مصرع الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي ووزير خارجيته حسين أمير عبد اللهيان، وأخبار تحطم مروحيته شمال شرق إيران، دفع لمناقشة جملة من السيناريوهات الخاصة بشكل ومنسوب السياسة الخارجية لطهران عبر ملفات عديدة، كانت محل اهتمام وأولوية لدى وزارة الخارجية الإيرانية ووزيرها الراحل.

ملف تحسين العلاقات مع القاهرة، أحد أهم الملفات التي كان يتحرك فيها وزير الخارجية الراحل حسين أمير عبداللهيان خلال الفترة الماضية. 

عبر العام الفائت تحديداً من خلال بعض اللجان المشتركة جرت بعض الأمور لتجسير العلاقات المشتركة مع لقاءات وزير الخارجية بنظيره المصري في المناسبات الدولية والإقليمية خاصة مع انضمام مصر وإيران مطلع العام الجاري لتجمع الاقتصادات الناشئة “بريكس” ليضع المحور الاقتصادي، ضمن منظومة التفكير في تهدئة التوتر بين البلدين، خاصة مع النزيف الاقتصادي الذي تعاني منه مصر جراء الوضع المتوتر في البحر الأحمر ومضيق باب المندب من عمليات الهجوم لجماعة الحوثي في اليمن التابع لإيران.

بيد أن ذلك كله لا يشي بأمر لافت في منسوب العلاقات المصرية الإيرانية، لا سيما أن معظم ما تم خلال الفترة الماضية لم يتجاوز الاجتماعات الرسمية واللجان المشتركة، والتي تعمل بشكل روتيني على ملفات حساسة ودقيقة تهم البلدين سواء على المستوى الأمني أو الاقتصادي وكذا التبادل التجاري.

مرحلة الشكليات

الآن بعد أن غيب الموت وزير الخارجية أمير عبد اللهيان، ودخول البلاد مرحلة ملء الفراغ السياسي، وشغور منصب الرئيس ووزير الخارجية وترتيب اسم المرشد القادم، يضحى انكفاء طهران على وضعها الداخلي أكثر ترجيحاً وتأجيل بعض الملفات العالقة أحد السيناريوهات المطروحة التي تدفع أيضاً بمحاذير رفع درجة التطرف والتشدد، نحو بعض الإجراءات المرتبطة بملفات ساخنة. 

الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي يستمع إلى وزير الخارجية سامح شكري في قمة القادة الأميركيين الأفريقيين في واشنطن، 15 ديسمبر 2022 (صورة AP لسوزان والش).

غير أن ذلك لا ينفي بالكلية الارتباط الحيوي لجملة من الملفات في ما بين القاهرة وطهران. وعلى أي مسؤول حتمية أن يتابع صيرورة تلك الملفات، ما يجعل حرص وزير الخارجية المصري سامح شكري على زيارة طهران في ذلك التوقيت لتقديم واجب العزاء من الناحية البروتوكولية، فضلاً عن كونه يرقب مسار الخطوات التالية والقادمة سيما في ملف أمن البحر الأحمر وقطاع غزة.

في هذا السياق، يشير الخبير الاستراتيجي، اللواء أركان حرب ياسر هاشم، أن تقديره في مسار تطبيع العلاقات المصرية الإيرانية ما زال داخل حيز مرحلة الشكليات، ولم يتجاوز تلك المرحلة منذ عام تقريباً على بداية محاولة إحياء العلاقات فيما بينهما.

ويتابع هاشم في تصريحاته لـ”الحل نت”، بقوله إنه حتى اللحظة لا يرى تقدماً ملحوظاً في هذا المسار من جانب طهران، على مستوى المصالح المصرية في البحر الأحمر، والأمن في قطاع غزة. 

بل ويشير ياسر هاشم إلى أنه من المعروف كون تراتبية الحكم في النظام الإيراني تؤول لبيت المرشد، بحيث يكون المتحكم في السياسة الإيرانية العامة هو المرشد الولي الفقيه، وليس الرئيس الذي ينحصر دوره في متابعة آليات التنفيذ بعيداً عن صنع السياسة وصياغة توجهاتها الأساسية. 

