مع تحول الأوضاع في المواجهة الروسية الأوكرانية إلى الجمود، وتثبيت خطوط التماس وخرائط النفوذ بشكل تقريبي بعد مرور نحو تسعة أشهر على بدء الغزو الروسي لأوكرانيا، تزايدت مؤشرات رغبة الطرفين الروسي والأميركي في إحياء قنوات الحوار، واستئناف المحادثات التي انقطعت بشكل كامل تقريبا خلال العام الأخير.

الحديث عن إعادة إحياء بعض قنوات الحوار اتخذ خلال الأسابيع الأخيرة أبعادا أكثر نشاطا، تُوجَت بعقد لقاء تركيا، في 15 تشرين الثاني/نوفمبر، جمع رئيس المخابرات الخارجية الروسية، سيرغي ناريشكين ورئيس الاستخبارات المركزية الأميركية، ويليام بيرنز. ومع أن موسكو تكتمت على مجريات اللقاء، لكن تسريبات تحدثت عن تركيز الطرفين بشكل رئيس على مخاطر استخدام الأسلحة النووية، مع التطرق إلى التداعيات التي فرضتها المواجهة في أوكرانيا.

مؤخرا، برز تباين في المعطيات التي قدمتها موسكو وواشنطن حول آفاق تنشيط قنوات الاتصال بينهما، وسعت موسكو إلى التقليل من أهمية معطيات تداولتها وسائل إعلام أميركية حول ما وصف بأنه جولات مفاوضات سرية جرت خلال الأشهر الماضية بين مستشار الرئيس الأميركي للأمن القومي، جيك سوليفان وباتروشيف ويوري أوشاكوف، مساعد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لشؤون السياسة الخارجية. وتعمّد “الكرملين” تقديم نفي رسمي مباشر لصحة هذه المعطيات من دون أن يذهب إلى إعلان رفض إجراء حوار. وبهذا المعنى، فإن موسكو سعت إلى تأكيد أنها لا تخوض “مفاوضات سرية”، من دون أن تقطع المجال أمام استئناف الحوار.

أيضا، لا يمكن استبعاد أن مضمون المفاوضات التي تحدثت عنها واشنطن لم يخرج عن إطار توجيه رسائل واضحة إلى الجانب الروسي بضرورة الامتناع عن استخدام أسلحة نووية تكتيكية على خلفية الانتكاسات التي مُني بها الجيش الروسي في المعارك خلال الاسابيع الماضية، وهو أمر أعلنته الادارة الأميركية في وقت سَبَق التسريبات الصحافية حول تلك اللقاءات.

نحو صفقة شاملة؟

“الكرملين” أكد أن الجانب الروسي يظل مُنفتحا لتحقيق أهدافه من المفاوضات، مُتهِما أوكرانيا بأنها عمدت إلى إغلاق باب التفاوض. وكان لافتا في التعليق الروسي أن موسكو تعمدت الحديث عن الخطوات الأوكرانية لوضع عراقيل أمام إجراء جولات تفاوض جديدة، من خلال سنّ قوانين تحظر الحوار مع القيادة الروسية الحالية، بينما لم يذهب “الكرملين” بعيدا لإعلان موقف واضح من استئناف الحوار مع الجانب الأميركي. وتبنت الخارجية الروسية موقفا مماثلا عندما أشارت إلى أن الحوار مع واشنطن “يحصل في بعض المناسبات”.

جون كيربي مستشار الأمن القومي الأميركي

الموقف الروسي مع الإعلان لاحقا عن إجراء جولة الحوار على المستوى الأمني في تركيا، أكدا مجددا رغبة موسكو في إحياء قنوات الاتصال مع واشنطن، لكن التفضيلات الروسية في هذا المجال تبدو واضحة؛ فالحوار المنتظر مع واشنطن، كما تراه موسكو، يجب أن يكون شاملا، وألا يقتصر على جانب واحد يتعلق بالحرب الأوكرانية ومخاطر انزلاق المواجهة نحو توسيع رقعة المعركة أو الانتقال إلى استخدام اسلحة فتاكة أو نووية.

الحوار الشامل المقبول من وجهة نظر موسكو يمكن أن ينتقل مِن وضع آليات لتجميد الصراع في أوكرانيا، إلى محاولة جس النبض لفتح مفاوضات تتمحور حول “صفقة شاملة”، لا تقتصر على أوكرانيا بل تطال ملفات التوازن الاستراتيجي، وتمديد اتفاقية “ستارت 3″، المتعلقة بالحد من الأسلحة الهجومية الاستراتيجية لدى البلدين، والعلاقة المستقبلية مع الأطلسي، ورفع جزء من العقوبات الغربية على موسكو.

إقرأ أيضا:حرب الطيران المسيّر من أوكرانيا إلى سوريا.. ما تأثيرها؟

جمود للصراع

الرؤية الروسية تنطلق حاليا من حاجة الأطراف المتزايدة إلى تجميد الصراع في أوكرانيا، والبحث عن أدوات لإحياء الحوار الروسي الغربي بهدف تخفيف التوتر ووضع مقدمات لازمة للتوصل إلى تفاهمات مشتركة. ويبدو أن الوضع الميداني الضاغط على موسكو مع تعثر العملية العسكرية، وتزايد القناعة بأن الضربات الصاروخية لن تحسم نتيجة الحرب، فضلا عن اقتراب الشتاء، يدفع الجانب الروسي أكثر نحو وضع ترتيبات لتقليص المواجهة إلى الحدود الدنيا الممكنة، مع المحافظة على خرائط النفوذ الحالية، والتي تجري حاليا عملية بلورتها بشكل نهائي تقريبا من خلال المعارك الجارية على أكثر من محور في دونيتسك ولوغانسك، وعلى الضفة اليسرى لنهر دنيبر على تخوم خيرسون وزوباروجيا.

أيضا موسكو تحتاج على الصعيد الميداني، في هذه الفترة من الهدوء النسبي، استكمال تدريب جنود الاحتياط وتعويض النقص في الأسلحة والعتاد، وعلى الصعيد السياسي تحتاج لإعادة ترتيب الأولويات، وفحص آفاق استئناف الحوار مع الغرب.

كما تراهن موسكو على أن فترة الشتاء سوف تشكل اختبارا جدّيا يوضح مدى قدرة الأوروبيين على مواجهة النقص الحاد في إمدادات الطاقة، وتداعيات ارتفاع الأسعار والتضخم وتصاعد معدلات التذمر الشعبي في القارة الأوروبية. كما تراهن روسيا على ممارسة الأوروبيين ضغوطا إضافية لإجبار الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، على التفاوض لوقف الحرب.

لكن هذا لا يعني أن موسكو قد تذهب بعيدا في تخفيف الضغط العسكري بشكل أحادي، وهو أمر أظهره بوضوح ممارسة الضغط الأقصى خلال الأسابيع الأخيرة، عبر تكثيف الضربات على البنى التحتية الاقتصادية ومنشآت إمدادات الكهرباء والمياه، فضلا عن استهداف مراكز السيطرة والتحكم بشكل متزايد. وقد وجهت روسيا إشارة إلى قدرتها على مواصلة ممارسة هذا الضغط لحمل الغرب على إقناع زيلينسكي، بوقف الهجوم المضاد والاستعداد لفترة تجميد الصراع.

شروط أوكرانية

في مقابل التوجه الروسي لتجميد الصراع وإحياء الحوار مع الغرب وضعت أوكرانيا من جانبها شروطها لفتح قنوات التفاوض مجددا، وحدد زيلينسكي خمسة شروط للتفاوض مع روسيا، هي استعادة وحدة الأراضي الأوكرانية، واحترام ميثاق الأمم المتحدة، والتعويض عن كافة الأضرار التي تسببت فيها الحرب، ومعاقبة جميع مجرمي الحرب، وضمان عدم تكرار ما يحدث.

اللافت أن هذه الشروط لم تتضمن شرط عدم التفاوض مع الرئيس فلاديمير بوتين وانتظار “رئيس جديد لروسيا”، وهو ما ورد في مرسوم وقّع عليه زيلينسكي بعد ضم الروس المناطق الأوكرانية الأربع. ويدفع هذا إلى الاعتقاد بأن أوكرانيا قد لا تمانع في توفير فرصة لتخفيف حدة الصراع بشكل مؤقت وفتح المجال أمام الحوارات الروسية الغربية على ألا تتجاوز تلك الحوارات الخطوط الأساسية التي يتفق عليها الغرب حاليا مع كييف، أي أن كييف التي تدرك أن الطرفين الروسي والأميركي يميلان لتنشيط قنوات الحوار بينهما، تدفع نحو عدم إقرار الغرب بالوضع الميداني القائم وتثبيت مكاسب بوتين.

ما هو الموقف الأميركي؟

ترجيحات روسية تشير إلى أن فريقا من إدارة الرئيس جو بايدن، ومن ضمنهم سوليفان، يصر على إبقاء خط الاتصال مع روسيا مفتوحا، في إطار سعي الإدارة الأميركية لمنع وقوع تصعيد إضافي أو الانزلاق إلى مواجهة مباشرة بين حلف الأطلسي وروسيا، وهو أمر عكسته مواقف إدارة بايدن أخيرا، عبر تفضيل عدم التسرع في إلقاء اللوم على موسكو في حادثة سقوط صاروخ في بولندا، وإبلاغ الحلفاء في الحلف بأن المعطيات الاستخباراتية الأميركية دلت إلى أن الصاروخ جزء من دفاعات كييف الجوية.

أيضا من الواضح أن واشنطن تُفضل منح بوتين فرصة أوسع عبر تشجيع قنوات الحوار للامتناع عن استخدام أسلحة نووية تكتيكية، في حال أدرك أنه مقبل على خسارة ميدانية واضحة. ومن شأن نتائج الانتخابات النصفية في الولايات المتحدة وتقدم الجمهوريين في مجلس النواب، أن يزيد الضغوط على “البيت الأبيض”، خصوصا في ظل وجود توجه لدى كثير من الجمهوريين للتركيز على الأوضاع الداخلية وعدم تقديم دعم لا محدود لأوكرانيا.

خبراء روس يرون أن العناصر الأساسية المطروحة على أجندة الطرفين حاليا، تكمُن في ضبط الصراع ومنع تفاقمه، وتحديد آليات مراقبة عدم استخدام أسلحة نووية أو توسيع رقعة الحرب جغرافيا، ومحاولة الوصول إلى توافق على تجميد مؤقت للصراع المباشر على الأرض، ربما من خلال اتفاق على وقف لإطلاق النار لا يتضمن إقرارا مباشرا بمناطق النفوذ الحالية.

العامل الثاني في الرؤية الغربية القائمة على ضرورة منع بوتين من تحقيق انتصار واضح في أوكرانيا، ما يعني أن عمليات إمداد كييف واسعة النطاق بالأسلحة الغربية قد يتراجع قليلا لدى بعض البلدان لكنه لن يتوقف خلال الفترة المقبلة، وفي ظل هذه الظروف، يصعب الرهان على تقديم تنازلات من جانب كييف.

قرار المفاوضات أوكراني

“البيت الأبيض”، أكد يوم الجمعة الماضي، أن الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، وحده يستطيع الموافقة على بدء مفاوضات مع روسيا، رافضا فكرة ممارسة ضغوط أميركية على كييف، وقال جون كيربي، المتحدث باسم مجلس الأمن القومي، في تصريحات صحفية “نتفق جميعا على أن الحل الدبلوماسي التفاوضي هو أفضل الحلول الممكنة، باستثناء أن يقرر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين سحب قواته” من أوكرانيا.

الرئيس الأوكراني زيلينسكي “وكالات”

كيربي أضاف، “قلنا أيضا إن الأمر متروك للرئيس زيلينسكي ليقول ما إذا كان مستعدا ومتى سيكون مستعدا للمفاوضات، وما الشكل الذي ستتخذه تلك المفاوضات، وما من أحد في الولايات المتحدة يستطلع الأمر معه أو يصر أو يدفعه إلى طاولة المفاوضات”.

المفاوضات تزداد أهمية في ظل الضربات الروسية الكثيفة التي تستهدف البنية التحتية المدنية الأوكرانية، حيث صرح رئيس الأركان الأميركي الجنرال مارك ميلي مرتين مؤخرا، بأن هناك فرصة محتملة لبدء محادثات من أجل إيجاد حل سياسي للنزاع، في حين قال كيربي “الروس في وضع سيئ حقا، لذلك فإنك سترغب في التفاوض عندما تكون بوضع قوي وخصمك في موقف ضعيف”.

وسائل الإعلام الأميركية، ذكرت مؤخرا أن بعض كبار المسؤولين بدأوا في تشجيع أوكرانيا على التفكير في التفاوض، الأمر الذي رفضه زيلينسكي حتى الآن، والثلاثاء الماضي، قال وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، خلال قمة مجموعة العشرين، إن شروط أوكرانيا “غير واقعية” لبدء محادثات إنهاء الحرب.

مستقبل الحوار الأميركي الروسي

الموقفان الأميركي والروسي، يؤكدان أن مساعي إعادة إحياء قنوات الحوار الجارية حاليا بين موسكو وواشنطن لا يمكن أن تنطلق من وضع أسس لعملية تسوية كاملة للصراع حول أوكرانيا، وفي هذا الملف يمكن في أفضل الأحوال التوصل إلى تجميد مؤقت للمواجهة العسكرية المباشرة ستكون مفيدة للطرفين الروسي والأوكراني، كما بالنسبة إلى واشنطن وأوروبا المقبلة على استحقاق صعب في فصل الشتاء.

على الرغم من كل ذلك، فإن هذا لا يُقلل من أهمية الاتصالات التي بدأت تنشط، وخصوصا على مستوى الأجهزة الأمنية، والتي ربما يعقبها اتصالات روسية أميركية على المستوى الدبلوماسي، وهو أمر أشار إليه أخيرا السفير الروسي لدى واشنطن، أناتولي أنتونوف، عندما قال، إن بعض قنوات الاتصال لم تنقطع نهائيا بين الطرفين في كل الأحوال.

أيضا على الرغم من أن الحوارات التي يمكن أن تجري على هذا المستوى لا تصل إلى درجة مناقشة “الصفقة الشاملة” التي تسعى إليها موسكو، لكنها قد تضع مقدمات تمهيدية لمناقشة بعض القضايا العالقة التي تهم الطرفين، وبينها مثلا تمديد اتفاق “ستارت”، فضلا عن أنها قد تكسر حدّة التوتر وتسهم في تعزيز فرص الحوار لاحقا حول الملفات الكثيرة المتراكمة على أجندة الطرفين.

لا يمكن حتى الآن الجزم بمستقبل الحوار الأميركي الروسي، سواء حول أوكرانيا أو حول قضايا أخرى مشتركة بين البلدين، فروسيا في حالة تراجع بعد خسارتها خيرسون الأوكرانية، وهذا ما عزز موقف كييف التي لا تزال حتى الآن تحظى بدعم غربي وسط تصلب مواقفها والشروط التي تطرحها للتفاوض مع موسكو.

قد يهمك:هزائم بوتين تحيي شبح الضربة النووية في أوكرانيا

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.

الأكثر قراءة