تنامي الشراكة الاستراتيجية بين روسيا والصين الذي شهد قفزة هائلة في الفترة التي أعقبت الغزو الروسي لأوكرانيا، لا يلغي التنافس الحاد بينهما في مراحل تاريخية سابقة وممتدة، لا سيما في الحقبة الشيوعية وانعكاسات ذلك على تقاطع المصالح في مجالات حيوية جيوسياسية في آسيا الوسطى وشبه القارة الهندية. في حين خفت هذا الصراع ليتحول من الصدام والراديكالية إلى البراغماتية مع زوال الاتحاد السوفييتي وترسيم الحدود الشرقية والغربية بين عامي 1991 و1994، فضلا عن معاهد الصداقة مطلع الألفية. 

ولئن تعد الحرب في كييف محطة جديدة من التعاون والتحالف بين موسكو وبكين، فإن سعيهما الملح لإعادة صياغة ملامح نظام عالمي ثنائي أو متعدد وبشكل لا تستمر فيه القوة تتسيدها واشنطن، تعوزه جملة موارد ليس بمقدور أي منهما تحقيقه في ظل الكلفة العسكرية والاقتصادية للحرب بالنسبة لروسيا، خاصة مع الدعم الغربي لأوكرانيا، فضلا عن تخوفات بكين إزاء تايوان أن تكون خاصرتها الضعيفة التي تهدد أمنها الجيوسياسي كما في كييف. 

كما أن بكين ما تزال تحافظ على درجة تعاون لا تضع علاقتها مأزومة بشكل تام مع الغرب وواشنطن، وتراكم عبر الحرب آلية اقتصادية لتحقيق عوائد ربحية ومالية من تحول صادرات الطاقة من السوق الأوروبية إلى الآسيوية. بالتالي، لا تبدو ثمة فرضية تؤشر إلى احتمالية أن تذهب الصين بالكلية إلى دعم غير مشروط لموسكو، بل ستظل تتبع مسارات حذرة، وقد سبق لبكين أن أكدت عدم ميلها لطرف في الحرب على حساب طرف آخر.

روسيا تعتمد على خبرة الآخرين

ومع هذا، فإن لجم الولايات المتحدة للانعطافة التي تشهدها تلك العلاقة بين موسكو وبكين، إنما يعكس تخوفات مباشرة بشأن التهديدات المحتملة إزاء التعاون العسكري، سواء الخفي أو المعني. 

وقد فرضت وزارة الخزانة الأميركية، مؤخرا، عقوبات طاولت شركتين صينيتين مرتبطتين بإنتاج طائرات مسيّرة تستخدمها روسيا في حربها ضد أوكرانيا. فيما ذكرت ببيانها أن هذه العقوبات الأميركية هي الأولى ضد كيانات صينية “تطوّر وتنتج مباشرة أنظمة أسلحة كاملة بالشراكة مع شركات روسية”.

وبحسب ما نقل موقع “الحرة”، فإن هذه القرارات تتعلق بما مجموعه ثلاث شركات – اثنتان في الصين وواحدة في روسيا – وبمواطن روسي واحد، لمشاركتهم في تطوير مسيّرة هجومية بعيدة المدى وصنعها. 

وقالت الخزانة الأميركية إن “هذه المسيّرة صممها خبراء في الصين وصُنعت في مصانع صينية بالتعاون مع شركات دفاعية روسية”. كما ذكر الناطق بلسان الخارجية الأميركية، ماثيو ميلر أن “هذه أول مرة نرى أن شركة صينية صنعت بنفسها سلاحا استخدمته روسيا بعد ذلك في ساحة المعركة” في أوكرانيا. 

والشركتان الصينيتان المستهدفتان، الخميس، هما “شيامن ليمباخ” لمحركات الطائرات، و”ريدلبوس فيكتور إندستري شنتشن”، والشركة الروسية “ليميتد لايابيليتي كومباني تريدينغ هاوس فيكتور”.

وبحسب وكيل وزارة الخزانة لشؤون الإرهاب والاستخبارات المالية بالوكالة، برادلي سميث، فإن “روسيا تعتمد بشكل متزايد على خبرة كيانات أجنبية وعلى استيراد تقنيات متقدمة لتغذية برنامج أسلحتها وتعزيز حملتها العسكرية ضد أوكرانيا”.

يمكن القول إن الهجوم الأوكراني الذي استهدف الأراضي الروسية قبل أكثر من شهرين قد أحدث صدمة لدى الأوساط الغربية رغم التنسيق الاستخباري والمساعدات العسكرية والمالية واللوجستية ولكن حتى الغرب لم يتوقع صمود الأوكرانيين لغاية الآن، وعلى ما يبدو أن الدولة برمتها مصممة على الحصول على ضمانات لأمن حدودها، وفق المحلل السياسي، المقيم في ألمانيا، ميار شحادة، لافتا إلى أن المعطيات تقول إن الروس فشلوا للآن على صد الهجوم عن أراضيهم ولم يستطعوا مجاراة التقنيات المقدمة من قبل الغرب، وبالتالي لم يتمكنوا من “إخراج القوات الأوكرانية إلى أراضيهم أو حتى سحقهم في مواقعهم داخل روسيا خصوصا وسط أخبار مؤكدة عن أن الأوكرانيين أسقطوا معدات وطائرات حربية روسية لم يتوقع الروس فقدانها على الأقل الآن”.

تجربة السلاح في أوكرانيا لها “تكلفة”

وبحسب شحادة في حديثه لـ”الحل نت”، فإن أوكرانيا صدمت الروس بأنها غيرت من استراتيجياتها في طلب المساعدات من الغرب إلى مستوى أنها باتت تطلب السماح ومنح الرخص لصناعة سلاح محلي، وإنتاج السلاح الغربي داخل أوكرانيا، وهذا “صدم توقعات فلاديمير بوتين الشخصية؛ لأنه رجح أن فولوديمير زيلينسكي قد لا يصمد عند هذا الحد، وربما توقع أن يعرب للغرب عند نقطة ما، لكن الخسائر توالت على روسيا ليس فقط بالانفاق العسكري بل لأن كييف باتت تستهدف منشآت نفطية وعسكرية، بالإضافة لخسارة في صفوف المقاتلين بكثافة. وهنا يعود الفضل للتكنولوجيا العسكرية التي تستهدف بدقة عالية جدا.

العقوبات بالنهاية تعطي نتيجة مفادها أن قدرة الغرب في استخدام العصا غير العسكرية على مستوى الخيارات مطروحة ولها فعّالية، مع ضرورة كبح الطموح الصيني بشأن رغبتها في تجريب قدراتها العسكرية.

المحلل السياسي، ميّار شحادة لـ”الحل نت”

كما أن ديون روسيا للصين باتت تشلّ من تحرك الدولة الصينية ذاتها التي لديها حسابات دقيقة فهي في وضع اقتصادي ليس بأفضل أحواله. هذا بالإضافة إلى أن الشركات المتوسطة والكبيرة مطالبة بمواكبة الغرب تكنولوجيا تحديدا العقوبات الأخيرة، والتي هي رسالة أميركية بأن موقفها ما يزال ثابتا في دعم أوكرانيا، فضلا عن كونها رسالة تفصيلية للصين بأن تجربة السلاح في أوكرانيا سيكون لها تكلفة وليس مجانيا. 

مع الأخذ في الحسبان الصورة الدولية للصراع بين الشرق والغرب بأن أي دعم شرقي لروسيا سيتبعه عواقب غربية لإثبات بأن الغرب ما يزال لديه خيارات قوية غير عسكرية “لإحراج الموقف الشرقي” على حد توصيف ميار شحادة.

لكن يبدو أن بكين ترى الأمر من جهة أخرى حيث تهدف إلى “تجريب سلاح تنخرط بإنتاجه لفحص مدى تنوع جهوزيتها في حال التدخل في تايوان”. فالأمر هنا ليس متعلقا بتحمل أعباء اقتصادية بقدر أنه تجريب للقدرات العسكرية.

هدف التقرب الصيني من روسيا

يبدو أن الصين ماضية في تمتين علاقاتها مع روسيا، ولهذا جاء حديث الرئيس الصيني شي جين بينغ لنظيره الروسي فلاديمير بوتين، أن الوضع الدولي يشهد حالة فوضى، لكنه أشار إلى أن “العلاقات الودية بين بلدينا ستستمر لأجيال”، مؤكدا أن الشراكة الاستراتيجية بين بلديهما تشكّل قوة للاستقرار وسط المتغيرات الكبيرة التي لم تحدث منذ قرن.

بوتين (يمين) وشي جين بينغ لدى التقاط صورة جماعية للمشاركين بقمة “البريكس” في قازان- “أ ف ب”

وأضاف شي لبوتين في افتتاح قمة مجموعة “بريكس” في قازان الروسية: “لدي اعتقاد راسخ أن العلاقات الودية بين الصين وروسيا ستستمر لأجيال، وأن مسؤولية الدول العظمى تجاه شعوبها لن تتغير”، وفق “رويترز“.

بينما وصف بوتين نظيره الصيني شي بأنه “صديق عزيز”، وقال إن الشراكة مع الصين تشكل قوة للاستقرار في العالم.

وبالتالي يمكن القول إن بكين تريد سحب البساط تماما من قوة العلاقات بين نيودلهي وموسكو. فالهند مؤخرا أعطت إشارات بأنها مستعدة لبحث الخيارات والأفكار المطروحة عليها من قبل الغرب، وفق المحلل السياسي، ميار شحادة.

ولذلك نجد زيارة رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي لبولندا وأوكرانيا كانت واضحة المدلول ربما أكثر من أي وقت مضى منذ بداية الغزو الروسي لأوكرانيا، فالهند تنظر للأمر من زاوية مصالح منطقة جنوب شرق آسيا. كما أنها تنظر إلى روسيا بأنها باتت طرفا مساندا لايران، والأخيرة تشكل طرفا “لن نقول عدوا للهند ولكن هناك مجموعة من العوامل تجعل طهران خصما للهند في كثير من الملفات”، وفق المصدر ذاتها، ولا تريد الهند المساس بعلاقاتها الخليجية لأنها ليست فقط مفيدة للتبادل التجاري مع “مجلس التعاون الخليجي”، بل لأن الخليج عامل استقرار في باكستان الجارة للهند والتي تشكل هاجس هندي تاريخي، طبقا لشحادة في حديثه لـ”الحل نت”.

هذا بالاضافة إلى التوترات التي من الممكن أن تخلقها إيران من خلال الميلشيات الإسلاموية المسلحة في أفغانستان، والتي من الممكن أن تمتد لباكستان. وهنا روسيا تدعم ايران حتما، وهذا ما يجعل اختلاف عميق مع الهند. 

العقوبات بالنهاية تعطي نتيجة مفادها أن قدرة الغرب في استخدام العصا غير العسكرية على مستوى الخيارات مطروحة ولها فعّالية، مع ضرورة كبح الطموح الصيني بشأن رغبتها في تجريب قدراتها العسكرية، ووضع الغرب النقاط على الحروف في مسألة إيضاح الفوارق بين قدرات بكين وقدرات الولايات المتحدة الأميركية.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
أقدم
الأحدث الأكثر تقييم
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات

الأكثر قراءة