يُعد مفهوم الهوية من المفاهيم المركزية في العلوم الإنسانية ذات الطابع الاجتماعي، لأنها من أكثر المفاهيم تغلغلاً في عمق حياة الأفراد والمجتمعات من الناحيتين الاجتماعية والثقافية، فعلم الاجتماع مثلاً يهتم أساساً بهوية الشخص في الإطار الاجتماعي، لذلك فمفهوم الهوية ليس بسيطاً كما يُعتقد للوهلة الأولى على أنه يعبر عن الذات، ولكنه بالإضافة إلى ذلك هو يعبر عن مجموع التمثلات التي تترسخ في ذهن الفرد عن ذاته منذ نشأته الأولى إلى مرحلة النضج.

وهذا ما يؤكده تشارلز تايلور بقوله: “إنها تعني من نكون، فهي المكان الذي ننتسب إليه، أنها تجسد بحق الخبرات والتجارب السابقة، التي تضفي معنى على أذواقنا، ورغباتنا، وخياراتنا، ومطامحنا.. ومن ثم فإن إدراكي للهوية التي يعني أنني قد جعلت الهوية موضوعا للحوار مع الآخرين.. وبذلك فإن هويتي تعتمد إلى حد كبير على علاقاتي التحاورية مع الآخرين”.

وهو ما يعني أن “الهوية ليست بنية مغلقة، وإنما هي بنية متحولة باستمرار، ولكن على محـور ثبات. إنها مصطلح يعكس نفسه تحت مجهر الزمن ومعاييره، وفي سياق علاقة تبادلية تنهض على تفاعل متحقق أو مكبوح، مـع معطيات الوجود ومكونات المحيط، بحيث لا يمكن التعامل معه بمعزلٍ عن إدراك مناحي تأثره بالسلطة الزمنية للتاريخ”، طبقاً لدراسة منشورة بعنوان “ناسلية الذات والهوية من الطفولة إلى المراهقة سيرورة لا تتوقف”، على منصة “ASJP” الإلكترونية للنشر الإلكتروني للمجلات العلمية الجزائرية.

التونسيون ذو الأصول التركية

وبالتالي وحسب هذه التعاريف فإن الهوية الاجتماعية، هي ذات بعد نفسي تتشكل في ذات الفرد ضمن عملية التنشئة والتطبيع الاجتماعي وهو ما يعني “أن الهوية تعتبر نظاماً من المشاعر والتصورات والاستراتيجيات المنتظمة، فهي نظام بنيوي مميز متجذرة في زمنية ماضية الجذور والثبات”.

إن اهتمامنا بالهوية جاء كنتيجة فعلية لما لاحظناه إبان انتشار هذه المسلسلات التاريخية، فقد انتشرت العديد من المجموعات الفايسبوكية التي تحمل أسماء مثل “تونسيين من أصول تركية” و”أتراك تونس” وما إلى ذلك. 

وهذا ليس أمر يقتصر على التونسيين فقط، فإلى اليوم مثلاً في العديد من البلدان العربية كمصر وسوريا مازلنا نجد عائلات تتبجح برفعة “نسبها الأرستقراطي باعتبارهم ينتمون إلى العوائل العثمانية كـ”الشركس، والألبانيين، والقوقازيين…)” والأنكى أنهم يتعاملون مع السكان المحليين والذين هم أصحاب الأرض بترفع وتكبر، وهذا ليس بغريب عليهم فقد وردت على مسامعي قصة رواها لي أحد المؤرخين والحق يقال لا أعرف صدقها من عدمها، وتفيد بأن أحد الأرستقراطيين العثمانيين في مصر بعد أن تم تجريده من ممتلكاته في بعد “ثورة الضباط الأحرار”، كان يتجول متسولاً بعض القروش من العامة قائلاً “أعطي قرشاً لسيدك”.

وهذا ما لمسناه تباعاً في بحث خاص لـ”الحل نت”، أجريناه على العوائل التونسية ذات الأصول التركية، ووجدنا فيه أربعة أصناف نذكرها تباعاً على النحو التالي:

الصّنف الأول، هم من يرون أنفسهم أتراكاً لا تونسيين، فهم ينكرون أصلهم التونسي وغالبيتهم مازالوا يحتفظون بشجرة عائلاتهم بل ويتطلعون إلى أن تمنحهم السلطات التركية الجنسية، وفي هذا السياق تقول إحدى الباحثات وهي من أصول تركية صرفة وزوجها من أصول عثمانية وتحديداً من أحفاد العائلة الحسينية الحاكمة:”أمنيتي الوحيدة أن اتحصّل على الجنسية التركية لأنها من حقي، نظراً لأصولي التركية والتي تثبتها شجرة العائلة، فأنا سليلة عائلة مامغلي (إمام أوغلو)، لم أحس يوماً بأنني تونسية.. أنا مثل ورقة أخذتها الرياح من موطنها ووضعتها في غير موضعها”.

وفي نفس السياق تقول قريبتها السيدة (د.م) لـ”الحل نت”، “نحن منذ نشأتنا الأولى تعلمنا أنّنا أتراك ولسنا تونسيين وبقينا محافظين على بعض الخصوصيات التي تميزنا عن المجتمع التونسي ومنها اللهجة (لهجة البلدية خاصة بمن كانوا من أعيان البلاد في الحكم الحسيني لا تتضمن اللغة التركية)، طريقة الطبخ، الإتيكيت، فنحن متميزون رغم أن المجتمع التونسي ينبذنا”.

هوس “الأصول العثمانية”

وقد أوضحنا في مرحلة سابقة سبب كره التونسيين للأتراك وهو أمر مرتبط بالمخيال الجمعي للأفراد، ناهيك أيضاً أن العديد من الأسر ذات الأصول التركية مازالت إلى اليوم تتعامل مع المجتمع المحلي بترفع وتعالي وهذا ما استقيناه آنفاً من كلام السيدة ( د.م)، فهذه الأسر منذ نشأتها الأولى تتعلم أنها مميزة ومتفردة وأنهم ذوي أصول عريقة وأنهم مازالوا من أصحاب الحظوة والنفوذ، رغم زوال المملكة الحسينية التي منحتهم هذه المكانة.

هناك من يرى أن أصولهم التركية هي السمة المميزة التي تميزهم عن غيرهم من أفراد المجتمع، خاصة بعد انتشار الدراما التاريخية التركية التي ذكرناها سابقا، والتي رسمت سمة أخرى للعثمانيين خلافا للحقائق التاريخية.

وفي هذا الصدد يقول السيد (ع.ع)، وهو أحد أحفاد البايات الحسينيين من الجانب الأمومي: “إن خالته في صغره دائماً ما كانت تعاتبه على اختلاطه المفرط بالمجتمع المحلي، وعندما كان يسألها عن سبب هذا العتاب كانت تقول له (لأننا أولاد حسين بن علي التركي) مؤسس الدولة الحسينية”، ويضيف لـ”الحل نت” بالقول: عندما كبرت وبدأت أدرس تاريخ عائلتنا عرفت أنا جدتنا زوجة حسين بن علي، هي من السكان المحليين وتحديداً من قبيلة بربرية اسمها شارن” وكانت تدعى “حفصية الشارنية”، أي أن جدتنا هي من نفس المجتمع التونسي الذي كانت خالتي توبخني من أجله، وعندما واجهتها بهذه الحقيقة غضبت ونبهتني على أن أذكر هذا الأمر مرة أخرى، وأن اكتفي بأنّني من العائلة الحسينية لأن نَسب العامة لا يليق بنا وهذا موقف كنت استغربه حقيقة”.

حتى في مسألة الزواج كان الارتباط بفرد من أفراد المجتمع المحلي مرفوض، فأولوية المصاهرة تكون من العائلات التركية ثم العائلات الأندلسية وأخيراً العائلات من آل البيت (الأشراف)، وبمرور الزمن خاصة بعد إعلان الجمهورية وإعلان الوحدة الوطنية التونسية التي أنهت المفاضلة بين أفراد الشعب التونسي، سواء على أساس العِرق أو العروش، بات بعض أفراد هذه العائلات يرتبطون بأشخاص من المناطق الداخلية أو من الساحل.

إلا أن هذا الشريك يبقى منبوذ من العائلة الموسّعة وحتى الأبناء يعاملون معاملة دونية مقارنة بباقي الأحفاد وهذا ما أكدته السيدتان (ر.ب.ح) و(د.م) بقولهما لـ”الحل نت”: “إن عائلتنا الموسّعة حين تجتمع في المناسبات عادة ما ينشب خلاف بينها، يصل بها إلى تبادل المسبات تطال النسب واستحقار أصحابها خاصة إذا كان الأب أو الأم ليسوا من أصل تركي، لأنّنا دائماً ما نراهم في مستوى دوني مقارنة بنا، نعلم أن هذا التصرف لا يجوز لكن جُبلنا على هذا فهذا أمر خارج عن إرادتنا”.

وفي نفس السياق يقول السيد (م.ح.): “والدي أصوله تركية وتحديداً من غازي عينتاب، دائماً ما كان يرفض زواجي بأي فتاة تكون أصولها من المناطق الداخلية، فهو يحبذ أن ارتبط أما بفتاة من أصول تركية مثلي أو من الساحل مثل أمي، فالنسبة له بنات المناطق الريفية ليسوا في مستوى العائلة، ولا أقصد المادي لأنّنا من عائلة متوسطة مادياً وإنّما من حيث النَسب على الرغم أنّني لا أؤمن بهذه المفارقة لكن مع الأسف هذا أمر متداول في عائلتي، خاصة والدي وعمومتي”.

البحث عن الأصل بات ظاهرة اجتماعية طاغية خاصة بعد الثورة التي أعطت مجالاً لإعادة تقسيم التونسيين حسب أصولهم بعد أن حظرت النّظم السياسية السابقة ذلك- “الصورة من موقع الجزيرة”

وهذا “ما يعرف بـ التصنيفات الاجتماعية (sociale Stratification) وتنبعث أيضاً استراتيجيات فردية أو جماعية التي تضع ”نحن” في مشروع هوية للاعتراف والتقييم الاجتماعي. مع العلم أن التقمصات تتأتى أيضاً من الجماعات المرجعية التي يستمد الفرد منها نماذجه التي يسعى من خلالها أن يندمج حسب ما يرغب في أن يكون، فهي لا تترجم فقط وضعية الفرد المحددة بتاريخه ومكانته الاجتماعية، بل كذلك بطموحاته وحيويته الفردية والاجتماعية، وتؤثر هذه الدينامية بشدة على الشعور بالهوية”، وفق الدراسة المنشورة على منصة “ASJP” الجزائرية.

والهوية الاجتماعية لهذه الفئة مستندة أساساً الى مجموعة من المعايير التي رسمتها تنشئتهم الاجتماعية، والتي نعتقد انها سببت عائقاً في اندماجهم الفعلي في المجتمع التونسي الذي يعد مجتمعاً حاضناً لهم، إلى جانب هذا فالنظام السياسي البورقيبي لم يعطيهم الاعتراف والقيمة التي كانت ملازمة لحضورهم الاجتماعي في الحكم الحسيني بل أنها سوّتهم بعامة الشعب، وهو ما اعتبروه إهانة في حقهم وبالتالي تعميق حالة الاغتراب النفسي والاجتماعي لديهم، فهم في تصورهم ليسوا تونسيين رغم حملهم للجنسية التونسية بل هم أتراك حتى وإن لم تعترف الحكومة التركية بهم، يكفيهم شرفاً هذا النسب حسب ما أفادنا به والذي تثبته شجرة عائلاتهم.

تبيض تاريخ العثمانيين عبر الدراما

أما الصنف الثاني، فهم الفئة التي تفتخر بتونس كوطن وتركيا كأصل والإسلام كدين مسقطين عنهم صفة العروبة، فهم متصالحين تماماً مع هويتهم الوطنية وهويتهم العرقية، وهذا ما تؤكده السيدة (م.س) في حديثها لـ”الحل نت”: “أنا تونسية، فروابط المواطنة تجمعني وأبناء وطني، وأنا تركية الأصل وأعتز بجذوري بل وأفتخر أنني من أحفاد الفاتحين”، وفي نفس السياق يقول السيد (م.ح): “أنا تونسي ولا يمكنني إنكار هذا الجانب في شخصي، وأنا تركي بالدم وهو أمر أعتز به وهذا ما دفعني إلى البحث أكثر في الحضارة العثمانية، فدرست أولاً اللغة التركية في معهد اللغات بتونس ومن ثم درست اللغة العثمانية في نفس المعهد، كما سافرت العديد من المرات إلى تركيا وأكثر زياراتي كانت لمدينة غازي عينتاب باعتبار أن أصولي تعود إليها حسب ما تثبته شجرة النسب خاصتنا، حتى زملائي في العمل دائماً ما ينادونني بـ (سي التركي) أي السيد التركي، حتى وإن كان تهكماً فأنا سعيد بكوني تركي”.

وقد لاحظنا في هذه الفئة أنها تمتاز بالهوية التفاضلية بمعنى أنها ترى في أصولها التركية سمة من سمات التفاضل والتي يمتازون بها عن غيرهم من أفراد المجتمع، خاصة بعد انتشار الدراما التاريخية التركية التي ذكرناها سابقاً، والتي رسمت ملمحاً آخر للعثمانيين عكس الحقائق التاريخية. وفي هذا الصدد يقول (م.ح): “الحقيقة أن المسلسلات التاريخية التركية غيرت كثيراً من نظرة المجتمع التونسي للأتراك بل حتى أن بعضهم تمنى أن تكون أصوله تركية”. 

فالبحث عن الأصل بات ظاهرة اجتماعية طاغية خاصة بعد الثورة التي أعطت مجالاً لإعادة تقسيم التونسيين حسب أصولهم بعد أن حظرت النّظم السياسية السابقة ذلك، وقد ساهمت “المجموعات الفايسبوكية” في تعزيز هذا التقسيم بين ما هو أمازيغي والآخر أندلسي والآخر العربي وحتى المجموعات الخاصة بالأتراك التونسيين كانوا ناشطين في عدة صفحات منها منها المجموعات التي ذكرناها سابقاً، لكن أكثر مجموعة ناشطة هي مجموعة (ATRAK TOUNES) لأن المشرف على الصفحة حرص على أن تكون الصفحة خاصة بالتونسيين ذوي الأصول التركية أو العثمانية، وفي هذا الفضاء الافتراضي تم إنشاء روابط اجتماعية وتفاعلية جديدة تقوم على معيار العِرق، وفيه يتشاركون بعض الصور أو الوثائق القديمة التي ورثوها عن عائلاتهم لكن أهم ما لاحظناه أن هذا الفضاء هو مجال لتلميع صورة الوجود التركي في تونس وذلك بذكر الإيجابيات والتغاضي عن السلبيات التي أسلفنا ذكرها.

هذا فضلاً عن أنهم دائماً ما يتشاركون صوراً خاصة بالإمبراطورية العثمانية والمدن التركية والعادات والتقاليد التركية وتحمل بعض التعليقات على هذه الصور انتمائهم الحقيقي لأصولهم مثل “سلام لبلدي تركيا”، و”تركيا أرض الأجداد، يأخذني الحنين إليك”، و”تركيا العشق والدم”… وغيرها من التعليقات التي تؤكد أنهم يميلون إلى أصولهم التركية أكثر من أصولهم التونسية رغم محاولاتهم الموازنة بين كلا الهويتين التركية والتونسية.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
أقدم
الأحدث الأكثر تقييم
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات