منذ ثلاثة أسابيع تشهد محافظة السويداء جنوب غرب البلاد حراكا مدنيا وشعبيا متزايدا وبات مؤخرا يتحدى سلطة حزب “البعث” الحاكم ويطالب بالتغيير الديمقراطي والاجتماعي. وقد بلغ هذا الحراك ذروته في بداية شهر أيلول/سبتمبر 2023، عندما أصدرت مجموعة من النشطاء بيانا نادت فيه بإغلاق مقار الحزب في جميع أنحاء المحافظة.
لم يتوقف الأمر عند هذا الإجراء بل تعداه إلى إلغاء المناداة بالشعارات البعثية داخل أسوار المدارس الحكومية، والذي أثار موجة من الجدل والاهتمام الواسع. فالبيان يجسد مقاومة منهجية طويلة الأمد ضد السياسة التي تفرضها الحكومة السورية، ويمثل بداية لتغييرات محتملة في البلدة وربما في البلاد بأكملها.
الموضوع له أهمية كبيرة للمجتمع السوري وللمنطقة بشكل عام. فهي ليست مجرد قضية تتعلق بالتعليم والمدارس، بل هي قضية تتعلق بالتحول السياسي والثقافي في سوريا. حيث يعتبر حزب “البعث” لسنوات طويلة المسيطر الرئيسي على السلطة والسياق السياسي في البلاد.
حراك السويداء مصمم على إنهاء حزب “البعث”
يوم أمس الأحد، أصدرت “مجموعة الكفر للعمل المدني” في بلدة الكفر بمحافظة السويداء بيانا، أكدت فيه على الكادر التدريسي في البلدة بعدم فرض ترديد الشعارات البعثية على الطلاب في مدارس البلدة.
طبقا لما جاء في البيان، ذكرت المجموعة أنه “بعد انتفاضة الكرامة المباركة التي عمت جبل العرب دون استثناء، بكل قراه وبلداته من أجل حرية وكرامة الإنسان، والتخلص من حكم الحزب الواحد والفرد الواحد، تهيب مجموعة الكفر للعمل المدني بمدراء مدارس الكفر والقائمين عليها، بعدم فرض أي لباس طليعي المتمثل بالطاقية والفولار على أبنائنا، فالجبل قال كلمته الفصل، ومن لا يريد أن يقف مع كرامة أهله مدان بالمطلق”.
إن رفض الترديد الشعارات البعثية في المدارس يشكل انكسارا مهما لهيمنة الحزب ومساعي لتغيير الوضع السياسي والثقافي في المنطقة. ويمكن تفسير هذه الخطوة بأنها محاولة لتحقيق تنوع سياسي وفكري في سوريا، وهو أمر بالغ الأهمية لضمان استقرار المنطقة وتنميتها.
الجدير ذكره، أنه منذ بدء الاحتجاجات في السويداء أغلقت العديد من مقار حزب “البعث” في قرى المحافظة ومدنها، واضطر أمين فرع الحزب في السويداء، فوزات هاني شقير، إلى مغادرة المدينة نحو العاصمة دمشق، بعد منع المحتجين جميع أعضاء الحزب من الدخول إلى مقارهم.
احتجاجات السويداء تزداد زخما
بقوة وحماس غير مسبوق، استمرت مظاهر الاحتجاج في محافظة السويداء، لليوم السابع عشر على التوالي. حيث لا يزال المحتجون يجتمعون في ساحة السير وسط المدينة بشكل يومي.
المحتجون أكدوا مجددا على مطالبهم الأساسية المتعلقة بإطلاق سراح المعتقلين، ولا سيما الذين تم اعتقالهم مؤخرا في منطقة الساحل. وقد تميزت هذه الحملة بالتضامن مع الشخصيات المشهورة التي اعتُقلت، مثل أيمن فارس الذي أُلقي القبض عليه أثناء محاولته الفرار من الأجهزة الأمنية، والشاعر الشعبي حسين حيدر الذي تم اعتقاله بسبب انتقاده لحكومة الرئيس بشار الأسد، بالإضافة إلى الناشط أحمد إسماعيل الذي اعتُقل قبل 10 أيام بسبب انتقاده للرئيس السوري.
النائب العام في السويداء أصدر بيانا الأسبوع الماضي أشار فيه إلى ضرورة توفير بيئة آمنة ومستقرة لإنجاز الأعمال القضائية والتقيد بالقانون. وهذا كان ردا على مطالب المحتجين بفتح القصر العدلي، حيث رفض النائب العام هذا الاقتراح وأكد على ضرورة تطبيق القوانين بمنتهى النزاهة والاستقلالية، ودون أي تدخل غير مقبول.
أيضا برزت خلال الأيام الفائتة لافتات غير عادية في الاحتجاجات، إذ تركزت المطالب على الحق في العيش الكريم، ومعاناة اللجوء والرحيل عبر البحر، وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين. كما استُخدمت لوحات فنية للتعبير عن هذه المطالب، حيث تم رفع لوحات تشكيلية تصوّر مأساة المعتقلين في السجون. وظهرت صورة الطفل إيلان، الذي غرقت مركبته أثناء محاولته الفرار عبر البحر إلى أوروبا، كرمز لمأساة الآلاف من العائلات السورية.
في هذا السياق، أشاد شيخ العقل حمود الحناوي في كلمته بمشاركة النساء في الاحتجاجات، وصفهن بأنهن “المرأة المعروفية أخوات الرجال”، إشارةً إلى انتمائهن لطائفة الموحدين الدروز. وردا على منتقدي مشاركة رجال الدين في الاحتجاجات، أكد الشيخ الحناوي أنهم ليسوا رجال سياسة، ولكنهم يعرفون السياسة ويمكنهم التحدث عنها بمهنية وفهم عميق. وقال: “حينما تمر البلاد بمرحلة حرجة، ستجدون مشايخ العقل هنا لإظهار الدور الإيجابي وتقديم التوجيه الصحيح”. كما دعا أهالي السويداء إلى فهم تاريخ منطقتهم ومكانتها ضمن الوطن السوري، مؤكدا على وحدة الوطن السوري رغم التحديات التي تواجهها.
خيمة اعتصام بساحة المدينة
في تطور لافت وبعد الاحتجاجات القوية التي شهدتها السويداء في يوم الجمعة، قام محتجون يوم أمس الأحد بإقامة خيمة اعتصام مفتوحة في ساحة المدينة، مواكبين بذلك موجة احتجاجية عارمة اجتاحت أرياف المحافظة وساحة الكرامة، حيث رفعوا شعارات تطالب بإسقاط السلطة السياسية وتنفيذ القرار الدولي رقم “2254”.
شبان من المدينة قاموا بإنشاء خيمة اعتصام مفتوحة في الساحة الرئيسية، مؤكدين أن هدف نصب الخيمة هو تأكيد إصرار المحتجين على مطالبهم الرئيسية والتي تتمثل بالتنوع السياسي الذي يفضي إليه قرار مجلس الأمن الخاص بسوريا، وإعادة الانتخابات الرئاسية والبرلمانية.
في سياق متصل، نظم أهالي بلدة القريا الواقعة في الريف الجنوبي الغربي لمحافظة السويداء وقفة احتجاجية، أمام تمثال سلطان باشا الأطرش، رمز الثورة السورية الكبرى في البلدة. وفي الوقت نفسه، أقام أهالي قرية مردك من قرية سليم وقفة مسائية، حيث أكدوا دعمهم للاحتجاجات المستمرة من أجل تحقيق التغيير السلمي والانتقال السياسي في سوريا.
ما يميز احتجاجات السويداء أنها تشابه فترة الاضطرابات والانقلابات العسكرية، التي استغلها حزب “البعث” لتنظيم انقلابه الخاص في 8 آذار/مارس 1963، بقيادة مجموعة من الضباط الشباب، من بينهم صلاح جديد وحافظ الأسد.
فبعد أن أصبح حزب “البعث” حزبا حاكما في سوريا، وأصدر إعلانات دستورية تضمنت إلغاء المؤسسات الديمقراطية، وحظر باقي الأحزاب السياسية، وإجراء إصلاحات اجتماعية وزراعية وإدارية، كما أنشأ جهاز أمن دولة قوي، يضم عدة فروع مختصة بالمراقبة والتحقيق والتعذيب والإعدام، بات المطلب الشعبي هو إنهاء هذا الحزب.
الجدير بالذكر أن حافظ الأسد الرئيس الأسبق لسوريا حكم البلاد بقبضة من حديد لمدة ثلاثين عاما، وأنشأ نظاما عائليا وعسكريا ومخابراتيا، يعتمد على طائفة العلويين، التي ينتمي إليها، والتي تشكل أقلية في سوريا. وبعد وفاته في عام 2000، خلفه ابنه بشار الأسد، وثارت آمال كثيرة بأن يكون بشار مصلحا وديمقراطيا، لكن سرعان ما خابت هذه الآمال، حيث استمر بشار في سياسات والده القمعية والفاسدة، وأوجد نخبة جديدة من رجال الأعمال المقربين منه.
من جديد يبدو أن حزب “البعث” الذي استطاع أن يحكم سوريا لأكثر من نصف قرن، بدأ فعلا بفقدان دوره في محافظة السويداء وفي المشهد السوري، وهذا ما يؤكد أن الاحتجاجات الشعبية المتصاعدة ضد السلطة الحاكمة في دمشق وسياساتها الاقتصادية والأمنية، ستسبب”تسونامي” التعديل الحكومي في الأيام القادمة.
هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.