صناعة الجيوش الموازية، وتشكيل الميليشيات المسلحة، التي تطوق مناطق النزاع والنفوذ الجيوسياسي والاستراتيجي، كما هو الحال لدى روسيا، له عدة اعتبارات تاريخية وسياسية وأمنية. فقوات “فاغنر” التي صنعها بوتين، الموجودة في أميركا اللاتينية، وفي أفريقيا، فضلا عن انتشارها في الشرق الأوسط ودورها اللافت بأوكرانيا، تكشف عن جملة أدوار تتراوح بين السياسي والأمني، والحفر وراء المصالح الاقتصادية التي تعزز نفوذ موسكو. 

واقعيا، تقع مهام عديدة عل قوات “فاغنر” التي ظلت تعمل في الخفاء وبشكل سري، بينما حاول الروس لفترات طويلة التعمية عن الارتباطات المباشرة بينهم وبين “فاغنر” إلى أن انكشفت في مرحلة ما مع اتساع الصراع بين روسيا من جهة، والغرب والولايات المتحدة من جهة أخرى، على خلفية الصراع في كييف. 

قبل ذلك، تعددت التقارير الحقوقية، المحلية والأممية، التي وثقت انتهاكات وممارسات عدوانية بل “وجرائم حرب” تورطت فيها هذه القوات “الميلشياوية”. وفي النصف الثاني من العام الماضي، اتهمت منظمة “هيومن رايتس ووتش” من وصفتهم بمقاتلين “أجانب” في قوات “فاغنر” الروسية بإعدام مدنيين في وسط مالي. 

منتصف العام الماضي، فرضت وزارة الخزانة الأميركية عقوبات على رئيس “فاغنر” في مالي، وذلك على خلفية الاشتباه بقيام عناصره بجمع “الألغام والطائرات المسيرة والرادارات والأنظمة المضادة للمدفعية” بغرض الاستعانة بها في الحرب الأوكرانية، الأمر الذي أكده الناطق بلسان الخارجية ماثيو ميلر. غير أن روسيا رفضت الاتهامات التي طالتها من واشنطن واعتبرتها “خدعة”. 

البيان الصادر عن وزارة الخزانة الأميركية، نقل قول وكيلها لشؤون الإرهاب والاستخبارات المالية، بأن “عقوبات وزارة الخزانة ضد أكبر ممثل لمجموعة فاغنر في مالي تحدد وتعطل عنصرا رئيسيا يدعم أنشطة المجموعة العالمية. وجود مجموعة فاغنر في القارة الأفريقية يمثل قوة مزعزعة للاستقرار لأي دولة تسمح بنشر موارد المجموعة على الأراضي الخاضعة لسيادتها”.

فيما كشفت المنظمة الحقوقية الأممية عن خروقات عديدة، منها تعذيب الموقوفين، فضلا عن تبديد ونهب ممتلكات المدنيين، وطالبت المنظمة بالتزامن مع انسحاب بعثة الأمم المتحدة، في نهاية العام الماضي، من البلاد بوضع سقف نهائي لهذه التجاوزات. 

الرئيس الروسي وشرعنة تواجد عناصر أجنبية ضمن قواته

مع احتدام الصراع في قمة العالم بين موسكو وكييف، باشرت الأولى التي اعتمدت على قوات “فاغنر” في حربها نحو مضاعفة أعداد الأفراد الملتحقين بالتنظيمات والجيوش الموازية، وتعبئة الأجانب بمغريات عديدة وامتيازات منها المادية وكذا منح الجنسية، فيما تُظهر بيانات وزارة الدفاع الرسمية، أن العام الماضي سجل إبرام عقود مع قرابة 490 ألف عسكري بالقوات المسلحة الروسية. 

وشرعن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، فكرة وجود عناصر أجنبية تلتحق بقواته وتنفذ مهامها العسكرية والقتالية، من خلال قانون في تشرين الثاني/ نوفمبر قبل عامين. ونص على أن “الأجانب الذين دشنوا عقدا عسكريا لمدة عام على الأقل، سيكونون بمقدورهم استحقاق الجنسية الروسية، وذلك من دون تصريح إقامة ودون إقامة دائمة لمدة خمس سنوات في روسيا”.

هنا، يشير الباحث والمحلل السياسي المقيم في ألمانيا، ميار شحادة، إلى أن بوتين استقدم نحو 16 ألفا من قوات “فاغنر” المنتشرين في سوريا وليبيا ومناطق النزاع بالإقليم للانخراط في الحرب الأوكرانية، لافتا في حديثه لـ “الحل نت”، إلى أن هذه القوات “الميلشياوية” تضخمت اقتصادياتها من خلال علاقتها بالميليشيات الأخرى في أفريقيا وتعاونهما في نهب الموارد الطبيعية واستثمارها.

قائد فرقة “فاغنر” السابق يفغيني بريغوجين – إنترنت

بحسب شحادة، “نجحت فاغنر في تدشين عقود استثمار لإدارة الموارد الطبيعية من الغاز والبترول والذهب والماس والفوسفات. ومن هنا تمتلك إلى جانب قدراتها العسكرية وشبكاتها الأمنية والأفراد المقاتلين الملتحقين بها وهي شبكة معقدة، شراكات مالية لا تقل تعقيدا عن سابقتها، بينما تقدر بمليارات الدولار بما يجعل تفكيكها والتخلص منها أمرا صعبا. والأكثر فداحة من ذلك هو قدراتها على إيجاد ممرات خلفية لتفادي العقوبات الدولية عبر توسيع شراكاتها الاقتصادية، والتخفي وراء شركات أخرى غير متضمنة بلوائح الإرهاب”. 

يكاد لا يختلف ما يقوله الباحث والمحلل السياسي المقيم في ألمانيا عما يجري في سوريا من خلال هذه القوات، ووثقته عدة تقارير صحفية أجنبية، منها شبكة “آي تي في” البريطانية، والتي ذكرت أن نتيجة محاولة الانقلاب الفاشلة أو التمرد الذي قاده زعيم “فاغنر” يفغيني بريغوجين، قبل مقتله، هي تعطيل “صفقة” مع الرئيس الروسي بشار الأسد. وكانت تهدف إلى تعبئة عشرات الآلاف من العناصر في تلك القوات الروسية، ونقلهم لمناطق النزاع في أوكرانيا وأفريقيا فضلا عن الداخل الروسي. 

اللافت، أن قوات “فاغنر” التي تحوز شهرة نتيجة توسع دورها العسكري في كييف، وفي الحرب السورية الممتدة لنحو أكثر من عقد، فضلا عن دورها المشبوه في مالي، ثم تعدد خروقاتها وانتهاكاتها الحقوقية التي وصفتها المنظمات المعنية بحقوق الإنسان أنها ترقى لـ”جرائم حرب”، ليست الوحيدة أو المتسيدة لهذا المجال، حيث تصل عدد التنظيمات التي تندرج تحت بند الميليشيات كتوصيف قانوني، أو “شركات عسكرية خاصة” كما يتم تداولها في موسكو، لنحو 40 مجموعة عسكرية، منها على سبيل المثال وليس الحصر قوات “أحمد” الشيشانية. 

موسكو وعقلية بوتين الاستخباراتية 

من حيث المبدأ ورث بوتين رئاسة روسيا الاتحادية من بوريس يلتسن، الذي كان أول وآخر رئيس منتخب لروسيا. وكان بوتين قد تم اختياره اختيارا مباشرا من الرئيس المنتخب شخصيا “والذي قدم له هذا الاستحقاق كرجل استخبارات غير معروف في دوائر موسكو” حسبما يقول ميار شحادة، الباحث والمحلل السياسي، موضحاً أن بوتين استلم “دولة مترهلة جدا وفاسدة جدا وكان هناك نوع من الحياء في التعامل مع الشيوعيين. ولذلك بوتين قالها في أول خطاب له في مجلس الدوما بأن مهمته القضاء على كهولة الشيوعية وتراخي وترهل الاشتراكية، وهذا عنى بأن بوتين يريد تحويل السياسة الروسية جذريا الى تلك السياسات القومية الوطنية”.

كان من المفترض بعد خطاب بوتين، أن يباشر وبحزم في ترتيب الأقاليم الروسية، وتنفيذ سياساته بمنتهى الحزم والحسم حتى لو تطلب العنف، الأمر الذي ظهر بضراوة وبصورة قصوى في الشيشان وتتارستان والحروب مع النقابات والمعارضين الداخليين. وكذلك الأمر بالنسبة للصراع مع أوروبا و”الناتو”. ورغم أن الآمال كانت جدا عالية خصوصا أن الغرب قرر إشراك روسيا في المجموعة الاقتصادية لأوروبا بكونها قريبة جدا من عدد كبير من الدول الأوروبية، وزاد الأمل بانضمام موسكو لقوى السبع ما جعلها ثمان، لكن ذلك تطلب ردة فعل روسية داخلية من خلال بناء مؤسسات صلبة على أن تكون المنظومة الأمنية جزءا منها وليست المسيطرة عليها.

بالتالي، تطلب ذلك ديمقراطية مؤسسية وتوزيع سلطات بين البرلمان والرئاسة والأجهزة المختلفة للدولة، وهذا كان صعبا على بوتين. فهو بين مشروعه الخاص القومي الوطني وبين المشروع المطروح للتعاون مع الغرب في نمو وتطوير روسيا، لذا كانت “العناصر التي رفعها بوتين إلى قيادة الإدارة العليا في روسيا غالبيتهم من الأجهزة الاستخبارية والذين عملوا معه أو كانوا قريبين منه”.

وفق ميار شحادة، فإنه حتى أولئك الذين اقتربوا من بوتين ولاذوا به من دون معرفة مسبقة مثل يفغيني بريغوجين، لم يكونوا على قدر عال من الكفاءة الإدارية اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا. فبوتين يدّعي بأن سبب محاربته للغرب هو أنهم رفضوا انضمامه إلى “الناتو” (رغم طلبه منهم ذلك)، ويدّعي كذلك بأن “الناتو” أراد خنق حدود تحرك الدولة الروسية من خلال التوسع في أوروبا الشرقية.

لتفنيد مزاعم بوتين يجب فهم عقليته الاستخبارية، بحسب المصدر ذاته، فبالنسبة للادعاء الأول، صحيح أن روسيا طلبت الانضمام إلى “الناتو” وصحيح أن إدارة بوتين الأولى حاولت أن تبدأ في إصلاحات من شأنها الوصول لتنفيذ الشروط البنيوية، للانضمام إلى “تحالف شمال الأطلسي”، ولكن هذه الإصلاحات بالضرورة تحتاج لعدة أمور. 

بداية تحتاج الإصلاحات إلى إعادة تفكيك العقد المجتمعي وبناءه وفقا لخطط مدروسة، خصوصا أن الاتحاد الروسي يحتوي على تعقيدات على مستوى العرقيات والقوميات والطوائف الدينية المتنوعة وتنوعها. هنا يتدرج من أقصى درجات التطرف إلى أقصى درجات الليبرالية والانفتاح. وإدارات بوتين العسكرية لم تتوازن في التعامل مع هذا التنوع الضخم. 

بالإضافة إلى ذلك، فإن إدارات بوتين الاستخباراتية لم تراع الفوارق الثقافية والاقتصادية والاجتماعية في حدودها الشاسعة، واختارت إدارة بوتين التعامل الخشن مع الجميع، وهذا يستبعد تقريب روسيا من الغرب اجتماعيا واقتصاديا وثقافيا، وبطبيعة الحال، استبعد تماما تغير العقلية والعقيدة العسكرية الروسية للتقرب من عقلية الغرب ودول حلف “الناتو”. 

عودة سيناريو الساعات الأخيرة: مشروع بوتين نحو التفكك؟ 

بناء على ما سبق، اختار بوتين تنفيذ مشروعه المفرط في القومية الروسية (غير الواضحة في العناوين وبالضرورة غير المرتبة في التفاصيل). بدراسة القومية الروسية تاريخيا سنجدها متذبذبة، فالقومية الروسية خليط ما بين عناصر ودوائر عالية الثقافة والليبرالية ونصفها تقريبا يعتمد نظام عسكري قبلي متزمت ويصل لحد التطرف والتعصب. 

هذا الخليط لا يمكن أن يتوافق على صيغة عقد اجتماعي وسياسي واحد وتام ونهائي ومتجانس. فهو مختلف في البنية والتركيب وبالتالي التنفيذ. من ثم كانت “ردة فعل الغرب بأن يسيطروا على منافذ الحدود الروسية الواصلة بين الروس والمياه الدافئة”. يقول شحادة، لذا استمر الغرب بإعطاء أفضلية نسبية للأتراك في البحر الأسود، وأضافت لها لاحقا أوكرانيا، وكذلك الأمر في معابر الدنمارك ومعبر سوالكي الواصل بين بيلاروسيا وكالينغراد. هذا الأمر خنق الروس للغاية القصوى وسط عجز الإدارات الروسية على العودة للقدرة التصنيعية والتشغيلية لقدرة البلاد خارج نطاق سلعتي النفط والغاز.

يتعين الإشارة، إلى أن الغرب جعل منفذ للروس من خلال الشراكات الاقتصادية المحدودة، مثل تجارة النفط والغاز والفحم، والإبقاء على دعم مؤسسات المجتمع المدني. وقد برز “عناد بوتين أكثر حيث لم يستفد من المنفذ الغربي بل طوع الدخول التي كانت تجنيها روسيا من عوائد الطاقة لتعزيز دور مافيات السلاح والمخدرات”، وفق شحادة. 

وقاد بوتين الإمعان في تعزيز هذه التجارة من خلال شعارات مفرطة في القومية. بالتالي، كان في ظن بوتين أن بناء ميليشيات كقوات “فاغنر’ “ستفكك وتؤدي لإنهاك القوات النظامية الغربية”، لكنه تناسى بأن الدول المحيطة به في أوروبا لديها مشكلة وتخوف وجودي من خططه ودولة المؤسسات الأمنية الروسية. 

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين – إنترنت

هذا التعقيد الذي تناساه بوتين تقابل أيضا مع فكرة أن دول جواره لديها علاقات ومصالح مع الصين، وبكين لا يمكن أن تخسر أطرافا كثيرة للتحالف مع بوتين وحده وسط خنق اقتصادي غربي على الدولة الروسية، فظهرت حرب أوكرانيا كمفاجأة للجميع وليس لروسيا فقط. فأوكرانيا ظهرت “ندا ليس خجولا أمام روسيا” التي من الطبيعي انها خسرت الكثير خلال سنتين، بالإضافة للضعف الذي أظهرته في البنية الاستخباراتية والعسكرية الروسية. 

هنا بوتين بات يلعب على مشروعه بل “لا نبالغ لو نقول على ما تبقى من هياكل الشخصية الروسية”، إذ قرر طلب هدنة غير معلنة “لاستعادة توازنه من اللكمات” التي تعرض لها منعا لأي مفاجآت، فقرر الاعتماد على “حرب العصابات”، ورأى بأن المهمة تكمن ببناء ميليشيات تنفذ مهمات تركز على أهداف محددة لعدم فقدان توازن القوة العسكرية الروسية التي تراجعت كثيرا. 

أخيرا، رهانات بوتين تجعله أمام تحديات جمة بخصوص مستقبله السياسي، فتعامل الدولة الروسية مع الأحداث في أوكرانيا جعلت من الأقاليم الروسية ذات الطبيعة الانفصالية وذات الحكم الذاتي تشعر بالندية مع القوات الأمنية والاستخباراتية خاصة موسكو، وهذا سيخلق نوعا من التفكك الذاتي الذي يشابه ذلك التفكك الذي حصل في آخر ساعات الدولة السوفيتية.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات