مع دخول عمليات الغزو الروسي للأراضي الأوكرانية عامها الثاني، ووضوح تأثير العزلة الدولية والعقوبات الغربية على الاقتصاد الروسي، بدأت دول آسيا الوسطى وهي الدول الأعضاء في “الاتحاد السوفييتي” قبل انهياره نهاية القرن الماضي، محاولة الخروج من عباءة الاتحاد الروسي بزعامة فلاديمير بوتين.

هذه الدول بقيت بعد انهيار الاتحاد عام 1991، بمثابة حديقة خلفية لروسيا، وتحظى الأنظمة الحاكمة فيها بدعم روسي، وهيمنة غير مباشرة على السياسة والاقتصاد من قبل موسكو، إلا أن هذه الدول أصبحت لديها رغبة في الابتعاد عن روسيا، رغم مواجهتها العديد من العقبات والصعوبات لتحقيق هذا الهدف.

هذه الرغبة جعلت بالتأكيد الولايات المتحدة الأميركية، تتجه إلى آسيا الوسطى من أجل تعزيز علاقاتها مع الجمهوريات السوفييتية السابقة، سعيا منها لمواجهة النفوذ التاريخي لروسيا في هذه الدول، فهل يكون تعاون أميركا مع دول آسيا الوسطى، بداية لتبدد النفوذ الروسي في دول “الاتحاد السوفييتي” ضمن منطقة آسيا الوسطى.

واشنطن إلى آسيا الوسطى

في سعيه لتعزيز علاقات بلاده مع دول آسيا الوسطى التي أقلقتها العزلة الدولية على روسيا، سيقوم وزير الخارجية الأميركي بجولة على هذه الدول، حيث سيعقد الأخير محادثات يُفترض أن تبدأ الثلاثاء في كازاخستان ثم في أوزبكستان، على أن يلتقي في العاصمة الكازاخستانية أستانا وزراء خارجية الجمهوريات السوفياتية الخمس.

بالتأكيد لا يمكن لهذه الدول وإن فتحت قنوات التواصل مع الولايات المتحدة الأميركية إنهاء علاقاتها مع روسيا بهذه البساطة، نظرا للتداخل والتعقيدات بين الجانبين، فضلا عن التدخل الروسي في كافة شؤون هذه الدول منذ عقود، ذلك ما أشار له كبير مسؤولي وزارة الخارجية لشؤون جنوب آسيا الأمير دونالد رو، حيث أكد أن الولايات المتحدة تدرك أن الدول الخمس لن تنهي علاقاتها مع روسيا ولا مع الصين المجاورة التي تعزز وجودها في المنطقة. 

لكن المسؤول الأميركي أوضح أن بلينكن، “يريد إظهار أن الولايات المتحدة شريك يمكن الاعتماد عليه ومختلف عن روسيا والصين”، لافتا إلى أن واشنطن لديها ما تقدمه من حيث الالتزامات الاقتصادية، ما يدل على جدية الولايات المتحدة في العمل مع دول آسيا الوسطى لمساعدتها في الخروج من عباءة موسكو، على الرغم من أن هذه المهمة قد لا تبدو سهلة.

قد يهمك: الحل الأمني.. سياسة الرئاسة التونسية للتعتيم على الأزمة الاقتصادية؟

الخبير في الشأن الروسي والمحلل السياسي باسل معراوي، أوضح أن الأنظمة في دول آسيا الوسطى تحظى بدعم قوي من موسكو على مختلف الأصعدة، ما يسمح لروسيا السيطرة عليها والتحكم في شؤونها، في وقت تحرص فيه هذه الأنظمة على استمرار التبعية لموسكو من أجل الحفاظ على السلطة، مشيرا إلى أن واشنطن تمتلك العديد من الأوراق لتغيير واقع هذه الدول ومساعدتها للخروج من العباءة الروسية.

خيارات واشنطن

معراوي قال في حديث خاص مع “الحل نت”، “الجمهوريات السوفييتية لم تخرج من الجلد السوفييتي العتيق، ولم تهب عليها رياح الديمقراطية والتغيير، وتحظى تلك الانظمة بدعم قوي من موسكو سياسيا وعسكريا واقتصاديا وأمنيا، حيث تقمع أي حركة احتجاجية فيها بمساعدة روسيا، خاصة تلك التي تطالب بإنهاء التبعية لموسكو”.

الولايات المتحدة الأميركية تعمل برأي معراوي، على استثمار أي ثورة ملونة أو رغبة شعبية بالتخلص من الاستبداد المدعوم من روسيا، خاصة وأن تلك الدول ضعيفة الموارد باستثناء كازاخستان، التي ينخر الفساد في طبقتها الحاكمة، ويتمتع الضباط النافذون في الجيش والأجهزة الأمنية ورجالات المال بعلاقة وثيقة مع النظام الروسي .

 الأنظمة الحاكمة في هذه الدول، تحرص على استمرار التبعية لموسكو، لكن أثر العقوبات الغربية والحرب على أوكرانيا أضعفت كثيرا الاقتصاد الروسي، وبالتالي شكل شحّا أو انقطعا في الدعم اللازم لاستمرار تلك الأنظمة، كما أن الانشغال الروسي أمنيا وعسكريا بالحرب أضعف من القبضة الروسية كثيرا على تلك الدول.

حول ذلك أضاف معراوي، “تستطيع الولايات المتحدة مساعدة تلك الدول كثيرا بالمساهمة في تحريك ودعم ثورات شعبية، وإشعال الحرائق في الخاصرة الروسية الرخوة والتي لا تملك خيارات كثيرة لمواجهتها، الأمر الذي سيضعف روسيا كثيرا بإخراج تلك الدول من هيمنتها وبالتالي حرمان موسكو من مرتزقة يقاتلون إلى جانبها في أوكرانيا وخسارة مجال حيوي مهم لموسكو”.

ما يدل كذلك على أن حكومات هذه الدول بدأت كذلك بالضغط على الجانب الروسي بعد انخفاض الدعم والموارد المقدمة إليها، امتناعها الخميس الماضي عن التصويت، على قرار من الجمعية العامة للأمم المتحدة بانسحاب فوري للقوات الروسية من أوكرانيا، هذا الامتناع قد يكون واحدا من أسبابه الخوف من ردة فعل المحور الغربي في حال التصويت لصالح روسيا.

رغبة حقيقية بالابتعاد عن روسيا؟

إذاً فهناك رغبة حقيقية على ما يبدو في الابتعاد عن روسيا، حيث ترى هذه الدول باستثناء بعض رجال ورموز الأنظمة الحاكمة المستفيدين من التبعية لروسيا، أن الأخيرة أصبحت تمثل تهديدا لهم، في وقت لا يترك الوضع الجغرافي والاقتصادي لهذه الدول لهم الكثير من الخيارات، فهل ستكون أميركا الخيار الأنسب للخروج من الهيمنة الروسية.

حتى الآن دول آسيا الوسطى لم تجد نفسها، فلا هي قادرة على الاستمرار في تبعيتها لروسيا، خاصة مع استمرار الحرب والعقوبات الغربية، ولا تستطيع خلع العباءة الروسية بهذه السهولة، لا سيما مع وجود العديد من الاتفاقيات الاقتصادية والأمنية التي تربطها مباشرة مع موسكو، فضلا عن النفوذ الأمني والاقتصادي التي تتمتع به روسيا في المنطقة منذ عشرات السنين.

بحسب تقرير لـ “الشرق الأوسط”، فإن كازاخستان، التي تتشارك مع روسيا حدودا تمتد على 7500 كيلومتر، تعد علاقاتها الأكثر تعقيدا مع موسكو؛ فقد كانت البلاد مراعية لحقوق الأقلية الروسية الكبيرة، خصوصا بعدما ذكر الرئيس فلاديمير بوتين، الدفاع عن الناطقين بالروسية من بين أسباب غزوه لأوكرانيا. 

ووفق تقارير ودراسات متعددة، فإن ظروف التاريخ والجغرافيا أجبرت جمهوريات آسيا الوسطى والقوقاز أن تبقى تابعة لموسكو بشكل أو بآخر حتى بعد انهيار “الاتحاد السوفييتي”، رغم خروجها من القفص الروسي الحديدي الذي ظلت تكتوي به لقرون سواء بنسخته القيصرية أو السوفييتية، وذلك لأن من تمرد على موسكو بعد انهيار “الاتحاد السوفييتي” لاقى عقابا فوريا.

كما أن الجغرافيا جعلت مصيرها في يد روسيا، فدول آسيا الوسطى والقوقاز التي تقع في قلب العالم، لا تلاصق أي بحار سوى بحر قزوين المغلق باستثناء جورجيا، والطرق التي تربطها بالعالم، لا تمر إلا عبر ثلاث قوى كبرى، وهي روسيا والصين وإيران إضافة لأفغانستان المضطربة، وهناك طريق وحيد يربط أذربيجان وأرمينيا بالبحر الأسود عبر جورجيا.

أما أذربيجان نجحت في الحفاظ على قدر من الاستقلال والعلاقة المتوازنة مع موسكو والغرب، مستندة في ذلك لثراء مواردها الطبيعية وحاجة الغرب لها بسبب نفطها من ناحية، ولمناكفة طهران من ناحية أخرى، ثم أخيرا التحالف الوثيق مع تركيا الذي أثمر انتصارا أذربيجانيا على أرمينيا في عام 2020.

مع إصرار روسيا على معاداة الغرب واستمرار عملياتها العسكرية في أوكرانيا، فإن مصالح جمهوريات “الاتحاد السوفييتي” السابق في آسيا الوسطى الآن بدأت تتعارض بشكل كبير مع موسكو، ورغم قلة خيارات هذه الدول إلا أننا على أعتاب مشاهدة خطوات عملية بدعم ربما من الولايات المتحدة الأميركية من أجل انتهاء هيمنة روسيا على هذه الدول.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.