدة.

صندوق “النقد” الدولي يتوقع نمو الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 5 بالمئة في عام 2022 لدول المنطقة، وبالنسبة للدول المصدرة للنفط، كان من المتوقع أن يبلغ النمو 5.2 بالمئة، ويرجع ذلك أساسا إلى ارتفاع أسعار النفط والنمو القوي للناتج المحلي الإجمالي في البلدان الأخرى، مما عوض تأثير ارتفاع أسعار المواد الغذائية.

يقول الخبير في التنمية الاقتصادية في الشرق الأوسط، ماركوس نولاند، لـ”الحل نت”، إن تفشي فيروس “كورونا”، إلى جانب انخفاض أسعار النفط العالمية، أدى إلى تكثيف الضغط على حكومات دول الشرق الأوسط لتسريع مبادرات التنويع الاقتصادي.

على مستوى الدول المصدرة للنفط، أشار نولاند، إلى أنها حاولت تعزيز قطاعها الخاص، وإطلاق العنان لإمكانات الصناعات غير النفطية، وتوسيع الصادرات غير النفطية، وزادت من محاولاتها لجذب الشركات الأجنبية من أجل إعادة هيكلة اقتصادها وتقليل اعتمادها على النفط.

بحسب صندوق “النقد”، فقد أدى ارتفاع أسعار الطاقة إلى استمرار نمو الدول المنتجة للنفط، مثل المملكة العربية السعودية، حيث من المتوقع أن يصل النمو الاقتصادي إلى 7.6 بالمئة هذا العام. حيث يستفيد مصدرو النفط أيضا من عمليات تحويل التجارة التي سببها الغزو الروسي على أوكرانيا، حيث تتطلع بعض الدول الأوروبية إلى استبدال مشترياتها من النفط من روسيا.

لكن التقرير، قال إنه من المتوقع أن يتباطأ معدل النمو في عام 2023، ويرجع ذلك جزئيا إلى التضخم المدفوع بارتفاع أسعار المواد الغذائية والسلع. فيما ظلت التوقعات غير واضحة بالنسبة للبنان غير المستقر سياسيا وسوريا، لدرجة أن صندوق النقد الدولي لم يعلن عن أي توقعات اقتصادية لأي منهما.

الفرص التجارية في الشرق الأوسط

ككل، يتوقع صندوق النقد الدولي أنه في السنوات الخمس المقبلة، سيتجاوز مستوى التدفقات الإضافية والاحتياطيات المالية إلى البلدان المصدرة للنفط في الشرق الأوسط تريليون دولار.

طبقا لحديث نولاند، فإن مزايا متنوعة لمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا ساهمت في أن تكون نقطة مهمة للأسواق الناشئة، حيث تشكل المنطقة كيانا اقتصاديا كبيرا، وتتمتع بمستوى معيشي معقول وفقا للمعايير الدولية، فضلا عن أنها تعد من أهم الشركاء التجاريين لدول الاتحاد الأوروبي، حيث استحوذت مؤخرا على 30 بالمئة من الصادرات و40 بالمائة من واردات بلدان الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.

عمليات الاندماج والاستحواذ والمشاريع المشتركة في الشرق الأوسط، وفق نولاند، تطورت بسرعة بين عامي 2020 و2022، مدفوعة بالنمو الاقتصادي القوي، والانفتاح المتزايد على الاستثمار الأجنبي، والرغبة في الصفقات بين المستثمرين المحليين والأجانب.

ويعتقد نولاند، أنه على الرغم من أن حجم الصفقات قد انخفض بشكل كبير خلال أزمة وباء “كورونا”، إلا أن الشرق الأوسط سيستمر في كونه سوقا ناشئة جذابة للغاية، تتميز بالنمو السريع والتحسن التنظيمي والثروة النفطية الكبيرة. 

شهد ملف السيولة في سوق الأسهم في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وحصة السوق كنسبة مئوية من مؤشر “إم إس سي أي” للأسواق الناشئة زيادة كبيرة خلال السنوات القليلة الماضية. حيث شهدت زيادات كبيرة في تدفقات الأصول القادمة إلى المنطقة منذ عام 2021. 

وزادت هذه التدفقات بشكل كبير في آذار/مارس 2022، عندما قام العديد من مستثمري الأسواق الناشئة بنقل أموالهم وأعمالهم خارج روسيا إلى سوق الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. كما شهدت إصدارات الاكتتاب في دول مجلس التعاون الخليجي عاما متميزا في عام 2021.

في معالجة الاختلالات المالية، ركزت بلدان الشرق الأوسط في البداية على خفض الإنفاق لتحقيق تحسن سريع، وفي المرحلة الثانية، تحولوا نحو تعزيز الإيرادات من خلال تحسين النظم الضريبية والإدارة.

التوقعات التي أعدها خبراء صندوق “النقد” الدولي، تشير إلى أن نظرة مستقبلية للصادرات غير النفطية للمنطقة تمثل نقطة تحول، حيث من المتوقع أن ينمو الطلب الحقيقي في البلدان الشريكة بمتوسط معدل سنوي ما يزيد قليلا عن 5 بالمئة في عام 2023، وبناء عليه، يمكن للقطاع غير النفطي أن يوفر محركا للنمو للعديد من بلدان المنطقة.

حجر أزمة تكلفة المعيشة

أحد التحديات الملحة في الوقوف أمام نمو النشاط الاقتصادي في الشرق الأوسط، هو معالجة أزمة تكلفة المعيشة في الشرق الأوسط، والذي يتمثل عبر استعادة استقرار الأسعار وحماية الفئات الضعيفة من خلال الدعم الموجه وضمان الأمن الغذائي.

تقرير صندوق “النقد” الدولي، ذكر أن “ارتفاع أسعار المواد الغذائية وزيادة النقص في الغذاء والطاقة قد يؤديان إلى انعدام الأمن الغذائي والاضطرابات الاجتماعية، لا سيما في عام 2023″، محذرا من تضخم واسع النطاق ومن أن ارتفاع أسعار المواد الغذائية والأسمدة التي يمكن أن تخلق تحديات خطيرة للأمن الغذائي للبلدان منخفضة الدخل، ما قد يؤدي إلى اضطرابات اجتماعية.

لا تزال أسعار المواد الغذائية أعلى من متوسطها لعام 2021، ومن المتوقع أن ترتفع بأكثر من 14 بالمئة على أساس سنوي في عام 2022، وفقا للتقرير.

فعلى الرغم من أن أسعار القمح أقل من مستوياتها، نظرا للاتفاق بين روسيا وأوكرانيا لاستئناف صادرات الحبوب من البحر الأسود، إلا أنها لا تزال أعلى بنسبة 80 بالمئة تقريبا من متوسطها في عام 2019. كما أثر الغزو الروسي لأوكرانيا على الصادرات مثل زيت عباد الشمس والشعير والقمح في جميع أنحاء العالم

كانت دراسة لشركة “أليانز تريد” للتأمين، أفادت أن 11 دولة، معظمها في إفريقيا وآسيا والشرق الأوسط، معرّضة لاحتمال مرتفع بنشوب توترات اجتماعية؛ بسبب ارتفاع أسعار المواد الغذائية، ولفتت الدراسة، إلى أن “عدم إطعام الشعوب يعني تغذية النزاعات”.

شركة التأمين، اعتبرت أن تلك الدول وأبرزها الأردن، معرّضة بشكل خاص لاحتمال نشوب صراعات اجتماعية في السنوات المقبلة، وما يدفع لاحتمالية نشوب تلك الصراعات، هو وصول نسبة مَن يعيشون تحت خط الفقر في الأردن إلى 15.7 بالمئة، بحسب الإحصائيات الرسمية الأردنية.

من المتوقع أن يؤدي إرساء أزمة المعيشة في الشرق الأوسط إلى عائد سلام اقتصادي كبير، شريطة أن يقترن بسياسات اقتصادية سليمة، وعلى الرغم من الصعب تقدير مقدار عائد انخفاض هذه الأزمة، لكن تخفيضات الإنفاق عليها يمكن أن تؤدي بمرور الوقت إلى تكوين رأس مال أعلى وتخفيف سوء تخصيص الموارد بشكل أقل حدة، وعليه من المتوقع أن يكون التأثير كبيرا على النشاط الاقتصادي في الشرق الأوسط.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.