ذكرنا في المقال السابق صنفين من التونسيين الأتراك، وقد قلنا أيضاً أننا وجدنا أربع أصناف من هؤلاء، وذلك بالاستناد إلى البحث الخاص الذي أجريناه لموقع ”الحل نت”، على العوائل التونسية ذات الأصول التركية. وفي مقالنا اليوم سنتطرق إلى الفئة الثالثة والرابعة، والثالثة تشمل الأفراد الذين ينكرون الأصل التركي ويرون أنفسهم تونسيين.

وهذا ما تؤكده السيدة (ن.ح) لـ”الحل نت” بقولها: “أنا تونسية المولد والنشأة، أنا تونسية حتى النخاع، لا يهم أن كنت من أصول تركية، فهذا لا يغير قدري أو واقعي إني أتنفس هواء تونسياً”.

وفي نفس السياق يقول السيد (م.ب.م): “تركي أما بعد، شيء لا يهمني فبلادي هي مدفن أجدادي ومنبت أبنائي، وهذا ينطبق على تونس ومسألة الأصل هي أمر شكلي وليس جوهري بالنسبة لي”.

وهذه الفئة من التونسيين ذوي الأصول التركية ترفض الانشطار الهوياتي، لأنها لا ترى في أصولها التركية أي امتيازات بعكس البلاد التونسية التي أصبغت عليهم بجنسيتها واحتضنتهم وفيها نشأوا، وهم يرون في أنفسهم مواطنين تونسيين لا غير، بل إن السيد (م.ب.م) يتساءل خلال حديثه مع “الحل نت”: “أوافق أنني تركي، لكن بماذا سيفيدني هذا؟ هل ستمنحني تركيا جنسيتها مثلما منحتها لي تونس؟”.

سوق الترك في تونس- “إنترنت”

أما الفئة الرابعة والأخيرة، فهي لا تعرف أن أصولها تركية وأغلبهم من المناطق الداخلية في تونس، ونعتقد أن جهلهم بأصولهم يعود إلى انصهار أجدادهم في المجتمع المحلي بصفة كلية باعتبارهم كانوا من الفئة الدنيا التي لا حسب ولا مكانة هامة لهم في الجيش، كما أنهم ليسوا مقربين من السلطة، وبالتالي لم يورثوا انتمائهم التركي لأبنائهم واحفادهم باستثناء الذين كانوا من الآغاوات.

كما أنهم، على عكس أتراك الساحل والعاصمة، الذين لا يزال معظمهم يحتفظون بشجرة عائلتهم حتى يومنا هذا، إذ يعتبرون أصلهم إرثاً قيماً يجب أن ينتقل إلى الأجيال القادمة في عائلاتهم، خاصة وأن معظمهم هم إما عائلات غنية أو ممن تزاوجوا مع وجهاء البلاد كأفراد عائلة الحسينية أو العائلات الأندلسية أو الأشراف.

أما أتراك المناطق الداخلية فنعتقد أنهم كانوا جنوداً أو حرفيين بسطاء لم يكن لديهم حظوة لدى من هم في السلطة، ولذلك خيروا الانصهار الكامل مع عناصر المجتمع المحلي، حيث تطبعوا بطبائعهم وعاداتهم، رغم احتفاظهم بألقابهم التي عرفنا بها نسبهم، وهذا ما سبب جهل أحفادهم بأصولهم، وفي هذا الإطار تقول السيدة (م.بو):”لقد اندهشت أنني من أصول تركية، كنت استغرب من لقب عائلتي لكن لم يخطر لي أن أعرف أصله، وبأنني من أصول تركية فهذا أمر مفرح لأنني أحب تركيا كالكثير من التونسيين”.

أما السيد (س.م) فيقول لـ”الحل نت”: “كنت أعتقد أنني من أصول أندلسية، لم أتوقع أن أكون من أصول تركية، ومع هذا فأنا فخور بأنني تونسي”، وهنا لاحظنا أن هذه الفئة تعتبر نفسها تونسية رغم أن أغلب الذين أجرينا معهم مقابلات لم ينكروا أنهم فرحوا بأن لهم جذور تركية، لكنهم متمسكون بهويتهم التونسية وفخورون بانتمائهم للمناطق الداخلية التي يتحدرون منها لأنهم تعلموا التمسك بجذورهم الوطنية وهنا نرى أنه “لا تتموضع عملية تشكل الهوية على مستوى الفرد فحسب، إنما تتشكل أيضاً من عمق ثقافة مجتمعه”.

الدراما في خدمة التوجهات الأردوغانية

لقد عمل “حزب العدالة والتنمية” الحاكم في تركيا، إبان وصوله إلى البرلمان إلى الترويج لفكرة دمقرطة حركة الإسلام السياسي، وأنه حزب يتأسس على مرجعية دينية حداثية لبناء توجهات سياسية واقتصادية لتركيا، لذلك كان في بداياته ينتهج المهادنة مع خصومه العلمانيين، فلطالما بارك ممثليه دور أتاتورك في بناء تركيا الحديثة.

رغم أن العرب يمثلون 9 بالمئة من إجمالي عدد السياح عام 2023، إلا أنهم غير مرحب بهم من قبل الأتراك. وكثيراً ما يتعرضون للنصب أو الشتائم، وحتى للعنف المادي، وهذا ما وثقته العديد من مقاطع الفيديو المنتشرة على مواقع التواصل الاجتماعي.

لكن مع تولي رجب طيب أردوغان رئاسة الوزراء عمل على دعم المسلسلات التاريخية وهذا قد ظهر جلياً في خطاباته السياسية التي كان يلقيها، والتي عادة يذكر فيها وجوب اعتزاز الفرد التركي بهويته التركية وذلك من خلال استحضار الرموز التاريخية بماضيها الديني والثقافي التي سادت العالم لأكثر من 500 سنة، فهذا التحفيز التاريخي ينعكس على تعريف الذات التركية في الحاضر فهو نوع من استنهاض الذاكرة. ومن الملاحظ أن جُلّ الأعمال التاريخية التركية ركزت على عدة نقاط ومن أهمها نجد: 

-أهمية القومية التركية وتمايزها تاريخياً وتعظيمها من التأسيس إلى الحاضر، ولذلك وجب الاعتزاز بها.

-الترويج لنبل التركي نظراً لتمسكه بقيم الحق والفضيلة المستمدة من التزامه الديني، وهنا تعد مفارقة مضحكة، نظراً لأن نسبة كبيرة من الشعب التركي قد تغلغلت فيه القيم العلمانية، لذلك هم لادينيون وهذا ما تثبته الفيديوهات المنتشرة في جُلّ المواقع الافتراضية والتي تعكس فقرهم الديني والتديني، وحتى مواقفهم من “حزب العدالة والتنمية” الذي يمثل الواجهة الدينية.

-الفكرة الأهم التي تروج لها هذه الدراما التاريخية هي “الوحدة التركية”، فبرغم الاختلاف على السلطة إلا أن مصلحة الوطن هي الأبقى.

-وأخيراً نجد دور المرأة وفاعليتها من التأسيس إلى التنصيص، فالدراما قد صورت المرأة كقائدة ومدافعة على قوميتها وعقيدتها، مشاركة في القرارات السياسية، لها وزنها، ولذلك فإن الحزب يثمن دورها ومواطنتها، ولهذا عززت الحكومة الأردوغانية حضورها في تشكيلاتها السياسية والدبلوماسية، نافية عنها أي صورة من صور تقزيم المرأة أو إقصائها من الفضاء العام بكل تجلياته.

من المفارقات العجيبة أن الدراما التركية قد تناولت سيرة صلاح الدين الأيوبي، فاتح القدس دون أن يشير المسلسل إلى أصوله الكُردية- “إنترنت”

ومن المفارقات العجيبة أن الدراما التركية قد تناولت سيرة صلاح الدين الأيوبي، فاتح القدس دون أن يشير المسلسل إلى أصوله الكُردية، بل أشار إلى دور الأتراك في عملية “تحرير القدس” وهو ما يعد مغالطة تاريخية من أجل تحقيق مصالح سياسية، وكأننا من خلال الدراما التاريخية التركية يجب أن ننبهر بالأتراك وتاريخهم، ونثمن دورهم في إحياء النزعة الإسلامية والحفاظ على استمرار الدين الإسلامي الذي لولاهم لا يمكن التكهن بما سيكون مآله، كما يجب أيضاً أن ننسى مجازرهم بحق الأكراد والأرمن وسكان البلدان العربية التي حكموا واستنزفوا خيراتها وعمروا بها بلادهم واليوم يتبجحون بحضارة بنيت بدماء المستضعفين وخيراتهم.

العنصرية التركية ضد العرب

إلى جانب هذه الصورة المثالية التي روج لها “حزب العدالة والتنمية” من الجانب السياسي، فإنه أيضاً قام بإجراءات حاول من خلالها إنعاش الاقتصاد التركي الذي كان يعاني من تعثرات في ظل ارتفاع المديونية، وبالتالي وبعد عرض مسلسل “حريم السلطان”، الذي يجسد حياة السلطان العثماني سليمان القانوني في منطقة الشرق الأوسط والبلقان، قامت السلطات التركية بإلغاء تأشيرات الدخول إلى أراضيها.

ووفقاً للتقرير الذي نشرته “دائرة السياحة والثقافة التركية” عام 2011، فإن أعداد السياح العرب الذين زاروا مدينة إسطنبول قد بلغ 677 ألف سائح في الأشهر التسعة الأولى من تلك السنة أي بارتفاع نسبته 26.7 بالمئة مقارنة بسنة 2010، وقد تواصل ارتفاع عدد السياح العرب الوافدين إلى تركيا سنة بعد سنة إلى أن وصل عددهم مع شهر تشرين الثاني/ نوفمبر من عام 2023 إلى 4 ملايين سائح عربي، لتكون العراق الأولى من حيث عدد السياح ثم السعودية ثم الأردن وتليها باقي البلدان الأخرى. 

ورغم أن العرب يمثلون 9 بالمئة من إجمالي عدد السياح عام 2023، إلا أنهم غير مرحب بهم من قبل الأتراك. وكثيراً ما يتعرضون للنصب أو الشتائم، وحتى للعنف المادي، وهذا ما وثقته العديد من مقاطع الفيديو المنتشرة على مواقع التواصل الاجتماعي، والتي كثيراً ما يتم فيهم انتقاد طريقة أكل العرب، وطريقة كلامهم، وكثيراً ما يتم نعتهم بـ “الهمجيون”، و”الرجعيون” و”القذرون”، وغيرها من الألفاظ المشينة التي تعكس عنصريتهم تجاه العرب وتعاليهم باعتبارهم أصحاب الحضارة الراقية، بل وصل الأمر في العديد من المواقع الإخبارية والإعلامية الخاصة بالمعارض التركية إلى التنديد بوجود لافتات تكتب باللغة العربية في المواقع السياحية.

وهذا طبعاً دون أن نغفل العديد من التصريحات لمواطنين أتراك يرفضون فيها السياح العرب بقولهم “لا نريدهم ولا نريد أموالهم”، بعكس السياح الأجانب الذين يعتبرون أن وجودهم يضفي الأفضل للسياحة التركية، وهذا التعصب تجاه العرب مرده الأساسي هو رفضهم للاجئين السوريين في بلادهم والذين بلغ عددهم نحو ثلاث ملايين لاجئ سنة 2023، بعد أن كان عددهم أكثر في الأعوام السابقة، ولكن بسبب خطابات الكراهية والعنصرية المهددة لهم، خير العديد منهم اللجوء إلى بلدان أخرى. 

وتعد تركيا اليوم بلداً غير آمن للسوريين وحتى للسياح العرب، خاصة بعد مداهمة وتخريب المحلات التجارية السورية، ناهيك عن جرائم القتل التي طالت العديد من العائلات السورية ولم يسلم منها حتى الأطفال، إضافة إلى العديد من حوادث العنف بحق السياح العرب وتحديداً السعوديين والكويتيين.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
أقدم
الأحدث الأكثر تقييم
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات