في أعماق الساحل الإفريقي، بدأ تنظيم “داعش” الإرهابي بنشر جناحه المظلم محققا تقدما غير مسبوق. فمع مرور الوقت، وجدت المناطق الساحلية نفسها تتعرض لهذا الوباء الإرهابي، وتقف أمام خيارات حرب جديدة بسبب “داعش”، وما يثير الاستغراب العلاقة بين مالي وغينيا في هذا السياق المثير للغموض.

المنظمة الإرهابية باتت تتمتع بمساحة كبيرة على معظم الساحل الإفريقي، تمتد جنوبا من الصحراء الكبرى. فبعد أن انهارت مالي، توقع البعض أن تكون بوركينا فاسو هي الحاجز الأخير لمواجهة طوفان عنف التنظيم. ولكن المفاجأة كانت مروّعة، فقد اجتاحت “داعش” جميع مناطقها باستثناء العاصمة واغادوغو. حيث كشفت الأحداث الأخيرة عن واقع مرير، إذ تبدو مالي كنقطة البداية، وحجر الدومينو الأول الذي تحرك وأسقط في طريقه القطع الأخرى.

لكن هل هذا الانتشار الخطير يعود فقط إلى “داعش” ونشاطه المتزايد، أو هناك عناصر أخرى تلعب دورا في هذه المأساة المتزايدة، وما العوامل التي ساهمت في استسلام مالي للجهاديين وتحويلها إلى مركز لانتشار “داعش” في المنطقة، وما الآثار المحتملة لتوسع “داعش” في خليج غينيا على المنطقة والأمن الإقليمي والدولي بشكل عام.

حكومات عسكرية في ورطة

يبدو أن “داعش”، الذي ينافس تنظيم “القاعدة” يستفيد من هذه الفرصة، ويسعى إلى التوسع في خليج غينيا، بعد أن استولى على العديد من مناطق مالي وبوركينا فاسو، وهدفه النهائي هو الوصول إلى شواطئ البحر، متسلحا بالإرهاب والدمار.

استراتيجية سحب القوى الغربية فسحت المجال أمام الجماعات التكفيرية - إنترنت
استراتيجية سحب القوى الغربية فسحت المجال أمام الجماعات التكفيرية – إنترنت

حكام الدول الإفريقية يواجهون تحديا استثنائيا مع التقدم الذي يحققه تنظيم “داعش” غرب القارة السمراء، حيث أصبح من الواضح أن التحالف مع شركة “فاغنر” الروسية لا يمكن أن يكون بديلا فعّالا للقوات الدولية.

أحداث الأشهر الماضية في مالي أظهرت أن البلاد استسلمت لقوى الجهاد المتطرف، حيث أصبحت نقطة أساسية لمركز انتشار التنظيم في المنطقة، فالتقدم الذي حققه التنظيم الإرهابي في مالي يعود إلى رحيل القوات العسكرية الغربية، وما تبعه من سحب قوات الأمم المتحدة “مينوسما”، مما أضعف النظام العسكري الذي تمكن من السيطرة على الحكم وجعله عاجزا عن التعامل مع تداعيات الأوضاع المتفاقمة بسبب حلفه مع موسكو و”فاغنر”.

تنظيم “داعش” تمركز في المناطق الاستراتيجية الرئيسية، ولا سيما في مثلث الموت المعروف بين مالي والنيجر وبوركينا فاسو قرب الحدود النيجرية. ويُعتبر هذا المثلث مكانا حيويا لتهريب البضائع والأسلحة والمتمردين المسلحين والمخدرات والمهاجرين عبر الحدود. وتشكل كل هذه الأنشطة مصادر دخل رئيسية للجماعات التكفيرية.

مناطق تانجدجورن وهورارا وفتلى وتيسي شهدت هي الأخرى عودة فرع “داعش” في الساحل والصحراء الكبرى، حيث استعاد التنظيم نشاطه وسيطرته باستخدام أساليبه التقليدية المعتادة. ويتمثل ذلك في إخضاع المناطق لسيطرته عن طريق ترويع السكان والقمع العنيف للمخالفين والتصفية الجماعية والسطو على الممتلكات وإجبار السكان على النزوح بالقوة.

القصة بدأت في مالي

في سياق المطالبة التي قدمتها مالي لانسحاب حوالي 12 ألف جندي من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة بعد عشر سنوات من تواجدها في مواجهة التطرف والتمرد، قام القادة العسكريون بإطلاق سراح اثنين من القيادات البارزة في تنظيم “داعش”.

الفوضى والاضطراب ليست مقتصرة فقط على مالي - إنترنت
الفوضى والاضطراب ليست مقتصرة فقط على مالي – إنترنت

الصفقة التي تمت بغموض وسرية ظهرت كنصر سياسي ملفت لفرع تنظيم “داعش” في الساحل والصحراء الكبرى، حيث أثبت نفسه كلاعب رئيسي في المنطقة. وأصبح التنظيم يتصرف ككيان دولة شبه مستقلة يسيطر على مساحات شاسعة في شمال مالي، ومن ثم اجتاح معظم المناطق التي خارج نطاق سلطة الحكومة في بوركينا فاسو.

لم تعد الفوضى والاضطراب مقتصرة فقط على مالي، بل سقطت مؤخرا بوركينا فاسو في هذا الوضع العصيب. حكومتها العسكرية تسيطر على أقل من نصف المساحة الإجمالية للبلاد، في حين يسيطر المتمردون والتكفيريون على العديد من المدن الرئيسية ويحاصرون مئات الآلاف من السكان.

بعد سقوط بوركينا فاسو، أصبح الاعتماد على تحصين دول الشريط الساحلي ضروريا، مثل ساحل العاج وبنين وتوغو وغانا، بالإضافة إلى السنغال التي تعد أكثر دول المنطقة كثافة سكانية. تتطلع الجماعات التكفيرية المتمردة، بقيادة تنظيم “داعش”، إلى تعزيز نفوذها في جنوب الشريط الساحلي وتسعى للانتشار عبر الحدود في خليج غينيا.

الحاكم العسكري لبوركينا فاسو، إبراهيم تراوري، الذي تولى السلطة بعد انقلاب عسكري أطاح بالرئيس المؤقت بول هنري سانداوغو داميبا في أيلول/سبتمبر من العام الماضي، قام بارتكاب نفس أخطاء نظرائه في مالي، فقد قطع الشراكة مع فرنسا جزئيا وأنهى مهمة بعثة الأمم المتحدة، وفضل اتحاد جيشه والقوة الروسية من فرقة “فاغنر”.

بوصلة “داعش” تنشط

بحسب ما ذكرته الباحثة في شؤون الجماعات الإسلامية والمتطرفة، شيماء حسين، خلال حديثها لـ”الحل نت”، هناك عدة عوامل ساهمت في استسلام مالي للجهاديين وتحويلها إلى مركز لانتشار تنظيم “داعش” في المنطقة. أبرزها  ضعف الحوكمة والقدرة المؤسسية في مالي الذي أدى إلى خلق فراغ في السلطة، مما سمح للجماعات المتطرفة باستغلال الوضع. 

عناصر الجيش النيجيري في مواجهة تنظيم "داعش" - إنترنت
عناصر الجيش النيجيري في مواجهة تنظيم “داعش” – إنترنت

أيضا تمرد انفصاليي الطوارق في عام 2012 ساهم بزعزعة استقرار البلاد وخلق بيئة مواتية للجماعات الجهادية. بالإضافة إلى ذلك، أضعفت الاستجابة غير الفعالة لقوات الأمن المالية التي تحالفت مع “فاغنر” الروسية، والتي اتسمت بالفساد وعدم كفاية التدريب ونقص الموارد، من قدرتها على مواجهة التهديد الجهادي.

علاوة على ذلك، فرضت العوامل الاجتماعية والاقتصادية مثل الفقر والبطالة وتهميش مناطق معينة إلى تأجيج المظالم التي استغلتها الجماعات المتطرفة للتجنيد. كما أدى انتشار الأسلحة في منطقة الساحل إلى تسهيل توسع الجماعات الجهادية.

في سياق التنافس مع الجماعات الموالية للقاعدة في المنطقة، يهدف تنظيم “داعش” بحسب حسين إلى ترسيخ هيمنته وتوسيع نفوذه. إذ يتنافس كلا من “داعش” و”القاعدة” على الموارد والمجندين والسيطرة على الأراضي. ويخلق التنافس بينهما ديناميكية معقدة، حيث يتنافسان على السيادة ويسعون إلى التفوق على بعضهما البعض في تنفيذ الهجمات، وكسب الدعم من المجتمعات المحلية، وتأمين التمويل.

تنظيم “داعش” يمثل نهجا أكثر عدوانية وتوسعية، حيث يسعى إلى تحدي الهيمنة التقليدية لـ “القاعدة” في المنطقة. ويمكن أن يؤدي هذا التنافس إلى زيادة العنف وعدم الاستقرار حيث تتنافس المجموعتان على الهيمنة والسعي لإظهار قدراتهما على جذب الأتباع وكسب الدعم.

أهداف “داعش” من وراء توسعها في خليج غينيا تشمل تعزيز وجودها في غرب إفريقيا، والوصول إلى طرق التهريب المربحة، والسيطرة على الموارد القيمة مثل التجارة غير المشروعة والموارد الطبيعية وتهريب المخدرات. ومن خلال التوسع في هذه المنطقة، يهدف التنظيم طبقا لحديث حسين، إلى تأسيس موطئ قدم إقليمي، وتوليد الإيرادات من خلال الأنشطة غير المشروعة، واستعراض القوة خارج معاقلها التقليدية.

علاوة على ذلك، يُلاحظ نفوذ روسيا في توسع “داعش” من خلال دعمها للشركات العسكرية الخاصة مثل “فاغنر”. إذ تشير حسين، إلى أن هذه الشركات التي تعمل تحت مظلة المصالح الروسية، قدمت المساعدة العسكرية والتدريب للقوات المحلية في المنطقة. وقد سمح هذا الدعم لـ “داعش” باستغلال الفراغ الأمني الناتج عن انسحاب القوات الغربية، مما مكّن من توسعها وتعزيز نفوذها.

الحرب على الأبواب

الخبير في الجماعات المتطرفة، أندرو سيليباك، أوضح لـ”الحل نت”، أن توسع التنظيم الإرهابي يفرض تحديات أمنية واستراتيجية كبيرة على غرب إفريقيا. إذ إنه يهدد بتفاقم الصراعات القائمة، وتقويض الحكم والاستقرار، وإدامة العنف والإرهاب. فوجود “داعش” في المنطقة لديه القدرة على تأجيج التطرف، وتجنيد الأفراد الساخطين، وتعزيز انتشار الأيديولوجيات المتطرفة.

شن مقاتلو "داعش" في غرب إفريقيا سلسلة من العمليات - إنترنت
شن مقاتلو “داعش” في غرب إفريقيا سلسلة من العمليات – إنترنت

بالإضافة لذلك، فإن سيطرة “داعش” على الأراضي والموارد تمكنه من تمويل عملياته وتجنيد المقاتلين وإقامة ملاذات آمنة. وهذا يعيق كذلك الجهود المبذولة لمواجهة الجماعة بشكل فعال. كما أن الطبيعة العابرة للحدود لأنشطة “داعش” تعقد التعاون الأمني الإقليمي وتتطلب جهودا منسقة لمنع انتشارها واحتواء نفوذها.

إن التصعيد الخطير لـ “داعش” في غرب إفريقيا يشكل خطر اندلاع حرب جديدة في المنطقة. إذ إن قدرة المجموعة على السيطرة على مناطق مهمة، وإنشاء هياكل حوكمة، واستغلال المظالم المحلية تخلق بيئة متقلبة يمكن أن تتصاعد إلى صراعات أوسع، بحسب سيليباك. كما أن وجود الجماعات المسلحة المتنافسة، وانتشار الأسلحة، واحتمال إقامة تحالفات وتحالفات مضادة بين مختلف الجهات الفاعلة، كل ذلك يزيد من خطر اندلاع اشتباكات عنيفة ويزيد من عدم الاستقرار.

إن توسع التنظيم في منطقة خليج غينيا له تداعيات محتملة على الأمن الإقليمي والدولي. لأنه بتوقع سيليباك يؤجج عدم الاستقرار والعنف والإرهاب، والذي يمكن أن يمتد إلى البلدان المجاورة ويؤثر على الأمن العالمي. وقد يؤدي وجود “داعش” في هذه المنطقة الاستراتيجية إلى تعطيل طرق التجارة البحرية، وتهديد البنية التحتية للطاقة، وتسهيل الأنشطة غير المشروعة مثل تهريب الأسلحة والمخدرات.

علاوة على ذلك، فإن ضعف المنطقة أمام الأيديولوجيات المتطرفة تشكل مخاطر ليس فقط على المجتمعات المحلية؛ ولكن أيضا على الجهات الفاعلة الدولية. ويمكن أن يؤدي انتشار نفوذ “داعش” في خليج غينيا إلى جذب مقاتلين أجانب، وخلق ملاذات آمنة لتخطيط وتنفيذ الهجمات، وتوفير قاعدة لإبراز نفوذه خارج المنطقة.

إن انسحاب القوات الغربية وتوقيع الحكومات العسكرية المنقلبة على الديمقراطية اتفاقيات مع موسكو و”فاغنر” له تداعيات أمنية وسياسية في المنطقة. حيث خلق انسحاب القوات الغربية، ولا سيما تلك التي تقدم الدعم والتدريب، فراغا أمنيا يمكن للجماعات المتطرفة استغلاله. ويؤثر التواجد المحدود للجهات الفاعلة الدولية على جهود بناء القدرات ويضعف الهيكل الأمني العام.

الاتفاقات العسكرية مع موسكو و”فاغنر” أدخلت المنطقة في ديناميكيات جديدة، وأدى تدخل هذه الجهات الفاعلة إلى تعقيد المشهد الأمني وخلق مصالح متنافسة بين القوى الخارجية المختلفة. كما يثير تساؤلات حول التداعيات طويلة المدى لمثل هذه الشراكات، بما في ذلك احتمال زيادة نفوذ روسيا ونفوذها.

من الناحية السياسية، يمكن أن تؤثر هذه التطورات على الديناميكيات والتحالفات الإقليمية. ويمكن أن يؤثر وجود الجهات الفاعلة الخارجية لموسكو و”فاغنر” ودعمها للقوى العسكرية على ديناميكيات القوة، ولذلك حاليا غرب إفريقيا أمام مشهد حرب جديدة بسبب “داعش”.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
أقدم
الأحدث الأكثر تقييم
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات

الأكثر قراءة