مع مرور شهر ونيّف على عملية “طوفان الأقصى”، واندلاع الحرب الإسرائيلية على غزة، يبدو أن كل المنطقة ومعها لبنان تسير على إيقاع المعركة المفتوحة. 

لا أجوبة داخلية أو خارجية حول السياق المفترض أن تأخذه الأحداث والتطورات في قابل الأيام، إذ كلّه مرتبط بالنتائج الميدانية وكواليس الاتصالات الدبلوماسية الإقليمية والدولية التي تجري على قدمٍ وساق خوفاً من مجهولٍ ملتهب تسعى كل الأطراف إلى تجنّبه من دون أن تصل حتى الآن إلى خارطة طريق واضحة تساعد على منع الذهاب لمواجهة مفتوحة يعرف الجميع كيف تبدأ ولا يُدرك أين تنتهي. 

وعلى رغم أن ما يظهر من علامات توحي وكأن الأمور تنحو باتجاه معاكس للتصعيد، إلا أن حقيقة الأمر تدلّ على أن القلق الفعلي لا يزال مرتفعا واحتمالات اتساع رقعة الحرب لا تزال عالية مع استمرار القصف المتبادل في الجنوب اللبناني والخشية من انزلاق الأمور إلى حرب شاملة.

“نصرالله” يراعي فقدان مقومات الصمود

فرضت التطورات عموما وعلى الجبهة اللبنانية الجنوبية خصوصا، على “حزب الله” إعادة حساباته، ففي ظل التوتر على الحدود والذي كلّف الحزب حتى الساعة أكثر من 100 قتيل، يبدو أن الحزب اضطر إلى سحب جزءٍ كبير من عناصره من سوريا.

مقاتلو حزب الله المؤيد لإيران يرددون شعارات وهم يحملون نعش زميلهم الذي قُتل مع ستة من رفاقه الآخرين خلال موكب جنازته في الضاحية الجنوبية لبيروت، في واحدة من أعلى حصيلة القتلى للحزب في عام 2023. (تصوير مروان نعماني/ غيتي)

استعادة هؤلاء جاءت بناءً على حسابات عسكرية، لا سيما وأنهم من المتدربين وقد خاضوا معارك فيها على مرّ السنوات الماضية، ونقلهم إلى الجنوب، للتخفيف مِن خسائره البشرية، خاصة وأن غالبية مَن سقطوا هم مِن الشباب الذين لم يختبروا الحروب بعد.

“حزب الله” اليوم يعاني من فقدان الكثير من مقومات الصمود، وهذا الأمر الذي دفع به لسحب أكثر من 1500 عنصر من جنوده الموجودين داخل الأراضي السورية، ودمجهم في أرض المعركة في الجنوب اللبناني. 

منذ عام 2011، وبعد تدخل “حزب الله” إلى جانب الجيش السوري ولاحقا مع الميليشيات الإيرانية، لم نشهد انسحاباً لعناصر الحزب مثل اليوم، فلو كان بالقوة والصمود الذي يدّعيه لما كان استعانَ بقوته الموجودة داخل الأراضي السورية، بل اكتفى بالموجودين في لبنان الـ 100 ألف مقاتل.

ترسانة “حزب الله” للاستعراض؟ 

العروض العسكرية التي أقامها “حزب الله” في السنوات الماضية ومنذ تأسيسه، بالإضافة إلى المعارض التي نظّمها خصوصاً في الجنوب اللبناني وبعلبك، ومعها أيضا المناورات العسكرية والتدريبات التي أجراها وحرص على أن تكون علنية ومصوّرة بالفيديوهات، تُثبت بما لا يرقى إليه شكّ أن الحزب فعلا  “حضّر ما يلزم” للجيش الإسرائيلي.

أنصار حزب الله يرتدون ملابس عسكرية (تصوير مانو برابو / غيتي)

لكن السؤال ليس هنا، بل هو: متى ستُستخدم هذه القوة كلّها؟ لا سيما وأن نصرالله قال في خطابه الأول إنه بعد 7 تشرين الأول/أكتوبر، فإن مسار الأمور في القطاع، ومدى تطورها سيكون من العوامل الأولى التي تدفع الحزب إلى توسيع نطاق مشاركته في الحرب. 

نائبه الشيخ نعيم قاسم، أمس الخميس، يبدو أنه قطع الشك باليقين، حيث قال: “هل ستحصل الحرب الآن أم لا فهذا مرتبط بالتطورات التي تحصل في غزة ومرتبط أيضاً بقرار إسرائيل أن تبادر في الحرب”.

هذه الترسانة التي طالما بُنيت على مواجهة إسرائيل ولاحقا نحو “وحدة الساحات”، يبدو لن تحرّكها أهالي غزة الذين يتعرضون اليوم لإبادة ويُقتل أطفالهم في وحدات العناية في المستشفيات، كما أنهم يتعرّضون لتهجير كبير من الشمال إلى جنوب القطاع لم تشهده فلسطين منذ النكبة الأولى عام 1948 و”حزب الله” لم يتقدم خطوة واحدة حتى في التصعيد على الحدود. 

في حديث للإعلامي والصحفي مالك دغمان مع “الحل نت”، قال: “بعد الانتقادات الواسعة خاصة الأخيرة التي تلقّاها الحزب من بعض مؤيدي خط المقاومة كان لا بدّ من خطوة معينة ترفع الأدرينالين لدى من يؤيد ما يحصل في غزة والجنوب فقط”. 

بعيدا عن سياسية “حزب الله” في الداخل اللبناني، سيتعرض الحزب لنقد لاذع كان آخرها هجوم النائب أشرف ريفي، واتهامه لإيران ببيع غزة مقابل 10 مليارات دولار، بالإضافة إلى اعتبار ريفي بأن ما يقوم به الحزب عند الحدود “ما إلو عازة”.

يؤكد دغمان، أن الشارع في لبنان أُصيب بالإحباط والخذلان بعد خطاب نصرالله، ونال انتقاداتٍ سيئة كثيرة وحتى على الرغم من محاولته رفع المعنويات بالجزء الأخير من الخطاب المتعلق بتوجيه التهديدات للبوارج الأميركية المتمركزة في البحر المتوسط، وبعد تركه جميع الاحتمالات مفتوحة وإعداد العدة الكاملة للدخول في الحرب الكبرى. 

من وجهة نظر دغمان، فالاحتمال الأول عن الإعلان عن نقل المقاتلين ممكن أن يكون مسرّبا عبر وسائل الإعلام وصحيح، أما الاحتمال الثاني، فقد يكون هذا الخبر جزء من الحرب النفسية التي يخوضها الحزب ضد الجيش الإسرائيلي، ولا يوجد أي نقل للعناصر إنما إشاعة فقط من “حزب الله” وعرضٌ تمثيلي.

من يملأ الفراغ؟

الصحفي السوري، محمد الشيخ، من جانبه قال: إن “حزب الله” بدأ باستدعاء عناصره من سوريا مع زيادة التوتر في الجنوب اللبناني، مؤكداً أن الاستدعاء الأخير، سبقه انسحاباتٌ مماثلة في القلمون بريف دمشق، والبادية السورية.

دبابة إسرائيلية تشارك في مناورة عسكرية بالقرب من كيبوتس أورتال في مرتفعات الجولان التي ضمتها إسرائيل بالقرب من الحدود اللبنانية في 15 نوفمبر 2023، (تصوير جلاء ماري / وكالة الصحافة الفرنسية)

بعض المناطق التي انسحب منها الحزب في سوريا بحسب الشيخ، محصّنة ويمكن بعدد قليل من العناصر في النقاط الثابتة تجاوز الفراغ، مثل مناطق القلمون البعيدة عن مناطق الاشتباك.

وبخصوص البادية، يرجّح الشيخ أن تحلّ ميليشيات عراقية مكان انتشار عناصر “حزب الله”، لافتاً إلى استقدام تعزيزات عسكرية إلى سوريا من العراق، من جانب الميليشيات المدعومة من إيران. وقال: “بالعموم يمكن للقوات والميليشيات التابعة للنظام السوري، سدّ الفراغ الذي سيخلفه انسحاب عناصر حزب الله إلى لبنان”.

وفي السياق ذاته، أشار الباحث في الشؤون العسكرية والإيرانية ضياء قدور، إلى أن زيادة اعتماد “حزب الله” على المجموعات السورية التي درّبها مثل “حزب الله السوري”، والميليشيات الأجنبية كـ”لواء فاطميون” الأفغاني، كان لتعويض سحب عناصره “التكتيكي” من سوريا.

وقال قدور أن من وجهة نظره الانسحاب يُعد مؤقتاً إلى حين انتهاء أحداث غزة، لافتاً إلى إعلان “حزب الله” عن عدم اعتزامه الدخول في مواجهات شاملة مع الاحتلال، وبالتالي يقوم الحزب بالاستنفار العسكري في جنوب لبنان، لرفع جاهزية قواته في حال أقدم الاحتلال على فتح الجبهات الشمالية.

ورغم سحب “حزب الله” لجزء كبير من عناصره في سوريا، يؤكد قدور أن لدى الحزب أعدادا كبيرة من المقاتلين من عناصره أو من الميليشيات التابعة له في سوريا، ما يمكنه من إعادة انتشاره في سوريا بسهولة.

لم يُعلن “حزب الله” عن عدد عناصره في سوريا، لكن تشير تقديرات عسكرية إلى أن عددهم يتجاوز 3 آلاف مقاتل، وتوضح أن العدد يتأثر بحسب المهام التي ينفذها الحزب في سوريا.

100 ألف مقاتل، وصواريخ ذكية تعبر لما بعد حيفا، ومسيّرات، وأسلحة فتاكة، كلها عبارات وتهديدات اعتدنا على سماعها على مدى السنين من “حزب الله”، لكن متى يستخدم نصرالله قوته العسكرية والحربية؟ يبقى هو السؤال.

لأنه بعد السابع من تشرين الأول/ أكتوبر الفائت، بات يُردّد بأن سلاح الحزب ليس لنصرة غزة والقضية الفلسطينية، بل لإلهاء الجيش الإسرائيلي على جبهته الشمالية فقط، والصواريخ المكدسة هي فقط للتهديد بها ولاستخدام هالتها في السياسة الداخلية أو في الساحات العربية دعما للأنظمة المؤيدة لطهران.

إن إحجام “حزب الله” عن التحرك الحقيقي لنصرة غزة، عندما دقت ساعة نصرة فلسطين، عرى كل سرديته والمنطق الذي اعتنقه منذ عقود، يقول اللبنانيون: لسنا من المحرّضين على الحرب ولا نحن من المتحمّسين لها في ظل الواقع الاقتصادي المزري الذي تشهده البلاد، بل على العكس، بما أن لبنان سيدفع ثمنها باهظا، غير أن منطق “حزب الله” يفرض طرح هذه الأسئلة والاستنتاجات.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات