يوم حافل وعصيب عاشته القيادة في موسكو، وحبس العالم أنفاسه بسبب الصراع الخفي الذي بلغ ذروته بين “وزارة الدفاع الروسية” وطباخ وحليف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، القديم، يفغيني بريغوجين، رجل الأعمال وقائد ميليشيا “فاغنر” العسكرية، والذي أطلق عليها “جيش بوتين الخاص”.
هذا الصراع تحول إلى تمرد مباغت استمر لمدة 24 ساعة من قبل “فاغنر” ضد القيادة العسكرية الروسية، والذي كان من الممكن أن يؤدي بالبلاد إلى حرب أهلية، حيث اعتُبر أخطر أزمة للسلطات الحاكمة في تاريخ روسيا الحديثة، ولكن سرعان ما تبدلت المواقف وتوصل بريغوجين و”الكرملين” لمهادنة بوساطة دولة بيلاروسيا، أنتهت بمقتضاها هذا التمرد.
تمرّدُ “فاغنر” ربما يكون التحدي الأصعب الذي يواجه بوتين خلال أكثر من عقدين من وجوده في السلطة، حيث هدد دخول قوات المرتزقة في وسط روستوف، وسيطرتها على عدد من المنشآت العسكرية في منطقتي روستوف وفورونيج، والوصول إلى بُعد 200 كيلومتر من العاصمة موسكو، استقرار نظامه السياسي الحاكم في روسيا.
أطماع ومشاريع السياسة الخارجية لموسكو في العديد من الدول وخاصة قارة إفريقيا، اعتمدت بشكل كبير على مجموعة “فاغنر”، وبالتالي فإن تأثير هذا التمرد في روسيا يوم السبت الماضي، سيمتد إلى الدول التي يتواجد فيها نفوذ روسيا، مثل العديد من الدول الإفريقية، حيث تنشط قوات “فاغنر” فيها سواء بشكل علني أو سرّي.
هذا التمرد يثير عدة تساؤلات حول تداعياته على النظام السياسي في روسيا، ومستقبل النفوذ الروسي في إفريقيا، وخاصة السودان وليبيا، حيث تلعب مجموعة “فاغنر” دورا مؤثرا في تحقيق الأهداف والمصالح الاستراتيجية مثل حقول النفط وتجارة الذهب، وإذا ما كانت تحولات القيادة بها ستُلقي بظلالها على واقع المجموعة في القارة السمراء، أم أنها ستستمر في استخدامها كذراع لبسط نفوذ موسكو في القارة، وسط منافسة دولية سياسية وعسكرية محمومة.
تصدعات في النظام السياسي الروسي؟
بريغوجين مساء يوم الجمعة الفائت توجه للإعلان إلى أن شرور القيادة العسكرية الروسية يجب أن تتوقف، وأن مقاتلي مجموعة “فاغنر” سيقودون مسيرة من أجل العدالة ضد الجيش الروسي ويستعدون للذهاب إلى أبعد مدى في معارضتهم للجيش، وفي اليوم التالي تقدم مقاتلو المجموعة نحو موسكو للإطاحة بما وصفوه بالقيادة العسكرية الروسية “الفاسدة والتي تفتقر للكفاءة”، قبل أن يتغير موقفه فجأة عبر رسالة صوتية صباح اليوم التالي، حيث قال فيها بريغوجين إن “كتائبنا تستدير وتغادر في الاتجاه المعاكس للمعسكرات الميدانية وفقا للخطة”، إدراكا منه للمسؤولية الكاملة وحقنا للدماء الروسية التي ستراق على أحد الجانبين، وفق العديد من التقارير.
قوات “فاغنر” انسحبت إلى منطقة تسيطر عليها روسيا في شرق أوكرانيا بعد اتفاق مع “الكرملين” توسط فيه الرئيس البيلاروسي، ألكسندر لوكاشينكو. وتضمنت الصفقة منح حصانة للمتمردين من الملاحقة القضائية مقابل عودتهم إلى معسكراتهم، لكن ليس واضحا إذا كان بوتين وافق أيضا على تغيير القيادة العسكرية العليا أو تقديم أي تنازلات أخرى.
حول ذلك، اعتبر وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، يوم أمس الأحد، أن تمرد بريغوجين، يكشف وجود تصدعات حقيقية على مستوى سلطة بوتين، مؤكدا في تصريحات لشبكة “سي بي أس” الأميركية أن تمرد قائد “فاغنر”، شكّل تحدّيا مباشرا لسلطة بوتين، وهذا الأمر يثير تساؤلات كبرى، ويظهر مدى وجود تصدعات حقيقية.
الكاتب والمحلل السياسي، ميّار شحادة، يرى أن بريغوجين كان واضحا تماما في تحركاته باتجاه “وزارة الدفاع الروسية”، بمعنى أنه كان محتج على أشخاص بالنظام الروسي. وبالنظر إلى أن قوات “فاغنر” ليست قوات نظامية بل هي شركة أمنية خاصة، ومعظمهم من السجناء السابقين ولديهم أحكام وسوابق، وبالتالي فهم ليسوا مهنيين بالطريقة العسكرية التقليدية في وزارة الدفاع، وبالتالي قد يكون تولي مناصب عامة أمرٌ صعب، ولذلك أراد بريغوجين الانقلاب على الشخصيات المقربة من بوتين، وليس شخص بوتين نفسه.
شحادة استدرك ذلك لموقع “الحل نت” بالقول “ظهر ذلك في مقاطع الفيديو الخاصة ببريغوجين على مدار الشهر والنصف الماضيين، حيث كان يتحدث عن وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو، ونائب رئيس مجلس الأمن الروسي دميتري ميدفيديف، ولوحظ أنه لم ينتقد الجانب السياسي مثل وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، ودائما ما كان يذكر بوتين بمعرفة ما يجري حوله، ولم ينتقد حليف بوتين، رئيس جمهورية الشيشان رمضان قديروف، بل انتقد صراحة ومباشرة كل قريب من وزارة الدفاع وأنهم لا يعملون على أكمل وجه، بل يتم الطلب من فاغنر بإتمام العديد من المهام العسكرية ولا سيما في المعارك في أوكرانيا”.
بالتالي، فإن التمرد الذي حصل، بحسب وجهة نظر شحادة، كان بالدرجة الأولى ضد القيادة العسكرية. ويشير هذا بشكل خاص إلى مدى هشاشة النظام الروسي وضعف الولاء لبوتين واستراتيجيته.
فرضيتين حول تمرد “فاغنر”
في العالم الغربي، وتحديدا ألمانيا حيث يقيم شحادة فيه، يقول كان هناك فرضيتين حول تمرد “فاغنر”. الأول هو أن هذه الخطة كانت مدروسة جيدا بين بوتين وبريغوجين، فالذين حللوا هذه الفرضية يقولون إن بريغوجين عاد من أوكرانيا مباشرة إلى روسيا بسلاسة ودون أن يتعرض لهجوم أو قتال، وهذا يشير إلى أن الأوامر صدرت من قبل بوتين بعدم مهاجمته، وهو مؤشر على وجود اتفاق بين الطرفين.
لكن شحادة يرى أن هذه الفرضية مشكوك فيها، بالنظر إلى أن هذا التمرد أظهر ضعف بوتين والانقسام الحاد لدى نظامه، وأن الجيش الروسي يحتاج لقوات “فاغنر” والقوات الشيشانية، وهذا يعني أن كل المكاسب من خدمات “فاغنر”، سواء في بيلاروسيا أو استخدام “فاغنر” ضد الأوروبيين كأشخاص استخباراتيين، يقابلها سلبيات جمّة.
أما بالنسبة للفرضية الثانية، هي أنه في الواقع كان هناك صراع بين الطبقة الحاكمة الأوليغارشية، حيث شعر قائد “فاغنر” بالقوة وبالطبع هذه القوة مستمدة من بوتين، بالنظر إلى أن الأخير هو الذي قام برعاية هذه المجموعة وحاز بريغوجين على ثقته وأسراره، ونال الأوسمة والألقاب في قاعات “الكرملين”، وبالتالي شعر بريغوجين أن الوقت قد حان لأن يصبح جزءا من القرار في روسيا، خاصة وأن وزارة الدفاع لم تعد مؤخرا تموّل المجموعة بالسلاح، وفق شحادة.
غير أن هذه الفرضية مشكوك فيها أيضا، نظرا لأن بوتين لم يقمع أو يسحق هذا التمرد، رغم أنه أي بوتين سمّم وطارد أشد معارضيه، أليكسي نافالني، أمّا بالنسبة لـ “فاغنر” فلم يتم اتخاذ أي نوع من هذه التحركات ضدها، على الرغم من أن الرئيس الروسي بدا منزعجا جدا من هذا التمرد الحقيقي ضده، وفق شحادة.
هذا العجز في قمع بريغوجين كما بدا في خطاب بوتين، يعود لوجود أصول وأسرار كبيرة في يد بريغوجين ضده، وفق ما يحلله شحادة والتي يمكن تسريبها إلى وسائل الإعلام أو تسريبها إلى الآخرين. وهذه التسريبات قد تكون انتهاكات ارتُكبت في أماكن حساسة والملفات الحديثة مثل السودان وسوريا، أو آليات تمدد موسكو في القارة الإفريقية، وخلفيات نشاط “فاغنر” في هذه المنطقة ومناطق أخرى، وهذا يعني حقّا كارثة بالنسبة لبوتين ومستقبله، خاصة وأن روسيا منهكة بالعقوبات الغربية، وسط احتدام التنافس الدولي على النفوذ في إفريقيا.
بوتين إثر سيطرة “فاغنر” على روستوف ظهر في خطاب رسمي وقال “إن الخونة سيتحمّلون المسؤولية أمام الدولة، والأجهزة الأمنية تلقت أوامر صارمة بمكافحة الإرهاب، وإعادة الوضع إلى طبيعته”، واصفا ما حدث بـ”خيانة وطعنة في الظهر”، وأن مَن نظّموا التمرد المسلح وصوبوا سلاحهم على رفاقهم في القتال خانوا روسيا، ولن يفلتوا من العقاب.
لكن سرعان ما بدّل في موقفه، حيث أعلن “الكرملين” بعد خطابه العاطفي أنه سيسقط الدعوى الجنائية ضد بريغوجين الذي سيغادر إلى بيلاروس بناءً على اتفاق توصل إليه لوكاشينكو بالتنسيق مع بوتين. هذا يدل على مدى حجم الخبايا في جعبة بريغوجين حول النظام الروسي، وضعف بوتين إزاء ذلك.
في مستهل مقال نُشر في صحيفة “واشنطن بوست” الأميركية، مؤخرا، جاء فيه أن “الرئيس الروسي نظر يوم السبت إلى الهاوية وأغمض عينيه، بعد أن تعهد الانتقام مما سماه تمردا مسلحا، ثم وافق على حل وسط، وقد يكون ذلك بغية إنقاذ نظامه، هذا اليوم سيُذكر كجزء من تفكك روسيا بصفتها قوة عظمى، وسيكون الإرث الحقيقي لبوتين”.
التداعيات على نفوذ روسيا
بالاستناد إلى أن زعيم “فاغنر” مقتنع بضرورة خوضه حروبا في أوكرانيا، باعتبار أنه طباخ ورجل يمتلك تجارة، وبالتالي فهو يفكر بعقلية التاجر بأي حرب أو توتر قد يفيد جماعته وقواته، وهو الذي يجمع ثروته عادة من خوض الحروب بنشر قواته كميليشيا لتحقيق مشاريع روسيا الاستراتيجية، وبالطبع هدفه هو جمع الأموال وتوسيع نفوذ تجارته، طبقا لحديث شحادة.
بالتالي فإن هذا التمرد ومن ثم إنهائه بصفقة غامضة، سيترك تداعيات جمّة على مستقبل النفوذ الروسي في إفريقيا، فاستمرارية موسكو في التوظيفَين السياسي والاستراتيجي لـ”فاغنر” في القارة ولا سيما في السودان وليبيا بغية تحقيق استراتيجية روسيا هناك، سيكون موضع شك، ذلك لأن تخلي بريغوجين عن أعماله الذهبية في القارة وخاصة في مناجم الذهب والأعمال المثمرة له هنا أمر غير وارد، وفي الوقت ذاته من الصعب استمرار الشراكة بين “فاغنر” و”الكرملين”.
مجموعة “فاغنر” تمتلك في إفريقيا شبكات للاتجار بالبشر وشبكات غسيل أموال وغيرها من الأعمال غير المشروعة، وهذه المجموعة خارجة عن القوانين ولا ينظمها قانون الدولة أو المحاكمات العسكرية، ولكنها تتمتع بنوع من الحصانة السياسية من القائد العام للقوات المسلحة التي بناها بوتين.
بالنظر إلى أن لديهم المليارات والعديد من العلاقات الجيدة مع حكومات دول إفريقيا والسلطات المحلية هناك، فإن نفوذ موسكو في القارة السمراء بوضع صعب وخاصة مواقف حكومات تلك الدول والأطراف السياسية من حكومة روسيا وقوات “فاغنر” كل على حدة، إلى جانب مخاوف من حدوث توترات في دول تواجد “فاغنر”، ذلك لأن هذه الدول ستعيد حساباتها بعد الأزمة التي حصلت في روسيا، لكن من الصعب إخراج “فاغنر” وتسليم كل شيء لميليشيا أخرى قد ترغب بها موسكو وهو ما سيقوّض مشاريعها في النهاية، وإن لم تظهر هذه التداعيات بشكل مباشر في الوقت الراهن.
سيناريوهات بوتين
شحادة يقول في سياق متّصل إن “الاتحاد الروسي” قائم على المصالح، وأن الطبقة الحاكمة الأوليغارشية قد فشلت في الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والصناعية كلها، ومنذ جلوس بوتين على كرسي الرئاسة، بدأ بحرب الشيشان ثم الحرب الجورجية ثم المناوشات مع مولدوفا ورومانيا واحتل شبه جزيرة القرم عام 2014، وفي عام 2015 تدخل في الحرب السورية إلى جانب الرئيس السوري بشار الأسد، إضافة إلى توسع أطماعه في إفريقيا، ومؤخرا الخوض علنا في الأزمة السودانية، وكل ذلك بالتعاون مع “فاغنر” خاصة في إفريقيا.
لذلك، بحسب اعتقاد شحادة، لا يريد بوتين أو لا يستطيع تجريد قوات “فاغنر” من رصيد الامتيازات، لكنه في نفس الوقت لن ينسى هذا التمرد الذي اعتبره بوتين “طعنة في الظهر”.
عليه وعلى اعتبار أن جزءا من قوات “فاغنر” ستوقّع حتى مطلع الشهر المقبل عقودا مع الجيش الروسي، فإن بوتين يسعى بذلك إلى سحب ولاء قوات هذه المجموعة من بريغوجين، وسيقوم بعدة إجراءات بغية إغراء قوات المجموعة لصالح الجيش الروسي.
تاليا، وعلى اعتبار أن لوكاشينكو حليف لبوتين، فإن الأخير قد يقوم بإنهاء قوة بريغوجين بصمت وهدوء، لكن لا يمكن التنبؤ بهذه الأمور بدقة في الوقت الحالي، والفترة القادمة ستكون مثيرة للغاية وستظهر الكثير من الأسرار حول هذا الأمر، وفق شحادة.
كما أن بوتين لا يستطيع إنهاء حياة بريغوجين، لأسباب تتعلق باحتفاظ الأخير بأسرار كبيرة عن بوتين ونظامه، وعليه، عقد هدنة مع بريغوجين وأخذه إلى بيلاروسيا، ويريد أن يتأكد أولا أن قيادات “فاغنر” الموجودة في إفريقيا وقوات الاحتياط البالغ عددهم بالآلاف في مناطق نفوذ روسيا، مثل فنزويلا وسوريا وإفريقيا، باتوا تحت ولاء الجيش الروسي وأوامر الدولة الروسية.
خاصة وأن قوة بريغوجين قد توسعت ماليا وعسكريا بشكل كبير في السنوات الأخيرة عبر قواته، وبعد استكمال إعادة تحديد “فاغنر” وإعادة تشكيل علاقتهم بالدولة الروسية، إذا ما سيكونون أعضاء مباشرين في الجيش أم سيعودون للعمل مع المافيات وستلعب المخابرات الروسية دورا بارزا هنا، وبعد ذلك قد يذهب بوتين لإنهاء حياة بريغوجين، إلا أن هذا ليس بالأمر السهل.
في المقابل لن يقف بريغوجين مكتوف الأيدي، حيث سيتبع أيضا توجيهات جديدة خاصة به. وقد يؤدي إضعاف موقع قواته “فاغنر” في روسيا أو حتى في أوكرانيا إلى مزيد من التركيز على الوجود الخارجي، خاصة في إفريقيا، بحيث سيعزز من تواجد قواته ونفوذه، وسط الفراغ الأمني الكبير بالقارة السمراء.
عليه، فإن سيناريوهات عدة أمام مستقبل النفوذ الروسي وكذلك قوات “فاغنر” في العديد من الدول، فإما أن يتم ضم “فاغنر” للجيش الروسي بمراسيم خاصة أو ضمها لميليشيا أخرى وبغطاء روسي، وهو أمر سيكون صعبا للغاية، أو أن نفوذ بوتين سيتضاءل شيئا فشيئا، خاصة في إفريقيا أماكن تواجد “فاغنر” بكثافة، وهذا هو السيناريو الأكثر ترجيحا حتى الآن، بالنظر إلى أن بريغوجين لن يتخلى عن مصالحه الاقتصادية الكبيرة التي حققها خلال السنوات الماضية.
- وفيق صفا.. ما الذي نعرفه عن أول قيادي ينجو من ضربات إسرائيل
- ما بين النفط والموقع الاستراتيجي.. الصين عينها على السودان
- بموافقة 26 دولة.. مجلس حقوق الإنسان يعتمد قرارا حول سوريا
- إسرائيل تحيّد قائد وحدة الصواريخ بقوة “الرضوان” واستهداف جديد لـ”اليونيفيل”
- العراق وتعديل قانون الأحوال الشخصية.. الرجعية تكسر التنوير!
هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.