لاستغلالها في تسليح وإعادة إعمار أوكرانيا، يعمل الغرب جاهدا لإيجاد طرق تمكنه من مصادرة الأصول الروسية المجمدة في خزائنه، إلا أن هذه الخطوة قد تعطل النظام الدولي وتهدد موثوقية الغرب، لما تمثله من انتهاك للقانون والمعايير المالية الدولية، وستجعل الدول الأخرى والمستثمرين الأجانب يفكرون عشرات المرات قبل الاستثمار في الدول الغربية.

ففي 8 أيار/ مايو الجاري، قالت الرئاسة البلجيكية لمجلس الاتحاد الأوروبي، إن سفراء دول الاتحاد الأوروبي توصلوا إلى اتفاق “من حيث المبدأ” لاستخدام عائدات الأصول الروسية المجمدة في الاتحاد الأوروبي لتمويل المساعدات العسكرية لأوكرانيا. وقالت على صفحتها على منصة “إكس”: “ستعمل الأموال لدعم تعافي أوكرانيا والدفاع العسكري في سياق العدوان الروسي”. أعادت رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين، نشر المنشور قائلة: “لا يمكن أن يكون هناك رمز أقوى ولا استخدام أكبر لهذه الأموال من جعل أوكرانيا وأوروبا كلها مكانا أكثر أمانا للعيش فيه”.

قبلها، وافق مجلس النواب الأميركي بأغلبية ساحقة، على مشروع قانون لتخصيص ما يقرب من 61 مليار دولار لأوكرانيا، ويتضمن مشروع القانون بندا خاصا بمصادرة الأصول السيادية الروسية لصالح أوكرانيا. رئيسة مجلس الفيدرالية الروسي، فالنتينا ماتفيينكو، قالت: “هذه خطوة غير مسبوقة في تاريخ العالم، وستؤدي ببساطة إلى تدمير الاقتصاد العالمي… وهي غير قانونية وغير شرعية على الإطلاق، والجميع في أوروبا يدركون أن هذا لا يمكن القيام به”. مضيفة: “لدينا أيضا رد جاهز. لدينا مشروع قانون… وسيخسر الأوروبيون أكثر منا… والأخيرين خائفون من ذلك. خاصة على خلفية اقتصادهم المنهار”.

بدورها، قالت رئيسة البنك المركزي الأوروبي كريستين لاغارد، إن “الانتقال من تجميد الأصول إلى مصادرتها والتخلص منها قد يحمل في طياته خطر كسر النظام الدولي الذي تريد حمايته، والذي يتم مطالبة موسكو باحترامه”. وأيّد وزير المالية الفرنسي برونو لومير، بحدة أكثر، مقولة وزير المالية الإيطالي، جيانكارلو جيورجيتي، إنه سيكون من “الصعب والمعقد” إيجاد أساس قانوني للاستيلاء على أصول الدولة الروسية. “من الناحية الأخلاقية والسياسية إنه أمر سليم تماما، لكنه ليس سليما من الناحية القانونية”، حسب أستاذ القانون والاقتصاد في كلية إدارة الأعمال في باريس، أرمين شتاينباخ.

خطوة مغرية

خلال الاجتماعات السنوية لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي، مارس المسؤولون الأميركيون ضغوطا على نظرائهم الأوروبيين المترددين لاستخدام الأصول الروسية المجمدة. وأثنائها، التقت وزيرة الخزانة الأميركية، جانيت يلين، مع الأوروبيين على أمل التوصل إلى حل وسط، لكن المسؤولين الأوروبيين رفضوا مصادرة الأصول الروسية، خشية انتهاكها للقانون الدولي، وتقويض ثقة المستثمرين في اليورو، وإثارة إجراءات انتقامية من جانب روسيا. وبحسب تقرير لصحيفة “واشنطن بوست”، كان “المسؤولين الأوروبيين غاضبون من إصرار أميركا على ما يعتبرونه مسارا محفوفا بالمخاطر حيث يحتفظون بالغالبية العظمى من الأصول، ومن المرجح أن يقع أي انتقام روسي على أوروبا بدلا من الولايات المتحدة”.

كما أشارت صحيفة “فايننشال تايمز“، لبحث أجراه “شتاينباخ” استنادا لبيانات من “كلية كييف للاقتصاد” بقيادة واشنطن. خلاله، قال مؤيدو الفكرة، إن القيام بهذه الخطوة يوفر دفعة مالية ضخمة مع إمكانية تحويل الحرب لصالح كييف. فيما قال معارضوها، إنها سابقة خطيرة في القانون الدولي قد تعرض للخطر النظام القانوني الدولي. وهي انتهاك قد يؤدي لقيام دول أخرى بالاستيلاء على الأصول الغربية في ولاياتها القضائية، ما يضر بمكانة المراكز المالية في أوروبا ويخلق “غربا متوحشا”. ووفق الصحيفة، أشار الأوروبيون لسهولة تبني موقف متشدد من قبل واشنطن، كون الأخيرة لا تملك سوى 5 مليارات دولار من أصول الدولة الروسية. “إنهم لا يشاركون كثيرا في اللعبة”، قال أحد الدبلوماسيين الأوروبيين.

مع ذلك، يشير موقع “GIS Reports”، إلى أن المنطق السياسي وراء مثل هذه الخطوة مغر. لماذا لا يتم استرداد التكاليف التي تفرضها روسيا على أوكرانيا من موارد روسيا الخاصة؟ ولماذا يتعين على الغرب أن يقترض أو يدفع أي شيء من عائداته الضريبية الخاصة عندما يكون هناك مثل هذا القدر الكبير من الأموال الروسية المتاحة؟

تلويح الغرب، وخصوصا الولايات المتحدة الأميركية، بمصادرة الأصول الروسية يعد بمثابة المناورة ورغبة في تكثيف الضغوط الغربية على روسيا لتقليل معدل هجماتها على الأراضي الأوكرانية، لاسيما في ظل استغلال موسكو لانشغال الغرب بدعم تل أبيب في حربها على قطاع غزة لتوسيع نطاق عملياتها العسكرية في أوكرانيا، حسب الباحثة في المركز العربي للبحوث والدراسات وطالبة الدكتوراه في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، مرفت زكريا. 

من جانبه، حذّر “الكرملين”، الاتحاد الأوروبي من استخدام عائدات الأصول الروسية المجمدة لتسليح أوكرانيا. مؤكدا أن “القرارات المتعلقة بالأصول، ستكون لها عواقب وخيمة للغاية على من اتخذوها”. حيث تشير التقديرات الروسية إلى أن الغرب سيخسر أصولا واستثمارات لا تقل عن 288 مليار دولار، إن أقدم على مصادرة أصول روسيا المجمدة، وأن دول الاتحاد الأوروبي تمتلك 223.3 مليار دولار من هذه الأصول، منها 98.3 مليار دولار مملوكة رسميا لقبرص و50.1 مليار دولار لهولندا و17.3 مليار دولار لألمانيا، وفرنسا من بين أكبر 5 مستثمرين أوروبيين في الاقتصاد الروسي بأصول واستثمارات تبلغ قيمتها 16.6 مليار دولار وإيطاليا بما قيمته 12.9 مليار دولار.

في المقابل، جمّدت الولايات المتحدة وحلفاؤها قرابة 300 مليار دولار من أصول المركزي الروسي المحتفظ بها في مؤسسات مالية في الخارج، بعد الغزو الروسي لأوكرانيا. كما جمّدت العقوبات المفروضة على الشخصيات الروسية البارزة أصولا بنحو 58 مليار دولار، ومنها منازل ويخوت وطائرات خاصة.

حرمة الملكية 

الخطوة الأميركية المحتملة “ليست أقل من هدم جميع أسس النظام الاقتصادي”، حسب المتحدث باسم “الكرملين” ديمتري بيسكوف، “ولا يمكن اعتبارها سوى أعمال غير قانونية، وبالتالي، سيخضعون لإجراءات انتقامية وإجراءات قانونية”. إلى جواره، قال رئيس مجلس الدوما فياتشيسلاف فولودين، إن المشرعين الروس يمكنهم الآن تمرير تشريع “متماثل” للسماح لموسكو بالاستيلاء على الأصول الغربية في البلاد، كما هدد نائب رئيس مجلس الأمن الروسي والرئيس السابق للاتحاد الروسي، ديمتري ميدفيديف، بمصادرة أصول المواطنين الأميركيين ردا على مشروع القانون الأميركي بشأن نقل الأصول الروسية المجمدة إلى أوكرانيا.

بدورها، نشرت مؤسسة “روسكونغرس فاونديشن“، وهي مؤسسة تنموية ومنظمة لحدث كبير في روسيا، دراسة استقصائية لتجربة تجميد ومصادرة أصول بلدان بداية من العراق حتى كوريا الشمالية. تشير الدراسة، إلى أن المخاطر الحقيقية لإمكانية مصادرة احتياطيات البنك المركزي الروسي ما زالت محدودة. ففي ظل غياب تشريع دولي واضح، فإن أي محاولات للاستيلاء على الأصول ستعتمد على قوانين محلية للبلدان التي فرضت عقوبات على روسيا. لذا، يجب جهوزية الأخيرة للطعن في القرارات المتعلقة باحتياطياتها المجمدة، ما يقود لتقاضي قد يستمر لعقود، مع نتائج محتملة وغير واضحة.

مقر الاتحاد الأوروبي – (AP)

من جانبه، يقول أستاذ كلية العلوم المالية والمصرفية بأكاديمية الإدارة العامة الرئاسية الروسية، يوري يودنكوف، يقوم النظام المالي العالمي الحالي على مبدأ حرمة الملكية والثقة في الدولار الأميركي كعملة احتياطية، وقرار مجلس النواب الأميركي يشطب كلا الأمرين. ووفقا للأستاذ المساعد في قسم الأسواق المالية العالمية والتكنولوجيا المالية في جامعة بليخانوف الاقتصادية الروسية، دينيس بيريبيليتسا، فإن مصادرة الأصول السيادية الروسية ستضر بأميركا أكثر من روسيا، وستتجلى العواقب، على الأرجح، بالنسبة لأميركا، بتسريع تدفق المستثمرين من سندات الخزانة الأميركية والانتقال إلى آليات الدفع البديلة للدولار.

إضافة إلى ذلك، أشار بيريبيليتسا، إلى أن مشروع القانون لا يلزم الرئيس الأميركي جو بايدن بمصادرة الأصول، من “الناحية القانونية”، فالرئيس يمكنه القيام بذلك، ولكنه ليس مضطرا. ولذلك، فإن القرار النهائي لا يزال “موضع شك”. كما أوضح الاتحاد الأوروبي، حيث تم تجميد معظم الأصول الروسية. “إنه لا يدعم مصادرتها، لأن ذلك سيضر بمصالح أوروبا نفسها”.

تداعيات محتملة

في حال توسع الغرب في مصادرة الأصول الروسية وتوسعه في العقوبات على موسكو، فإنه من المرجح، حسب انترريجونال للتحليلات الاستراتيجية، أن يقابل ذلك ردود أفعال عنيفة من جانب روسيا، منها، مصادرة روسيا للأصول الأميركية والأوروبية لديها. مشيرا إلى مرسوم أصدره الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في نيسان/ أبريل 2023، يسمح للدولة بالسيطرة المؤقتة على أصول الشركات الأجنبية في روسيا، في رد انتقامي على تجميد الأصول الروسية في الخارج. ومن المحتمل أن تتوسع روسيا في هذا الاتجاه إذا رأت تصعيدا غربيا فيما يخص أصولها المجمدة. 

“أبرز تداعيات قيام الغرب بمصادرة الأصول الروسية ما أعلن عنه وزير المالية الروسي أنطون سيلوانوف، من أنها ستواجه برد فعل مماثل”، حسب زكريا. مشيرة في حديثها مع “الحل نت” إلى عدم توقف الأمر عند هذا الحد، بل ستتجه موسكو لاتخاذ بعض الإجراءات الانتقامية، بداية من مصادرة الأصول الأميركية والأوروبية لديها، بما يتضمن السيطرة المؤقتة على أصول الشركات الأجنبية في روسيا، وصولا إلى احتمالية تقويض العملات الغربية كمخزن للقيمة، لا سيما فيما يتعلق باليورو. وبالتالي إضعاف النظام المالي العالمي. وبرأيها، قد أشارت روسيا إلى أن ذلك سيطبق في المقام الأول على الشركات التي أوقفت عملياتها في موسكو، كشركة المشروبات الكحولية “Carlsberg “Group، وشركة الأغذية الفرنسية “Danone”.

كذلك ستؤدي الخطوة الغربية للتشكيك بمدى التزام الغرب بالقانون الدولي، ما يمّكن روسيا من الترويج لخطورة الخطوة التي أقدم عليها الغرب، باعتبارها “سرقة” وانتهاكا لقواعد القانون الدولي، وتقويضا للعملات الاحتياطية والنظام المالي العالمي والاقتصاد العالمي. وإلى قطع روسيا لعلاقاتها الدبلوماسية مع العديد من الدول الغربية، وربما إلى مزيد من التصعيد العسكري، بما في ذلك نشر صواريخ قصيرة ومتوسطة المدى في أوروبا أو منطقة آسيا والمحيط الهادئ. وإلى احتمالية تقويض العملات الغربية كمخزن للقيمة. وإلى تخوف الدول الأخرى من إيداع احتياطاتها في الأنظمة المصرفية الغربية.

ختاما يمكن القول، إن حديث الغرب عن مصادرة الأموال الروسية المجمدة لديها، لاستخدامها لتمويل دفاعها عن أوكرانيا وإعادة إعمارها لاحقا، يشبه أحاديث بعض المسؤولين الروس حول اللجوء إلى السلاح النووي، لمجابهة زيادة الانخراط الغربي إلى جانب أوكرانيا في الحرب الروسية-الأوكرانية. إذ يقف أمام التلويح بكلا السلاحين عقبات وتحديات لا يمكن تخطيها، إلا بتشارك الطرفين رغبة فتح أبواب الصراع على مصراعيها.  

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات

الأكثر قراءة