بيد أنه يلفت أيضاً نحو اختفاء شخصية وزير الخارجية وهو ما سيضع تأثيره الخاص على مسار التحركات الإقليمية، وأن الوقت القادم سيكشف الكثير من ارتباكات اللحظة بغياب الرئيس ووزير الخارجية وتراكم الهجمات التي تلقتها طهران خلال الفترة الحالية. 

وفق تقدير اللواء هاشم، فإن مصر تراقب الوضع الإقليمي والدولي بشكل متتابع. كما أنها تدقق في مسار التجربة السعودية مع إيران، وتضع جملة من السيناريوهات إزاء ما تحركت طهران خطوات نحو القاهرة أو بادرت بعض القوى الدولية بذات الاتجاه، لا سيما أن القاهرة تدرس جيداً شكل ومنسوب النفوذ والتأثير الإيراني على حلفائها العرب.

عهد التهديد مستمر

في أعقاب الإعلان الرسمي عن وفاة رئيسي، كلف المرشد الإيراني علي خامنئي محمد مخبر بتولي مهام الرئيس، كما تم تعيين علي باقري رئيساً للجنة العلاقات الخارجية (وزيراً للخارجية) في الحكومة الإيرانية خلفاً لــ عبد اللهيان.

من يقف خلف حادثة سقوط طائرة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي ومرافقيه؟ (3)
يظهر الزعيم الديني الإيراني آية الله علي خامنئي في نشرة أخبار بي بي سي في هذه الصورة التوضيحية التي التقطت في 19 مايو/أيار 2024. (تصوير ياب آريينز/غيتي)

نحو ذلك أجاب الأكاديمي اللبناني وأستاذ العلوم السياسية، هاني المالكي، رداً على سؤال حول ما إذا كان هناك ثمة نقاط واقعية في ملف التطبيع الإيراني والمصري أم الأمر يقتصر فقط على بعض النقاط الوظيفية بين البلدين، مثل أمن البحر الأحمر، والوضع في قطاع غزة، فضلاً عن التبادل التجاري، بقوله “بدأت إشارات التقارب المصري الإيراني أواخر العام 2022، وليست مرتبطة بحرب غزة أو موضوع البحر الأحمر، بل اتصلت وامتدت من خلال مناقشة مصالح اقتصادية وملفات سياسية أمنية”.

ويتابع الأكاديمي وأستاذ العلوم السياسية تصريحاته لـ “الحل نت”، بأن معركة “طوفان الأقصى” وما تلاه من حرب مفتوحة في المنطقة، جاء ليزيد من الملفات المطروحة بين البلدين، ولكن باتجاه سلبي، أي أن طهران متهمة اليوم من قبل القاهرة، بأنها أحد مسببي الحرب، وخصوصاً بتوسيعها لتشمل “الحوثي” الذي أضر الاقتصاد المصري كثيراً بسبب استهداف البحر الأحمر. وهذا يتطلب معالجة أولاُ قبل المضي في تحسين العلاقات.

وبحسب المالكي، فإن سيناريو التقارب السياسي في جغرافيا الشرق الأوسط، ربما يأتي في ظل ميل دول المنطقة إلى تبريد الخلافات في ما بينها، وقد نجحت السعودية وإيران مثلاً، من خلال اتفاق بكين في ذلك، ولا يزال التفاهم قائماً. 

أما بالنسبة لمصر، فإن قضيتها مع إيران أكثر صعوبة وتعقيداً، أولاً بسبب تورط إيران في نزاعات تزعج مصر، وتهدد الأمن القومي المصري، ولكن لا شيء يستعجل القاهرة للتنازل لإيران؛ لأنها ليست في حالة حرب مباشرة معها، كما هو حال السعودية ووضعها في اليمن.

وثانياً، يمكن اعتبار أن المكاسب الاقتصادية محدودة بين البلدين، إلا أن انتساب البلدين إلى مجموعة “بريكس” برعاية الصين وروسيا، يحتم عليهما تهدئة الموقف سياسياً، والتقارب قدر الإمكان. 

فالعائق الأساسي، وما زال الحديث للمصدر ذاته، مع إصلاح العلاقات هو التدخلات الإيرانية في المنطقة، وإذا كانت إيران تسعى إلى إقامة علاقة جيدة مع قطب سني آخر، بعد تركيا والسعودية، وتريد الموازنة بين الثلاثة، فإن القاهرة ستظل تنظر إلى المشروع الإيراني في المنطقة كتهديد صريح ومباشر للأمن القومي المصري.

عسكرة الدولة

مسار السياسة الخارجية والملفات الإقليمية في إيران، لن يتغير إطلاقاً، لأن الممسك بها ليس الرئيس الإيراني وليست الدولة الإيرانية إطلاقاً، وإنما الدولة العميقة، أي المرشد وأتباعه و”الحرس الثوري”، وما الرؤساء في إيران إلا انعكاس لتوجه هذه الدولة العميقة. 

هجوم وقح ماذا كشف الرد الإيراني على إسرائيل؟ (1)
المرشد الأعلى الإيراني آية الله علي خامنئي يحضر احتفالاً مشتركاً للجيش في طهران. (تصوير حسين فاطمي/وكالة الأنباء الفرنسية)

وحين يترك للإصلاحيين حرية الحركة وحتى الوصول إلى سدة الرئاسة، فهو نتيجة لقرار المرشد كرسالة إلى الخارج بالرغبة بالحوار. أما حين يعود المتشددون إلى الحكم فهو أيضاً بقرار مواجهة مع الخارج.

في إيران لم تعد المؤسسة الدينية تنتج رجال دين معارضين ذو شأن ووزن، فقد تم تطويعها وتدجينها، أما التحركات الشعبية من حين لآخر، فتقمع بقسوة. وعلى الرغم أن عهد إبراهيم رئيسي كان الأسوأ اقتصادياً، فإننا لم نشهد ثورة شعبية. فوفق أخبار الصحفة الرسمية، لا تغيير في السياسة الخارجية؛ لأن إيران ومنذ إلغاء الاتفاق النووي وإجهاض عملية الانفتاح على الغرب، لا تزال في مرحلة المواجهة مع أميركا، وهي مواجهة مركبة تزاوج بين التصعيد والتفاهمات الجزئية.

وبمناقشة المالكي، حول طرح سيناريو أن القادم بعد الرئيس الراحل إبراهيم رئيسي سيكون أكثر تطرفاً وتشدداً، فيرجح هذا الطرح، موضحاً أن إيران في حالة حرب غير معلنة ولن تسمح لرئيس ضعيف أو مهادن أن يتولى مقاليد الأمور الآن، بل ستختار الرئيس الأكثر تشددا لقيادة مرحلة صاخبة داخلياً وخارجياً. 

على الصعيد الداخلي، يخشى النظام أن الأزمة الاقتصادية المستمرة منذ عقود قد تنفجر في وجهه بأي وقت، وينبغي التعامل بحزم مع ذلك. كذلك على الصعيد الداخلي، ولكن أمنياً، ظهر أن ثمة خروقات كبيرة للأمن الإيراني، من أطراف داخلية وخارجية، وينبغي التشدد لمعالجتها.

كما أنه على الصعيد الخارجي، فإن المواجهة مع الأميركيين محتدمة، وخصوصاً مع أخبار انخراط إيران في تحالف سياسي عسكري مع روسيا، وتحالف اقتصادي مع الصين. ورغم تفاهمات الحد الأدنى مع الأميركيين، وخصوصاً بعد حرب غزة، فإن المعركة الكبرى مع الولايات المتحدة لإحياء الاتفاق النووي ومكاسبه الاقتصادية، لا تزال مستعرة، وقد تشهد تطورات دراماتيكية في الفترة المقبلة. لكل هذه الأسباب فإن المرشد و”الحرس الثوري” سيضعون رئيساً متشدداً في الواجهة.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات