زيارةٌ بوتين لبيونغ يانغ أثارت قلقاً مبرّراً لدى العديد من الدول، بما أفرزته من توقيع اتفاقية شراكة استراتيجية شاملة قضت إحدى موادها بالدفاع المشترك بين روسيا وكوريا الشمالية. وبما قد يتبعها من توسيع دائرة التحالفات العسكرية في منطقة مزدحمة بالخلافات الدفينة، والتحالفات الناشئة أو المرجوة.

اتفاق روسيا وكوريا الشمالية، “يجب أن يكون مصدر قلق لأي دولة تعتقد أنه يجب الالتزام بقرارات مجلس الأمن الدولي”. قال المتحدث باسم الأمن القومي في “البيت الأبيض”، جون كيربي. في إشارة إلى فرض “مجلس الأمن” عقوبات على كوريا الشمالية في محاولة لوقف تطويرها للأسلحة النووية.

من جانبها، نقلت وكالة “أسوشيتد برس” عن وسائل الإعلام الكورية الشمالية، قولها إن الاتفاق تطلّب استخدام البلدين جميع الوسائل المتاحة لتقديم مساعدة عسكرية فورية في حالة الحرب، مع تعاون أوسع في المجالات العسكرية والسياسة الخارجية والتجارة. “كوريا الشمالية وروسيا استعادتها تحالفهما العسكري الذي يعود إلى حقبة الحرب الباردة بالكامل”، قال المحلل في “معهد سيجونغ” في كوريا الجنوبية، تشيونغ سيونغ تشانغ، وأضاف أن، “الاتفاق بيان رمزي يتعهد بتوسيع التعاون، لكنه يترك مجالا كبيرا للتفسير عندما ندخل حيّز التنفيذ”. 

حسب وكالة الأنباء المركزية الكورية الشمالية، تقضي المادة الرابعة من اتفاقية الشراكة الاستراتيجية الشاملة الموقّعة بين الجانبين بأنه في حالة وضع أي من الجانبين في حالة حرب بسبب غزو مسلح من دولة منفردة أو عدة دول، يقدم الجانب الآخر المساعدة العسكرية وغيرها من المساعدات بكل الوسائل التي في حوزته دون تأخير وفقا للمادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة وقوانين جمهورية كوريا الشعبية الديمقراطية والاتحاد الروسي.

الاتفاقية الحالية ستحلّ محل الوثائق الأساسية السابقة: معاهدة الصداقة والمساعدة المتبادلة لعام 1961، و معاهدة الصداقة وحُسن الجوار والتعاون لعام 2000، وإعلاني موسكو وبيونغ يانغ لـ عامي 2000 و2001، قال مساعد الرئيس الروسي للشؤون الدولية يوري أوشاكوف. والمعاهدة الجديدة مشروطة بتغيير في الوضع الجيوسياسي وتهدف إلى ضمان قدر أكبر من الاستقرار في شمال شرق آسيا.

لكن القلق الأكبر، حسب تشانغ، “ليس ما إذا كانت (روسيا) ملتزمة بتدخل عسكري تلقائي أم لا، بل التوسع المحتمل في عمليات نقل الأسلحة الكورية الشمالية إلى روسيا ونقل التقنيات العسكرية الروسية إلى كوريا الشمالية”. وإلى ذلك، قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، إنه “لن يستبعد تطوير التعاون العسكري التقني مع جمهورية كوريا الشعبية الديمقراطية وفقا للوثيقة الموقّعة اليوم”. مضيفا، أن الاتفاق يدعو إلى تقديم مساعدة عسكرية “فقط إذا ارتكب عدوان ضد أحد الطرفين. لذا، لا ينبغي لكوريا الجنوبية أن تقلق إذا كانت سيؤول لا تخطط لأي عدوان على بيونغ يانغ”.

“صداقة نارية”

موسكو حريصة على “عدم قطع التواصل بالكامل مع دول مثل كوريا الجنوبية”، قال أستاذ الدراسات الكورية الشمالية الفخري في “جامعة كولومبيا”، كوه يو هوان. وأضاف: “تحتاج روسيا إلى دعم الأسلحة من كوريا الشمالية بسبب الحرب الطويلة في أوكرانيا، في حين تحتاج كوريا الشمالية إلى دعم روسيا على صعيد الغذاء والطاقة والأسلحة المتطورة لتخفيف الضغط الناجم عن العقوبات”.

إلى ذلك أيضا، أشار فيكتور تشا، المحلل في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية في واشنطن، باعتبار الاتفاق بين بوتين وكيم “يستند إلى احتياجات المعاملات المتبادلة، مدفعية لروسيا وتكنولوجيا عسكرية متطورة لكوريا الشمالية”. فيما وصفها خبراء غربيون بأنها “أخطر خطوة لروسيا في المنطقة في العقود الأخيرة”. وربما هذا صحيح، حسب معهد “تسارغراد الروسي“، باختلافها الجوهري عن اتفاقيات “حسن الجوار” السابقة. والأكثر أهمية، مادتها الرابعة المتعلقة بالدفاع المشترك. 

زيارة بوتين، وهي الأولى من نوعها منذ 24 عاما، تمثّل إحياءً كاملاً لعلاقة الحرب الباردة، لكن مع بعض التغيير، حسب خبيرة العلاقات الدولية والاستراتيجية، إيرينا تسوكرمان. مضيفة في حديثها لـ “الحل نت”، هذه المرة، لم تعد كوريا الشمالية مجرد قمر صناعي للاتحاد السوفييتي، بل أصبحت شريكا صغيرا، تعمل على تعزيز مكانتها واستغلال موقفها لتحقيق توازن بين مصالحها المباشرة وعلاقتها المعقّدة مع الصين، مع مساعيها لسياسة خارجية مستقلة ودور أكبر في المنطقة.

مع ذلك، من غير المرجّح أن تتخذ موسكو خطوة نقل تقنياتها العسكرية الأكثر تقدما إلى كوريا الشمالية، قال وزير الدفاع الكوري الجنوبي، إذ إن هناك حدود واضحة لهذا النوع من المواقف، حسب معهد كوينسي. حيث تدرك موسكو تماما أنها ليست في وضع يسمح لها باستعداء الصين علناً، لا سيما مع اعتماد موسكو المتزايد على بكين لمواجهة العقوبات الغربية المستمرة ومحاولات العزلة الدبلوماسية، فالصين أكبر شريك اقتصادي وجيوسياسي لكوريا الشمالية، ولا تريد رؤية كوريا الشمالية تنوّع محفظتها التجارية والدبلوماسية والأمنية بطرق تقلّل من نفوذها على بيونغ يانغ. 

وفق تسوكرمان. تدرك كوريا الشمالية نظرة الصين إليها كوكيل وغير منضبط أيضا، نتيجة ميل كيم لاتخاذ قرارات متهورة وراديكالية، ما قد يعيق النهج الاستراتيجي الصيني في تحقيق الطموحات الإقليمية، فعلى الرغم من امتلاك بيونغ يانغ لقوة نووية، لكنها كثيرا ما تعتمد على بكين لتحصيل أشكال الدعم. وبالتالي، فإن علاقتها المتنامية مع روسيا قد تلعب دورا في تأمين هذه المصالح ولكنها تمثل أيضا تحدّيا. إذ لن تنظر بكين بسعادة لبيونغ يانغ أكثر استقلالية، عبر التعاون مع روسيا.

لكن الاتفاقية، حسب بوتين، “وثيقة اختراق” تعكس رغبات مشتركة لنقل العلاقات إلى مستوى أعلى. وكانت كوريا الشمالية والاتحاد السوفيتي قد وقّعا معاهدة عام 1961 تستلزم تدخل موسكو العسكري إذا تعرّضت كوريا لهجوم. استبدلت بعد انهيار الاتحاد السوفيتي باتفاقية عام 2000، والتي قدّمت ضمانات أمنية أضعف. وعلى ذلك، وصف الزعيم الكوري الشمالي، كيم جونغ أون، الاتفاقية الحالية بأنها “أقوى معاهدة بينهما على الإطلاق”، وتضع العلاقة على مستوى التحالف. مشيرا إلى أن البلدين تربطهما “صداقة نارية”. كذلك تعهّد كيم بالدعم الكامل لغزو روسيا لأوكرانيا.

التعاقد بين روسيا وكوريا الشمالية يتطور في عدد من الملفات ومنها العسكرية، حسب الخبير بالشؤون الروسية، ديمتري بريجع. حيث يستفيد الطرفان من بعضهما البعض، روسيا تحصل على الذخائر من كوريا الشمالية، فيما تستفيد الأخيرة من التكنولوجيا والتقنيات الروسية التي تمكّنها من “الدفاع عن نفسها” ضد أي هجوم محتمل، كما أن العقوبات والحصار الاقتصادي المفروض على الدولتين قرّبهما مع بعضهما البعض، إلى جانب الرؤية السياسية المشتركة للطرفين.

احتضان الديكتاتور الكوري

تعزيز العلاقات مع كوريا الشمالية يوفّر لبوتين فرصة الوفاء بتهديده بالانتقام من الغرب لمساعدته أوكرانيا، عبر تزويد أطراف ثالثة بأسلحة يمكن استخدامها لضرب أهداف غربية، وفقاً لـ “معهد كوينسي”، كما لا يستغرب المعهد سعي موسكو لمدّة قرن زيادة إنتاجها المحلي بجهود شراء ذخائر من شركاء أجانب. حيث زوّدت كوريا الشمالية روسيا بقرابة 7000 حاوية من الذخائر والمعدات العسكرية الأخرى حتى الآن، وفق تقديرات وزارة الدفاع الكورية الجنوبية. فيما تقدر وزارة الخارجية الأميركية، هذا الدعم بأكثر من 11.000 حاوية، تتراوح من المدفعية العادية إلى عشرات الصواريخ الباليستية.

لكن الأمر لا يقتصر على دعم المجهود الحربي الروسي، بل قد يتّسع لتقديم خدمات أخرى، حسب تسوكرمان، كالتطوير المشترك لمعلومات استخباراتية هائلة، ومساعدة روسيا في خرق العقوبات، أو إنشاء حقل جديد ومحمي لبرنامج أسلحة آخر آمن من هجمات أوكرانيا، على عكس مصنع “شاهد” المشترك للطائرات بدون طيار مع إيران. مع احتمال لعب كوريا الشمالية، على غرار كوبا، دور المرتزق المستأجر لمساعدة روسيا في مختلف المهام والعمليات العالمية، كالتجسس والاغتيالات المستهدفة، وشراء الأسلحة أو أجزاء أسلحة متقدمة، عبر منظمات إرهابية أو جهات مارقة. 

من زيارة بوتين إلى كوريا الشمالية، وهي الأولى منذ 24 عاما – (إنترنت)

“هناك نقطة مهمة تم إضافتها للدستور الروسي عام 2020، تقضي بأن الاتحاد الروسي وريث للاتحاد السوفيتي بالسياسات والاتفاقيات”، قال بريجع لـ “الحل نت”. مضيفا، أن بوتين أبعد روسيا عن طريقها نحو دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأميركية، وقرّبها من الدول المعادية لسياسات الأخيرة، كـ كوريا الشمالية وفيتنام، بما يعني إعادة بوتين الزمن إلى حقبة الحرب الباردة.

“احتضان الديكتاتور الكوري الشمالي هو امتداد منطقي لمسار بوتين بعد أن شن غزوه الشامل لأوكرانيا”، حسب مدير برنامج روسيا وأوراسيا في “مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي”، يوجين رومر. مضيفا “لقد راهن بوتين طوال فترة ولايته على النصر في أوكرانيا. عندما ثبت أن الانتصار بعيد المنال ذهب إلى كل شيء، عازما على الفوز حتى لو كان ذلك يعني تدمير بلده. قطع العلاقات الدبلوماسية والأمنية والتجارية الهامة مع الغرب؛ وتسليح كل ما تحت تصرفه”. وبرأيه، “الاتفاق الأمني مع كوريا الشمالية هو مستوى منخفض جديد لبوتين. لكن لا ينبغي أن يكون ذلك مفاجأة”.

زيارة بوتين لكوريا الشمالية، تمثل بنظر الأخيرة فوزا دبلوماسيا كبيرا بتكلفة منخفضة نسبيا، ذخيرة قديمة، وربما بعض مكونات الصواريخ. كما أنها فرصة لضرب عدة عصافير بحجر واحد، حسب تسوكرمان، ومنها، جذب المواهب الروسية لتكملة مشروعها النووي الطويل، مع برنامج تطوير الصواريخ وغيرهما. فكوريا الشمالية كانت تعتبر بمثابة منطقة راكدة للمشاريع، وحليف رمزي يعاني من مشاكل. ومع سفر بوتين إليها شكّل اعترافا بالترابط والمساواة التي لم يكن من الممكن تصورها سابقا، حيث اضطر بوتين للعودة إلى بلد تم التخلي عنه إلى حد كبير لعقود من الزمن. 

رد سيؤول المحتمل؟ 

بعد إشارته لتزويد واشنطن وحلف شمال الأطلسي لأوكرانيا بأسلحة عالية الدقة وغيرها من المعدات كثيفة التكنولوجيا لتوجيه ضربات إلى الأراضي الروسية”. قال بوتين “في هذا السياق، لا يستبعد الاتحاد الروسي تطوير التعاون العسكري والتقني مع جمهورية كوريا الشعبية الديمقراطية بموجب الوثيقة الموقّعة اليوم”. ووفقا لـ “معهد كوينسي“، وقوف موسكو إلى جانب بيونغ يانغ بهذا الوضوح، سيحفّز كوريا الجنوبية على إعادة التفكير في موقفها المقيّد تجاه إمداد أوكرانيا بالأسلحة. 

ردّا على المعاهدة، قالت سيؤول إنها “ستعيد النظر في مسألة دعم الأسلحة لأوكرانيا”. وقبلها، حذّر مسؤولون كوريون جنوبيون موسكو من “عدم تجاوز نقطة معينة” في تعاونها الدفاعي مع بيونغ يانغ، وتعهدوا باتخاذ إجراءات مضادة اعتمادا على نتائج القمة. كما قال مستشار الأمن القومي الكوري الجنوبي، تشانغ هو جين، “يجب على موسكو أن تأخذ في الاعتبار أي من كوريا الشمالية وكوريا الجنوبية سيكون أكثر أهمية بالنسبة لها، بمجرد أن تنهي روسيا حربها مع أوكرانيا”. وكانت سيؤول قد أرسلت بناءً على طلب واشنطن، مئات الآلاف من قذائف المدفعية عيار 155 ملم إلى أوكرانيا أكثر من جميع الدول الأوروبية مجتمعة. ومع ذلك، امتنعت عن إرسال الأسلحة لتجنب استعداء روسيا.

بوتين يحاول إعادة روسيا ببطء لهيمنتها في شرق آسيا ومنطقة الشرق الأوسط والقارة الإفريقية، وإلى دول أميركا اللاتينية أيضا، حسب بريجع. مستفيدا من تاريخ العلاقات مع هذه الدول. فبالإضافة لاتفاقية الشراكة الاستراتيجية الشاملة مع كوريا الشمالية، يتم الحديث عن اتفاقية أخرى مع إيران، تم توقيف العمل عليها مؤخرا بسبب الانتخابات الرئاسية الإيرانية، وسيتم تنشيط العمل عليها مع الحكومة الإيرانية القادمة. وهذه الاتفاقيات ستعزز من قوة روسيا على الساحة الدولية، وتساعدها في حلّ مشكلة الذخيرة مع مشاكل أخرى.

في هذا السياق، يربط “معهد تسارغراد” أفكار بوتين التي عبّر عنها في كوريا الشمالية بما قاله مؤخرا في اجتماع مع وزارة الخارجية الروسية، حول أطروحة بناء هيكل أمني موحّد في أوراسيا تسير مثل الخيط الأحمر، مشيرا، إلى أن التعاون في مجال تكنولوجيا الفضاء، لا يقلّ أهمية عن الدفاع المشترك، وقد يشمل كلّا من الاستخبارات والأمن السيبراني. حيث يؤكد المحللون السياسيون الكوريون الجنوبيون مساعدة موسكو بيونغ يانغ في استكشاف الفضاء، لكنها لن تنقل أحدث التقنيات العسكرية.

في المحصلة، فإن اتفاقية الشراكة الاستراتيجية الروسية الكورية الشمالية، بما تضمنته من مادة خاصة بالدفاع المشترك، أمر لا يبشّر بالخير أبدا، لا سيما أن الموقّعَين عليها، شخص جامح لا يمكن التكهن بتصرفاته، وآخر جريح قومي لا شبيه له في ذلك إلا الزعيم النازي أدولف هتلر.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات

الأكثر قراءة