تسع سنوات على مأساة الخابور: الآشوريون بين تحديات العودة ومخاوف من التغيير الديموغرافي

تسعُ سنواتٍ مرّت على الهجوم المأساوي في الخابور بريف الحسكة، شمال شرقي سوريا، عندما نفّذ تنظيم “داعش” هجوماً شرساً على 14 قرية وبلدة مسيحية.

 في هذا الهجوم المروّع، قُتل العشرات وخُطف أكثر من 250 من سكانها، مما دفع آلاف الأشخاص إلى النزوح بحثاً عن الأمان في مناطق أخرى داخل سوريا كانت تخضع لسيطرة فصائل معارضة عدة.

وفي الوقت نفسه، لاحقاً وجد الآلاف الآخرون أنفسهم مضّطرين لترك بلداتهم وقراهم لمكان خارج الحدود دون أمل في العودة. إلى أن تمكنت “قوات سورية الديمقراطية” (قسد) و”المجلس العسكري السرياني” بدعم من قوات التحالف الدولي من السيطرة على تلك المناطق في أيار/ مايو 2015، حيث راهن سكان تلك القرى ومنظمات حقوقية آشورية على عودة الأهالي لقراهم، لكنهم وجدوا واقعاً جديداً فرضه التغير الديموغرافي الجديد على المنطقة.

كيف بدأ التغيير الديموغرافي؟

بتاريخ 9 تشرين الأول/أكتوبر 2019، بدأ الجيش التركي عملية عسكرية داخل أراضي شمال شرق سوريا، حيث أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، توغّل قوات بلاده مع مجموعات من المعارضة السوريّة المسلّحة أو ما يسمى” الجيش الوطني السوري” تحت مسمّى عملية “نبع السلام”، ذلك عقب انسحاب القوات الأميركية والتحالف الدولي من المنطقة.

كان للهجوم التركي تداعيات خطيرة على سكان المنطقة، وبالأخصّ المدنيين منهم، فقد أدى الهجوم مباشرةً إلى نزوح أكثر من 180 ألف شخص من منطقتي رأس العين وتل أبيض، خلال الأيام الأولى من العملية، بمن فيهم عشرات آلاف النساء والأطفال، في موجاتٍ نزوح سريعة وغير منسّقة، وفقاً للأمم المتحدة.

وبتاريخ 17 تشرين الأول/أكتوبر 2019، وقّعت تركيا اتفاقاً مع الولايات المتحدة الأميركية، قضى بتعليق العمليات العسكرية التركية في شمال شرق سوريا لمدة (120) ساعة، تلاه وقف عملية “نبع السلام” بعد استكمال “قوات سوريا الديمقراطية” انسحابها من المنطقة.

وأفضت عملية “نبع السلام” التي انتهت بتاريخ 22 تشرين الأول/أكتوبر 2019، إلى سيطرة تركيا وفصائل “الجيش الوطني” التي تدعمها أنقرة على شريط حدودي بطول 120 كم بين مدينتي رأس العين شمال غرب الحسكة، وتل أبيض شمال الرقة، وبعمق 32 كم، وأدت إلى نزوح أكثر من 175 ألف شخص من المنطقة، بحسب لجنة التحقيق الدولية الخاصة بسوريا.

غالبية النازحين من المناطق المذكورة خلال موجات النزوح السريعة وغير المنسقة اتخذوا من مناطق الخابور مسكناً لهم، ويُعرف أن 35 قريةً وبلدة ًعلى ضفاف نهر الخابور تعود بالأصل للآشوريين الذين فرّوا من بطش التنظيمات المتطرفة.

وبتاريخ 23 شباط /فبراير 2015، شنَّ تنظيم “داعش” هجوماً استهدف القرى الآشورية حيث سيطر التنظيم على 14 بلدة، وقتل مئات الأشخاص وفجّر الكنائس واختطف نحو 250 شخصاً، أُطلق سراحهم فيما بعد، قبل أن يتمكن مقاتلو “المجلس العسكري السرياني” و”قوات سوريا الديمقراطية” وبغطاء جوي من التحالف الدولي من هزم التنظيم من هذه البلدات في شهر أيار من العام نفسه.

