روسيا ومنذ تدخلها في سوريا في العام 2015، تسعى لوضع يدها على الثروات الاستراتيجية في سوريا، خاصة النفط والغاز والفوسفات، وفي هذا السياق، وقعت مؤخرا حكومة دمشق مؤخرا عقدا مع شركة “ستروي ترانس غاز” الروسية لتنفيذ مشروع معمل غاز في ريف حمص الجنوبي بقيمة أكثر من 80 مليون يورو، وقال مدير “الشركة السورية للغاز” التابعة لحكومة دمشق، أمين داغري، إن “المعدات والضواغط بالكامل روسية الصنع، هي من أحدث التقنيات المطبقة حاليا في مجال الصناعة الغازية”.

حكومة دمشق كانت قد منحت نفس الشركة في 2018 حق استثمار واستخراج الفوسفات من مناجم الشرقية (ريف تدمر) لمدة 50 عاما، بإنتاج 2.2 مليون طن سنويا، ومناجم خنيفيس والشرقية تعد من أكبر مناجم الفوسفات في سوريا، حيث بلغ إجمالي إنتاجها قبل عام 2011، أكثر من 3.5 ملايين طن سنويا، كان يصدر منها حوالي 3 ملايين طن، والباقي يوجه إلى مصنع الأسمدة في مدينة حمص.

الاستثمارات الروسية في هذه القطاعات الاستراتيجية، وخاصة عقد مشروع الغاز الأخير يطرح عددا من التساؤلات، حول الغموض في العقد وآلياته، إضافة إلى الطريقة التي تقتسم بها كل من روسيا وإيران الثروات والاستثمارات في سوريا.

عقد غامض لصالح روسيا

حكومة دمشق، وبعد توقيع العقد مع الشركة الروسية لم تعلن عن أي من تفاصيله وبنوده، كما أن الاتفاق جاء على عجل، واكتفت بالقول، إن العقد ينص على توريد خط إنتاج روسي لمعمل الغاز.

الخبير الاقتصادي، رضوان الدبس، يوضح خلال حديثه لـ”الحل نت”، أنه في مثل هذه الاتفاقات التي تعقدها حكومة دمشق، فإن هناك جوانب عديدة غامضة تكتنفها، فعقودها لا تخرج للعلن ولا يطلع عليها أحد، كما أن بنودها وآلياتها غير واضحة.

معمل للغاز السوري في حمص “وكالات”

أيضا، فإن الإعلان الرسمي السوري، يتحدث عن التوقيع على اتفاقية مع شركة روسية لتوريد قطع الغيار والآلات لمعمل الغاز جنوب حمص، والمبلغ المعلن هو 80 مليون يورو، و2 مليار ليرة سورية، وهذه الإشكالية الثانية في الاتفاق، حيث لا يوجد اتفاق بين دولتين يتم بهذا الشكل أي بعملتين، كما أن أحد النقاط الغامضة هي عدم معرفة الجهة التي ستغطي هذه المبالغ، فإن كانت الحكومة السورية فذلك يزيد من مديونيتها، وإن كانت من روسيا فلم يتم الإعلان عن المقابل، بحسب الدبس.

أما الخبير الاقتصادي، حسن سليمان، يشير خلال حديثه لـ”الحل نت”، أنه بالإضافة إلى غموض العقد من الناحية الشكلية، إلا أن روسيا هي المستفيد الرئيسي منه، فروسيا تسيطر على مناجم كبيرة للفوسفات ويتبع لها معمل للأسمدة في المنطقة الوسطى، وهذه الحقول والمعمل بحاجة للغاز أي “الطاقة” للعمل، لذلك تم الاتفاق على هذا العقد، فالشركة الروسية تسعى لتنفيذ مشروع معمل الغاز لصالح روسيا، ولتغذية مناجم الفوسفات ومعمل الأسمدة بالطاقة، وهنا لا تستفيد حكومة دمشق من هذا الاتفاق على الإطلاق.

سليمان لفت إلى أن هناك معلومات تشير إلى أن حكومة دمشق هي من ستدفع تكاليف تنفيذ المشروع، والبالغة ملياري ليرة، وفي أحسن الأحوال فهي إن لم تدفع فإنها لن تحصل على شيء من إنتاج الغاز، وفي كلتا الحالتين فإن هذا يضاعف من الأعباء الاقتصادية التي تعاني منها الدولة السورية.

ترسيخ للسيطرة الروسية وتحجيم لإيران

بحسب مختصين، فإن مشروع الغاز الجديد يأتي لضمان سيطرة روسيا على الفوسفات، كما أن روسيا تركز في مشاريعها الاستثمارية على المنطقة الوسطى، ما يعني أنها تريد القول للإيرانيين، إن المنطقة هذه الغنية إلى حد ما بالثروات الطبيعية هي تحت سيطرتنا، ولن يُسمح لشركات غير روسية بالاقتراب منها، واصفين المنطقة الوسطى السورية بأنها تحولت إلى “دولة داخل الدولة”، موضحين أن “روسيا تعمل على تنفيذ مشاريع مستقلة لها في سوريا، بعقود غير قابلة للمراجعة مهما طرأت تغييرات سياسية في سوريا”.

رضوان الدبس، يوضح أن السياسة الروسية في سوريا، تعتمد على الوضع المالي والاستراتيجي، بينما السياسة الإيرانية تعتمد على التغلغل داخل الدولة من القواعد الشعبية، فروسيا تسمح لإيران بالتفاصيل الصغيرة ولكن تمنعها من الاقتراب من المشاريع الكبيرة، أو أي منشآت اقتصادية استراتيجية.

لذلك تعمد إيران إلى الدخول في المشاريع الصغيرة، فهي تعرف الخطوط الحمراء الروسية التي لا تستطيع تجاوزها هذا من جهة، ومن جهة أخرى فهي لا تملك القدرة الإدارية والتقنية لإمساك مشاريع ضخمة وكبيرة فهي تعمل فقط في المشاريع الصغيرة.

أي إن ما يجري بحسب الدبس، ليس إقصاء بالمعنى الحقيقي لإيران، إنما هو دور وضعته لها روسيا وهي تلتزم به، فهو تحجيم دائم لدور إيران، وتكريس للسيطرة الروسية على المشاريع الكبيرة، فمثلا لا يمكن لإيران الاستثمار ببناء مصفاة لتكرير النفط، أو بناء محطة كهرباء كاملة، إنما تقوم بعمليات صيانة وعمليات جزئية فقط.

حسن سليمان، يشير إلى أن حكومة دمشق لا تستطيع التصرف بمنح عقود لأي مشاريع واستثمارات كبيرة، خاصة في مجال الفوسفات والطاقة، فقد كانت تفكر بمنح بعض من هذه المشاريع لإيران والصين إلا أن روسيا أوقفت ذلك كله، محتكرة هذه المشاريع.

أما حول إيران، فيؤكد سليمان أن هناك تفاهمات روسية إيرانية بالنسبة لتقاسم الاستثمارات في سوريا، ولكن روسيا هي من تقرر ما الذي ستسمح لإيران بالاستثمار فيه أو لا تسمح، فإيران لا تستطيع لوحدها تجاوز الخطوط التي وضعتها روسيا.

سليمان يؤكد أيضا أن حكومة دمشق والدولة السورية خارج كل هذه المعادلات، اقتصاديا وسياسيا، وهي الخاسر الأكبر بالنسبة للاستثمارات، كما أن هذه الحكومة على استعداد لتقديم كل شيء لروسيا وإيران مقابل التمتع بحمايتهما.

إقرأ:روسيا تُهرب الفوسفات السوري إلى أوروبا

روسيا تهرب الفوسفات السوري

في تحقيق أشارت إليه صحيفة “الغارديان” البريطانية، وترجمه موقع “الحل نت”، في وقت سابق، نقلا عن فريق صحفي استقصائي، أفادت باستيراد أوروبا من شركة روسية ودمشق كميات كبيرة من الفوسفات السوري لإنتاج الأسمدة، في ظل العقوبات ضد روسيا وارتفاع أسعار السماد عالميا.

التحقيق أشار إلى أن إيطاليا وبلغاريا وإسبانيا وبولندا في عداد دول من الاتحاد الأوروبي التي تتلقى الفوسفات السوري، موضحا أن العقوبات الدولية لا تحظر استيراد الفوسفات السوري، لكن الأطراف الروسية والسورية الرئيسية في هذه التجارة تخضع لعقوبات أمريكية أو أوروبية، ما يثير التساؤلات إزاء المسؤولية المترتبة في هذا الإطار.

كما بين التحقيق نقلا عن وثائق جمركية وبيانات تجارية أن صربيا استوردت بما قيمته 72 مليون دولار منذ عام 2017، بينما استوردت أوكرانيا ما يساوي 30 مليون دولار على مدى السنوات الأربع الماضية.

أيضا استأنفت إيطاليا وبلغاريا التجارة أيضا خلال العامين الماضيين، وفي يناير الماضي، بدأت إسبانيا وبولندا استيراد الفوسفات السوري، حيث اشترت الأولى بحوالي 900 ألف دولار والثانية 37 ألف دولار هذا العام، وفق بيانات تجارية أوردتها الأمم المتحدة.

التحقيق أكد أن هذه التجارة تنمو بسرعة بعدما أدت الحرب في أوكرانيا إلى ارتفاع أسعار الأسمدة والفوسفات، ما أسفر عن زيادة الطلب على الفوسفات السوري منخفض الثمن وعالي الجودة، والذي كان بين أهم صادرات سوريا قبل عام 2011.

أما حول أسلوب تهريب الفوسفات، بين التحقيق، أن عملية البيع إلى أوروبا خارج الرادارات، إذ تعمل سفن الشحن على فصل أنظمة التتبع الخاصة بها أثناء توجهها نحو سوريا ثم تعاود الظهور في طريقها إلى أوروبا لاحقا.

كما أن المبيعات الأوروبية تعزز شبكة معقدة من الشركات الوهمية والوسطاء، بما في ذلك الشركة اللبنانية “مديترانيين” للبترول والشحن، حيث رتبت شركتين تجاريتين يديرهما رجل أعمال لبناني، وصول الفوسفات السوري إلى صربيا عبر رومانيا، بحسب التحقيق.

الفوسفات ثروة سوريا التي تسلبها روسيا

سوريا تعتبر من أهم مصدري الفوسفات في العالم، وكانت قبل العام 2011 تصدر نحو 3.2 ملايين طن، لكنه فوسفات خام “ومغسول، أي رطب”، وهذا النوع مطلوب عالميا.

فهي تحتل المرتبة الرابعة عالميا باحتياطي نحو 3 مليارات طن من الفوسفات، ولم تكن هذه الثروة مستثمرة بشكل جيد قبل عام 2011، إذ لا تزيد كميات الإنتاج عن 3 ملايين طن سنويا، ما جعلها مطمعا لإيران وروسيا، باعتبار أن هذه الثروة كبيرة جدا، إضافة لاستخدامات الفوسفات الأخرى من خلال احتوائه على مواد مشعة، كاليورانيوم والثوريوم والموليبيديوم، وهي مواد تدخل بصناعة غازات الأعصاب وأسلحة التدمير الشامل.

أحد مناجم الفوسفات في سوريا “وكالات”

في نهاية العام 2017، أعلن نائب رئيس الوزراء الروسي ديمتري روغوزين، خلال زيارته لسوريا، أن روسيا هي الدولة الوحيدة التي ستعمل في قطاع الطاقة السورية وإعادة بناء منشآت الطاقة، مشيرا إلى أنه في سوريا يوجد أكبر حقل فوسفات يمكن الاستثمار فيه، ومنتجاته مطلوبة في العديد من البلدان مثل الأسمدة، وأوضح في حينه،أن موسكو ودمشق ستعملان على إنشاء شركة مشتركة لاستغلال المخزون السوري من الفوسفات تشرف عليه روسيا.

من جهتها،لا تنكر المواقع الإيرانية أن مادة الفوسفات السورية قد أصبحت بيد روسيا بشكل شبه كامل، من دون أن تخفي امتعاضها من هذا الواقع المرير على طهران، خاصة بعد دخول شركات صربية، بموافقة روسية ضمنية على الأغلب، للاستثمار أيضا في هذا القطاع الحيوي الذي يدر القطع الأجنبي على حكومة دمشق، في خضم الضائقة الاقتصادية الخانقة التي تعيشها.

باحثون أكدوا لـ”الحل نت” في وقت سابق، أنه بالفعل تمكنت روسيا والدول الدائرة في فلكها من الاستحواذ على غالبية الفوسفات السوري، ومعمل السماد السوري في شرقي حمص تديره روسيا بالكامل إضافة لسيطرتها على أعمال التنقيب، وجميع هذه العقود مجحفة بحق الدولة السورية فحصة الدولة السورية لا تتجاوز 30 بالمئة مقابل 70 بالمئة لروسيا.

أما إيران ترى بأنه قد تم استبعادها عن غالبية مصادر الطاقة السورية كالنفط والغاز والفوسفات، وهي لا تستطيع منافسة روسيا في هذا المجال، كما يلاحظ هنا تراجع الصادرات السورية من الفوسفات إلى إيران بعد عام 2017، ففي هذا العام بلغت واردات إيران من الفوسفات السوري أكثر من 200 ألف طن، بينما لم يتجاوز هذا الرقم 5 آلاف طن عام 2021، وهو ما يوضح بشكل جلي تراجع حصة إيران.

إقرأ أيضا:إيران تزحف نحو المنشآت الصناعية المدمرة.. والسلطات السورية “تبصم على بياض”

سيطرة علنية وشبه كاملة من روسيا على أهم مصادر الثروة والطاقة في سوريا، في الوقت الذي تعاني فيه سوريا من نقص الغاز، والأسمدة التي تضاعفت أسعارها بعد سيطرة روسيا على إنتاج المناجم السورية.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.