ما تزال الحرب الروسية على كييف منذ اندلاعها تكشف عن مفاعيل سياسية عديدة، وذلك إلى جانب الصراع العسكري، إذتضع موسكو عدة أهداف استراتيجية لجهة تمددها الجيوسياسي في المنطقة التي تعتبرها ضمن نطاقاتها الحيوية الأمنية. 

تتكشف سياسات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وخططه الخارجية نحو إدامة الخصومة ضد الغرب، بما يفاقم حالة الاستقطاب القديم المماثل لفترة الاتحاد السوفيتي، وبالتالي، يسعى إلى اعتبار الحرب هي لحظة يباشر من خلالها تشكيل نظام عالمي تنتهي عنده ما تعتبره موسكو سيادة القطب الواحد الذي تشكل مع نهاية الحرب الباردة وسقوط جدار برلين مع بدء تسعينيات القرن الماضي.

إنهاء الهيمنة الأميركية، هو ما جاء في وثيقة سرية لوزارة الخارجية الروسية، وهي الوثيقة التي يرجع تاريخها للعام الماضي، بينما حصلت عليها إحدى الأجهزة الاستخبارية الأوروبية وفق صحيفة “واشنطن بوست”، وعنونت ضمن ملحقها السري “مفهوم السياسة الخارجية للاتحاد الروسي” الرسمي لروسيا، وتلح فيه موسكو على ضرورة تدشين “حملة إعلامية هجومية” كجزء من خطط وعمليات أخرى تصب في إطار استراتيجية الحرب متعددة “المجالات النفسية العسكرية والسياسية والاقتصادية والتجارية والإعلامية” ضد ما وصفته بتكتل أو “تحالف الدول غير الصديقة” بقيادة واشنطن.

حرب روسيا ضد الغرب

تنص الوثيقة المسربة على أن موسكو “بحاجة إلى مواصلة تعديل نهجنا في التعامل مع العلاقات مع الدول غير الصديقة”، بل “ومن المهم إنشاء آلية لإيجاد نقاط الضعف في سياساتهم الخارجية والداخلية بهدف تطوير خطوات عملية لإضعاف معارضي روسيا”. وتقدم الوثيقة للمرة الأولى تأكيدا رسميا وتدوينا لما يقول الكثيرون بالنخبة في موسكو إنه أصبح حربا هجينة ضد الغرب. 

وتسعى روسيا إلى تقويض الدعم الغربي لأوكرانيا وتعطيل السياسة الداخلية للولايات المتحدة والدول الأوروبية، من خلال الحملات الدعائية الداعمة “للسياسات الانعزالية والمتطرفة”، كما أنها تسعى إلى إعادة تشكيل الجغرافيا السياسية، والاصطفاف ناحية الصين وإيران وكوريا الشمالية في محاولة لتغيير موازين القوى الحالي.

في حديثه لـ “الحل نت”، يوضح الأكاديمي والمحلل السياسي المختص في الشأن الأوكراني، خليل عزيمة، أن روسيا سعت منذ بداية الحرب جاهدة لزعزعة الموقف الأوروبي باستخدام سلاح الطاقة للتأثير على موقف الغرب الداعم لأوكرانيا. فبدأت بتقليص إمداد الغاز من أجل الضغط على الاقتصاد، ورافق ذلك أيضا حملة إعلامية موجهة إلى الشارع الأوروبي بالتحذير من أن أوروبا ستواجه شتاء باردا وأن عجلة الصناعة ستتوقف. طبعا حملة الإعلام الروسي والإعلام المؤيد له فشلت واستطاعت أوروبا تخطي أزمة الطاقة بنجاح بل واستطاعت التخلص من الاعتماد على الغاز الروسي.

كما عززت السياسة الروسية خلال الحرب ضد أوكرانيا بدعم “التيارات والأحزاب الشعبوية في أوروبا أملا بوصول هذه الأحزاب الى السلطة مستغلة غضب هذه الأحزاب من مشاكل الهجرة واللاجئين والركود في النشاط الاقتصادي في الاتحاد الأوروبي”. يقول عزيمة، موضحا: “نجحت هذه السياسة نسبيا ولكن بشكل محدود، رأينا تغيرا في سياسة بعض الدول باستمرارية الدعم العسكري لأوكرانيا ولكن بشكل عام ما زال موقف الاتحاد الأوروبي ثابتا ومستمرا في الدعم غير المحدود لأوكرانيا وتجلى ذلك في الإعلان الأخير عن حزم المساعدات المقدمة لأوكرانيا”. 

أيضا، راهنت السياسة الروسية على الجدل بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري في الولايات المتحدة التي تمر بعام انتخابي حاسم، وأدى ذلك إلى تأخر الموافقة على حزمة المساعدات لعدة أشهر، وفق الأكاديمي والمحلل السياسي المختص بالشأن الأوكراني، لافتا إلى أن روسيا أحرزت خلال فترة الجدل وانخفاض مستوى الذخيرة في أوكرانيا، تقدما غير كبير على جبهة دونيتسك، ولكن تم مؤخرا الإفراج عن حزمة المساعدات وعاد تدفق الأسلحة إلى أوكرانيا.

سياسة “الابتزاز والمساومة”

فيما تعتمد السياسة الخارجية الروسية على مبدأ “الابتزاز” و”المساومة”، وقد ظهر ذلك جليا في الأحداث في الشرق الأوسط وموقفها في مجلس الأمن واستطاعت أن تزيد من التعاطف الشعبي وبعض الرسمي العربي (بدأ ذلك منذ بداية الحرب على أوكرانيا وخروج مسيرات مؤيدة لروسيا)، لكن عمليا نرى أن روسيا ليست لاعبا أساسيا في جهود إنهاء الحرب على غزة ولا يوجد لها أي حضور سواء على صعيد المساعدات الانسانية أو التحرك الدبلوماسي، فيما جهود الوساطة محصورة بين الولايات المتحدة وبعض الدول العربية.

على صعيد السياسة الداخلية الروسية، اعتمدت روسيا منذ بداية الحرب على رواية، أنها “تحارب توسع الناتو باتجاه حدودها وعلى نظرية النازية وأعتقد أن جزءا لا بأس به من المجتمع الروسي بات يدرك عدم صحة هذه الرواية، وتجلى ذلك من خلال ملاحقة ما تبقى من المعارضين في الداخل الروسي”، وفق عزيمة. 

كذلك لم يتردد الإعلام الروسي الشمولي من استخدام الاعتداء الإرهابي في موسكو في حربه. فقد اتهم معظم المحللون السياسيون في موسكو أوكرانيا وحلفائها بتدبير العمل الإرهابي منذ اللحظات الأولى وحتى قبل إلقاء القبض على الإرهابيين. وحتما، ستستمر السياسة الروسية على نشر المعلومات المضللة للتأثير على الانتخابات في أوروبا وفي الولايات المتحدة من خلال منظومة إعلامية روسية قوية جدا، وكذلك عبر العمل على زعزعة الاستقرار في أوروبا من خلال عملائها.

بوتين في منطقة خيرسون في شتاء 2023 – (رويترز)

وتؤكد الوثيقة التي تعتمد لغة سياسية مباشرة وخشنة ضد “الدول غير الصديقة” لروسيا، وتضعهم في مربع الخصوم بشكل مباشر، وتبتعد عن اللغة الدبلوماسية المرنة، أن الحرب في أوكرانيا “ستحدد إلى حد كبير الخطوط العريضة للنظام العالمي المستقبلي”، وبالتالي، ترى أنه من الضروري السعي عبر عدة وسائل سياسية وأمنية واقتصادية وتحالفات مع قوى خارجية نحو تغيير طبيعة النظام العالمي، وإيجاد بدائل للقطب الواحد، أو الهيمنة الأميركية. وعليه، تأمل موسكو أن “يدرك الغرب عدم وجود أي مستقبل في سياسة المواجهة وطموحات الهيمنة، وأن يتقبل الحقائق المعقدة للعالم متعدد الأقطاب”. 

الصحيفة الأميركية، أشارت إلى ما طالب إليه الأكاديمي فلاديمير زاريخين بلاده بأن تواصل “الاستمرار في تسهيل وصول القوى اليمينية الانعزالية إلى السلطة في أميركا”، بالإضافة إلى “تمكين زعزعة استقرار دول أميركا اللاتينية وصعود القوى المتطرفة إلى السلطة هناك، ثم استعادة سيادة الدول الأوروبية من خلال دعم الأطراف غير الراضية عن الضغوط الاقتصادية التي تمارسها الولايات المتحدة”.

وكشفت “واشنطن بوست”، عن ضلوع موسكو في بعث حالة صراع بين واشنطن وبكين من خلال تايوان، الأمر الذي يستدعي ضرورة التقارب بين موسكو وبكين بالتبعية، فضلا عن “تصعيد الوضع في الشرق الأوسط حول إسرائيل، وإيران وسوريا لإلهاء الولايات المتحدة عن مشاكل هذه المنطقة”.

السياسة البوتينية

في وثيقة سابقة منشورة على المنصة الرسمية لوزارة الخارجية الروسية، هناك خطط لبوتين نحو التصعيد ضد الغرب من مبدأ تفكيك الوضع القائم في النظام الدولي، لا سيما في ظل “التغيرات التي تحدث”، حيث تثير الرفض لدى عدد من الدول التي اعتادت على التفكير وفق منطق الهيمنة العالمية والاستعمار الجديد. “إنهم يرفضون الاعتراف بحقائق عالم متعدد الأقطاب ويتفقون على هذا الأساس على معايير ومبادئ النظام العالمي. وتجري محاولات لتقييد المسار الطبيعي للتاريخ، والقضاء على المنافسين في المجالات العسكرية والسياسية والاقتصادية، وقمع المعارضة”. 

“يتم استخدام مجموعة واسعة من الأدوات والأساليب غير القانونية، بما في ذلك استخدام العقوبات لتجاوز مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة.. والتلاعب بوعي الفئات الاجتماعية الفردية والأمم بأكملها، العمليات الهجومية والتخريبية في الفضاء المعلوماتي. أصبح أحد الأشكال الشائعة للتدخل في الشؤون الداخلية للدول ذات السيادة هو فرض المبادئ التوجيهية الأيديولوجية النيوليبرالية المدمرة التي تتعارض مع القيم الروحية والأخلاقية التقليدية. ونتيجة لذلك، يمتد التأثير المدمر إلى جميع مجالات العلاقات الدولية”.

السياسة الروسية أو البوتينية هذه تحتاج إلى المزيد من الوقت للتثبت من نجاحها وفعاليتها ومدى تأثيراتها في موسكو، لأن التغييرات التي حدثت في العالم بعد 2022؛ هي بداية للتغيير الكبير بروسيا، وغيرها من المنصات أو التحالفات الاقتصادية، وفق الباحث الروسي في “جامعة الصداقة بين الشعوب”، ديمتري بريجع.

وبسؤال بريجع عن آليات موسكو السياسية والثقافية لتمرير موقفها العدائي من الغرب وواشنطن، يجيب لـ “الحل نت”: “إضعاف الغرب عبر الهيمنة ويتم من خلال بناء قواعد عسكرية في عدة مناطق كمثال القارة الإفريقية ما حدث في النيجر وغيرها من الدول. بذلك روسيا بدأت سياسة لإعادة الانتشار في العالم كما كان ذلك في زمن الاتحاد السوفيتي ولكن بسياسة جديدة”.

كما تقوم موسكو باستعمال ملفات عدة لتشتيت الغرب، ومنها الانخراط في صراع وإدامة الحرب والأزمة في الشرق الأوسط التي تعد مناطق نفوذ تقليدية للغرب وواشنطن، وهذا يحدث في الموقف الروسي من الحرب في ليبيا ةسوريا، فضلا عن دورها بملف الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، لكن لكل ذلك تأثيرات صعبة على الملف الحقوقي والوضع الأمني في موسكو، بما يجعل التداعيات ونتائجها صعبة ومعقدة مع زيادة أعداد المعتقلين لرفضهم الحرب أو التجنيد الإجباري والقسري، وفق بريجع.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
أقدم
الأحدث الأكثر تقييم
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات

الأكثر قراءة