وبعد سلسلة تلك الأحداث وعقب تحرير المنطقة من تنظيم “داعش” برزت وتفاقمت مشكلة توافد النازحين إلى المنطقة والاستقرار في القرى الآشورية، حيث خشية من توطينهم بشكل دائم وحدوث تغيير ديمغرافي في تلك القرى.

وكان عدد الآشوريين الإجمالي في سوريا قبل 2011، قرابة 400 ألفاً، وكان عددهم في منطقة الخابور قبل هجوم التنظيم يُقدّر بنحو 30 ألف نسمة، هاجر قسم منهم مع بداية الأزمة السورية، إلا أن الغالبية الساحقة منهم هاجرت بعد هجوم “داعش” على المنطقة، ولم يبقَ منهم إلا نحو ألف فقط في المنطقة.

مخاوف من “استيطان دائم”

مع زيادة عدد النازحين، بدأت التوترات تظهر بين الأشوريين والنازحين عندما بدأ أي النازحون باستخدام البيوت والأراضي الزراعية كأنهم ملّاك وليسوا ضيوفًا، كما أكد غبرييل موشي، مسؤول “المنظمة الآثورية الديمقراطية”، في حديث خاص مع موقع “الحل نت”. حيث قال: “في بادئ الأمر، كانت هناك لجنة (حماية أملاك الغائب) مكلّفة بإدارة ممتلكات الآشوريين الغائبين خارج البلاد، حيث أعطت تلك اللجنة المنازل للنازحين من منطلق إنساني. لكن، مع ارتفاع وتيرة النزوح في عام 2019، كانت تتزايد صعوبة تنظيم وضبط مَن يعيش في القرية”. 

اشتعل فتيل المصادمات المحلية حينما احتج الآشوريون على القادمين الجُدد من قرى محيطة لمنطقة الخابور الذين يرعون مواشيهم في الحقول ويقطعون الأشجار للتدفئة، أو يعدّلون مخططات المنازل التي استقروا فيها لتتناسب مع إقامة أكثر من عائلة منهم.

يتّهم اليوم العديد من الآشوريين بعض العائلات علانية بأنهم ليسوا مهجّرين بل “متظاهرين بذلك”، وأتوا إلى القرى بقصد الاستيطان الدائم. وترى منظمات حقوقية، كـ”الـمرصد الآشوري لحقوق الإنسان”، أن الإقامة الطويلة للنازحين الدخلاء تشكّل تهديداً على الوجود الآشوري في المنطقة، ومن الممكن أن يؤدي الوضع الحالي إلى تغيير ديموغرافي دائم.

اشتدت المخاوف في آب/أغسطس 2022، عندما وصل إلى قرية تل نصري في ريف الحسكة أكثر من 350 شخصاً محمّلين بأغراضهم ومفروشاتهم وسياراتهم، فكسروا أقفال البيوت ودخلوها بدون أي تنسيق مسبق مع “قيادة المجتمع المحلي” في تلك القرية، حيث اضطرت “قوات سوريا الديمقراطية” للتدخل بينهم وبين سكان القرية لوقف أي تصادم بينهم، لكن في نهاية المطاف بقوا في تلك المنازل التي اعتبروها فارغة ومن حقّهم السكن فيها.

أمرآة سورية تقف على ركام مدينتها
إمرأة تقف تعاين دمار منزلها (Photo by Sameer Al-Doumy / AFP)

لجنة حماية الغائب، ماهي؟

قبل تشكيل “الإدارة الذاتية وإعلان الفيدرالية” لشمال وشرق سوريا في عام 2014 ومن خلال مبادرةٍ من تحالفٍ يضم أحزاباً كردية، سريانية، وآشورية (حزب الاتحاد السرياني، والمنظمة الآثورية، والحزب الآشوري الديمقراطي)، اتخذت السلطات المحلية في شمال شرق سوريا في الأعوام 2014 و2015 عدّة إجراءات للحدّ من بيع الممتلكات العقارية التي تركها أصحابها. المرسوم رقم (20) لعام 2015، كان أحد هذه الإجراءات، توفير حماية خاصة للأقليات الإيزيدية والمسيحية، مما سمح بتشكيل لجان لإدارة العقارات التي تُركت من قِبل أصحابها أو الذين فُقدوا.

هذا الإجراء جاء في وقت كان فيه الإيزيديون والمسيحيون يفرّون من قراهم بسبب تهديدات تنظيم “داعش”، وتُباع أراضيهم دون أي رقابة.

بموجب “المرسوم 20″، أُسِّسَت بالتعاون مع رجال دين من مختلف الطوائف الآشورية السريانية، والكلدانية، لجنة “حماية أملاك الغائب” لإدارة وحماية ممتلكات المسيحيينَ الغائبينَ وتمثيلهم أمام المحاكم. هذه اللجنة، التي تتشعب إلى فروع محلية تتألف من قادة المجتمع، تضم في تل تمر عشرة أعضاء يعيّنهم الأسقف المحلي. لاحقًا، اضطرت “الإدارة الذاتية” لإلغائه بعد أن واجهت رفضاً شعبياً واسعاً، حيث رأى المعترضون على هذا “المرسوم” أنه يخوّل السلطات السيطرة على ممتلكات الغائبين بحدود كبيرة جدّاً خصوصاً أنه لم يكن يعترف بالتوكيل إلا من الأقارب من الدرجة الأولى، وهو ما أكده مسؤول “المنظمة الآثورية الديمقراطية” غبرييل موشي لموقع “الحل نت”.

بينما يرى “المركز السوري للعدالة والمساءلة” والذي يتخذ من واشنطن مقراً له أن القانون يعمل كأمر عسكري يفيد سلطة الأمر الواقع، مما يسمح لـ”الإدارة الذاتية” بمصادرة أملاك المدنيين، ويستهدف بشكل خاص المجتمعات العربية في شمال شرق سوريا. من خلال استثناء بعض الجماعات العرقية مثل السريان الآشوريين والأرمن من القانون، ويثير مخاوف من التمييز ويمكن أن يؤدي إلى مزيد من الانقسام والتفكك الاجتماعي، مما يعرقل جهود المصالحة والسلام في المنطقة.

في عام 2020، حاولت “الإدارة الذاتية”، أن تعتمد التدابير ذاتها مرّة ثانية، من خلال القانون رقم (7) لعام 2020، واضطرت لإلغائها بعد أسبوع واحد فقط بسبب الاحتجاج الشعبي مجددًا. رغم ذلك، أُسِّسَت لجنتان لـ “أملاك الغائب”، واحدة في الخابور تديرها “الكنيسة السريانية الأرثدوكسية”، وأخرى في القامشلي ومدينة الطبقة يديرها “حزب الاتحاد السرياني”، لكنّ اللجنتين لا تزالان في موقف خلاف بينهما على إدارة تلك الأملاك.

حرصت “الإدارة الذاتية” على إصدار قانون “حماية وإدارة أملاك الغائب” لتنظيم ممتلكات السوريين الغائبين، بمن فيهم المجرّدين من جنسيتهم في إحصاء 1962، ممن يقيمون بصورة دائمة خارج البلاد. ينصّ القانون على تشكيل لجنة لجمع بيانات هذه الأملاك لتأجيرها أو استغلالها للمنفعة العامة، مع منع بيعها أو التصرف بها. كما يحدد أن الغائب يفقد حقوق العائد من ممتلكاته إذا لم يثبت ملكيته خلال سنة من نشر القانون، مع استثناءاتٍ لأسباب الغياب المشروعة كالدراسة أو العلاج.

قوات سوريا الديمقراطية
قوات سوريا الديمقراطية

مستقبل الخابور، مَن يقرره؟

تعتبر مجموعة من المنظمات والأحزاب السريانية أن مستقبل منطقة الخابور، التي كان يسكنها بالأساس سريان آشوريون، لن يكون كما في الماضي. عدد السريان الآشوريين الذين كانوا يعيشون هناك قبل عام 2011، والذي كان يتجاوز الـ 30 ألف، قد انخفض اليوم إلى أقل من ألف شخص، وفقاً لإحصاءات محلية.

والأسباب التي تحول دون عودة سكان هذه القرى متعددة؛ فالسبب الأول يعود إلى أن الآلاف اضطروا لمغادرة قراهم بعد هجوم شنّه تنظيم “داعش”، وقد وصل بعضهم إلى أوروبا ودول غربية أخرى، وليس لديهم النيّة للعودة إلى مناطق تحت سيطرة سلطات يعتبرونها “سلطة أمر واقع”، بالإضافة إلى أن تلك المناطق أصبحت غير صالحة للسكن بسبب الدمار الذي لحق بعشرات المنازل جراء القصف والتفجيرات، كما ذكر جميل ديار بكرلي، المدير التنفيذي لـ”المرصد الآشوري لحقوق الإنسان” لموقع “الحل نت”.

السبب الثاني يتمثل في غياب الخطط لإعادة تأهيل هذه القرى وتهيئتها لعودة سكانها. أما السبب الثالث، فيتعلق بعدم وجود حلول آنيّة لمشكلة النازحين الذين جاءوا من مناطق أخرى واستقروا في قرى الخابور، وضمان إعادة العقارات والأراضي التي تم الاستيلاء عليها إلى أصحابها الأصليين، مع توفير بدائل سكنية آمنة في مناطق أخرى لهؤلاء النازحين، كما أكدت “المنظمة الآثورية الديمقراطية”، عَبَر مسؤولها غبرييل موشي، في تصريح خاص. 

وطالبت “المنظمة الآثورية الديمقراطية” بالعمل بجدّية وفعالية على تسهيل عودة أبناء منطقة الخابور إلى منازلهم وأراضيهم في قراهم وبلداتهم بشكل فوري وبدون تأخير، وإنهاء كافة الممارسات التي قد تؤدي إلى تغيير التركيبة الديموغرافية للمنطقة.

في هذا السياق، قال قيادي بارز ضمن “قوات سوريا الديمقراطية” في تصريح خاص لموقع “الحل نت”، إن عودة المهجّرين من القرى المسيحية إلى قراهم وحلّ مشكلة النازحين يحتاج إلى جهود الأحزاب والمنظمات المحلية، وأن قواتهم العسكرية لا تريد أن تتدخل بهذه القضايا.

من جهته، دعى غبرييل موشي، مسؤول “المنظمة الآثورية”، إلى ضرورة حماية القرى على خط التماس مع الفصائل الموالية لتركيا وتحييدها لضمان عودة سكّانها بأمان، معتبراً أن الأولوية يجب أن تكون لإعادة الأمان إلى المنطقة وضمان عدم تكرار الهجمات التي تعرّضت لها القرى المسيحية في السابق.

تواجه منطقة الخابور تحدّيات كبيرة تتعلق بعودة سكانها الأصليين وإعادة إعمارها. الحلول المطروحة تتطلب تعاوناً وتنسيقاً بين مختلف الأطراف المعنية، بما في ذلك السلطات المحلية، المنظمات الدولية، والمجتمع المحلي نفسه، لضمان عودة آمنة ومستدامة للنازحين والمهجّرين، وللحفاظ على التنوع الثقافي والديني لهذه المنطقة الغنية بتاريخها وتراثها.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
5 1 صوت
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات