مسافة ليست ببسيطة وإجراءات ليست بسطحية تلك التي اعتمد عليها الرئيس التونسي قيس سعيد لتجاوز هيمنة واستبداد حركة “النهضة” الإسلاموية بعد فترة قصيرة من تقلده منصب الرئاسة في تونس عبر تعطيل البرلمان والدعوة لكتابة دستور جديد وانتخاب برلمان بكتل سياسية مغايرة لما شهدته البلاد خلال السنوات التي تلت أحداث كانون الثاني/ يناير 2011.

لكن رؤيته الإستراتيجية في التعامل مع حركة “النهضة” استندت إلى عدم اللجوء نحو اتخاذ قرار فوقي بحلّ الحركة الإسلاموية أو اللجوء للقضاء لحصد ذات القرار، بينما اعتمد في تكتيكه المرحلي صوب عزل الحركة من كافة مقوماتها سواء القيادات عبر توقيفهم على خلفيات إجراءات قانونية وغلق المقرات في البلاد وتعريضهم لمحكمة الشعب الذي راكم غضباً نتيجة سياساتهم خلال فترة حكمهم مما كان عاملاً رئيسياً في أن يأتي موعد الاستحقاق الانتخابي على منصب الرئاسة خلال يوم السادس من تشرين الأول/ أكتوبر القادم، دون أن يستطيع أي من أعضاء حركة “النهضة” أو “جبهة الخلاص” التي تتكون أغلبيتها بمكونات نهضوية كنتيجة منطقية لإجراءات قيس سعيد خلال السنوات الأخيرة والتي استطاع من خلالها حصر العمل السياسي في اتجاه واحد لا يخطئ توجه الدولة وأيضاً أقرب لتأميم العمل الحزبي حيز الدولة.

وهذا قد يعني، بشكل أو بآخر، أن فترة الانتخابات ستمر دون اضطرابات في الشارع التونسي بسبب كل ما ذكر أعلاه ضد حركة “النهضة”، لكن في الواقع قد يبدو أن ذلك غير دقيق إلى حد ما، إذ أن قيادات الصف الثاني والثالث وبعض قيادات المهجر، سيما رفيق عبدالسلام وزير الخارجية السابق، ومعاذ الغنوشي وآخرين ينشطون بين الحين والآخر بهدف تفعيل نشاط الحركة في الداخل.

“النهضة” وانتخابات تونس

إلى ذلك، أشارت مصادر مطلعة لـ”الحل نت”، إلى أن عدداً من قيادات “النهضة” سيعقدون اجتماعاً محدوداً في تركيا مطلع الشهر الجاري بهدف ترتيب العمل خلال فترة الانتخابات وكيف يمكن لـ”جبهة الخلاص”-التابعة لـ”النهضة”- التحرك في الشارع بهدف إرسال ما يفيد أن الحركة لا تزال قادرة على العمل، الأمر الذي قد يبعث على الوصول لعتبة أي تفاوض مع الدولة، فضلاً عن الحفاظ على جبهة راشد الغنوشي النافذة داخل “النهضة” إلى حين استيضاح الأمر والتمكن من اختيار منصب الأمين العام بعد القبض على العجمي الوريمي، أو الانتصار لفكرة “رجل الظل” الذي يدير أمر الحركة وشؤونها دون الكشف عن اسم واضح ومحدد خلال تلك الفترة.

الرئيس التونسي قيس سعيد يدلي بصوته في مركز اقتراع، خلال استفتاء على دستور جديد، في تونس العاصمة، تونس، 25 يوليو/تموز 2022- “رويترز”

يقول الأكاديمي التونسي صلاح الدين العمري إن حركة “النهضة” في التوقيت الحالي في أسوأ حالاتها وتعكس واقعاً من الضعف والجمود يصعب تجاوز مظاهره، خاصة في ظل غياب العمل التنظيمي للحركة وجمود العمل السياسي في البلاد، فضلاً عن تعدد حالات توقيف قيادات الحركة، وآخرهم الأمين العام للحركة، العجمي الوريمي.

يشير الباحث التونسي في الإسلام السياسي، صلاح الدين العمري، إلى عدم تقدم أي مرشح من حركة “النهضة” في الانتخابات الرئاسية المقرر إجراؤها في تشرين الأول/ أكتوبر المقبل.

ويضيف العمري في سياق تصريحاته لـ”الحل نت” أن العمل السياسي للجماعات الإسلاموية ملبد بالتناقضات، وينبغي ملاحظة أن حركة “النهضة” بعد أن تحولت من حركة دعوية سرية إلى حركة سياسية، عادت من جديد إلى المربع الأول، وربما للعمل السري أيضاً. وينوّه العمري إلى أنه “لا ندري ما تخفيه الكواليس، رغم أن القيادات التي كانت تتخذ القرارات أصبحت الآن في السجون، وربما أيضاً خلال رئاسة الغنوشي للحركة وعملية التصفية التي قام بها”.

مصالح الغنوشي ومسار “النهضة”

ويقول العمري إن “حصر الغنوشي القرار بين يدي رفاقه وأعضاء جناحه التنظيمي فقط، أدى إلى خلق كتلة وجناح قوي داخل التيار يمثل مصالحه، ما يعني أن الخارجين عن قرار التوقيف هم في موقف حرج وصعب. لكن الملفت في الأمر هو ضرورة متابعة عمل من هم خارج البلاد مثل صهر الغنوشي، رفيق عبد السلام بوشلاكة، ونجل الغنوشي، معاذ راشد الغنوشي، الذي يعتبر من أهم مفاتيح تمويل الحركة واجتماعاتهم في الخارج والأجندة التي يطرحونها”.

وكل ذلك كان نتيجة منطقية لفعل القطع التاريخي الذي أحدثه راشد الغنوشي في جماعته بين كافة القواعد وشخصه كرئيس للحركة وزعيم تاريخي لا ينبغي تجاوزه، وفق ما يضيف العمري لـ”الحل نت”.

إذاً، كاستنتاج أول ستمضي “النهضة” في مسار صعب ومعقد سيفضي أن تكون الرؤى والأطروحات فردية وحسب توجهات كل شخصية دون توجيهات تنظيمية، على حد قول المصدر ذاته.

أما جناح راشد الغنوشي داخل حركة “النهضة” فيؤكد الدكتور صلاح الدين العمري أنه اختفى تماماً داخل الحركة رغم محاولات بعض قادة الخارج الحفاظ على صورته ودعم مسيرته وربط كل التحركات بشخصه كقيادة تاريخية للحركة. ويضيف العمري أيضاً أن نجل الغنوشي، معاذ، يفتقر إلى الكاريزما وليس لديه أي رصيد آخر سوى كونه نجل تلك القيادة، كما أنه لا يتمتع بأي وزن نسبي داخل تونس، وكذا صعوبة أو استحالة عودة رفيق بوشلاكة للبلاد من جديد.

في العموم، تدفع حركة “النهضة” الإسلاموية الثمن الواقعي لهيمنة وتسلط راشد الغنوشي، ولن يتموضع جناح الغنوشي في محيط القيادة لاعتبارات سبق ذكرها بقول حاسم، “لقد انتهى زمن الغنوشي”.

صعود قيادة جديدة داخل “النهضة”

وحول سؤال يشتبك مع سيناريو صعود قيادة جديدة داخل حركة “النهضة” في ظل كل هذه المتغيرات والتباحث مع الدولة في صياغة مقاربة عمل جديدة بعد مشهد الانتخابات الرئاسية التونسية، يرى صلاح الدين العمري في حديثه لـ”الحل نت”، أنه رغم أن قرار اعتقال العجمي الوريمي أثار ردود فعل حقوقية كونه يمثل حالة استثنائية في “النهضة”، إلا أنه يجب التأكيد على أنه قبل بوضعاً شكلياً “ديكورياً” داخل “النهضة” حتى وهو في منصب الأمين العام ولم يكن له أي تأثير ملحوظ.

تدفع حركة “النهضة” اليوم ثمن هيمنة شيوخ واستبداد راشد الغنوشي، وعدم التداول الديمقراطي داخل الحركة، مما يجعل الحركة تبدو خارج الواقع، إن لم يكن التاريخ.

وبالتالي من للصعوبة بمكان قراءة منتج جديد على مستوى القيادة والمكتب السياسي للحركة على خلفية أن “النهضة” تدرك تماماً أن النظام السياسي في تونس لن يتسامح معهم وسيتركهم يواجهون الفراغ ومنصة القضاء.

واعتبر الرئيس التونسي قيس سعيد أن القوى المضادة للشعب التونسي، في تلميح واضح لأتباع حركة “النهضة” تعمل على توتير الأوضاع في بلاده.

وقال الرئيس التونسي، في الخامس من شهر آب/ أغسطس الجاري ، خلال اجتماع لمجلس الأمن القومي إن “القوى المضادة للثورة، وللشعب التونسي وحركة التحرر الوطني التي يخوضها تقوم عن طريق أعوانها المأجورين بتأجيج الأوضاع بكل الطرق والوسائل”.

وأشار إلى أن “هذه الجيوب المضادة للثورة لا تتورع عن اقتراف كل الجرائم لأنها تستشعر الخطر، بل تستشعر نهايتها من أي انتخابات حرة يعبّر بواسطتها الشعب عن إرادته بكل حرية”.

وأكد الرئيس التونسي قيس سعيد على “ضرورة مزيد اليقظة والانتباه خاصة في هذه المرحلة التي تعيشها تونس”.

وحول ذلك، يقول مصطفى عبد الكبير، رئيس “المرصد التونسي لحقوق الإنسان”، إنه منذ إغلاق البرلمان وتفعيل الفصل رقم 80 من دستور 2014، دخلت تونس في اتجاه سياسي جديد وخارطة طريق مليئة بالتحديات، والصراعات، وأحداث متسارعة وصعبة، ما عجل بتفعيل المراسيم الرئاسية التي أصبحت الجسر الذي مر من خلاله آليات لتعزيز حكمه.

مقر حركة “النهضة” في تونس-“إنترنت”

ويتابع عبدالكبير تصريحاته لـ”الحل نت” أن فترة مقاومة الفساد والمحاسبة كانت الأهم والطريقة الأفضل لإسكات الجميع وانخفاض الأصوات. وبذلك، تمكن قيس سعيد من التخلص تدريجياً من معارضة تنظيمات وقوى الإسلام السياسي وتحديداً حركة “النهضة” الذراع السياسية لجماعة “الإخوان المسلمين” في تونس.

واليوم يقبع زعيم “النهضة” راشد الغنوشي في السجن، والرجل الثاني في الحركة أيضاً، كما يقبع في السجن أيضاً وزير العدل الأسبق نور الدين البحيري، بالإضافة إلى العديد من القيادات تخضع لمحاسبات قضائية ومذكرات توقيف، وهو ما جعل الحركة تعيش نوعاً من العجز والفشل وعدم القدرة على التنظيم ومواصلة النشاط السياسي أو التفاعل مع المواطنين أو حتى الظهور أمامهم بأي قدر من الفعالية، مما جعل حركة “النهضة” تبدو في ظل غياب رموزها وعدم قدرتهم على الاتفاق على ترشيح أحد الرموز أو الشخصيات، حتى لو كانوا من صفوف الجيل الثاني والثالث، تعبيراً حقيقياً عن تكلس الحركة وانعدام قدرتها على التفاعل مع مشهد الانتخابات الرئاسية المقبلة خلال شهر تشرين الأول/ أكتوبر المقبل.

وبالتالي، تدفع حركة “النهضة” اليوم ثمن هيمنة شيوخ واستبداد راشد الغنوشي، وعدم التداول الديمقراطي داخل الحركة، مما يجعل الحركة تبدو خارج الواقع، إن لم يكن التاريخ.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
أقدم
الأحدث الأكثر تقييم
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات