أفين يوسف- صحفية كردية سورية
رغم غناها بالموارد الزراعية وإنتاجها الوفير لمحاصيل استراتيجية مثل القمح والقطن، عانت منطقة الجزيرة السورية لعقود من التهميش الاقتصادي والسياسي والاجتماعي المتعمد والممنهج، حيث تعامل النظام الأسدي المخلوع معها كمخزون لتراكم الثروات دون تقديم تنمية حقيقية لسكانها.
هذه السياسات الإقصائية حرمت المنطقة الشرقية (القامشلي والحسكة والرقة وديرالزور) من استثمارات حيوية في الصناعة والزراعة، مما أدى إلى تدهور الأوضاع المعيشية وارتفاع معدلات البطالة والهجرة الداخلية والخارجية.
تهميش الموارد الزراعية للجزيرة
يقول وليد جولي لـ”الحل نت”، الناشط المدني من مدينة القامشلي/ قامشلو، إن النظام السوري البائد اتبع سياسة زراعية “مدروسة ومخططة” تقوم على تحديد نوعية المحاصيل لكل منطقة، حيث مُنعت الجزيرة من زراعة الأشجار المثمرة، رغم عدم وجود قرار رسمي بذلك. وبدلا من ذلك، ركّزت السلطات على زراعة القمح كمحصول استراتيجي لتغذية بقية المحافظات، مما جعل الاقتصاد المحلي يعتمد على إنتاج محدود دون تنوع أو استدامة.

ورغم الإنتاج الكبير للقمح، الذي بلغ عام 2010 نحو 4 ملايين طن، فإن سكان المنطقة لم يستفيدوا من هذا المورد بشكل عادل، حيث كانت الحكومة السورية خلال حقبة “آل الأسد”، تحدد الأسعار وتفرض على المزارعين تسليم المحصول للدولة دون حرية بيعه أو حتى استثماره محليا.
ورغم دعمها للزراعة في المنطقة وتقديم البذار والأسمدة للمزارعين إلا أن السكان المحليون، خصوصا من العشائر العربية والكُردية، كانوا يشعرون بأنهم مواطنون من الدرجة الثانية والثالثة، وهذا ما جعل السكان يشعرون بأنهم مجرّد أدوات لخدمة النظام دون تحقيق مكاسب مجزية.
قوانين لمصادرة الثروات
من بين أبرز السياسات التي أثرت على الجزيرة السورية كان تطبيق قانون “الإصلاح الزراعي”، الذي أدى إلى مصادرة أكثر من مليون ونصف هكتار من الأراضي الزراعية وإعادة توزيعها وفق اعتبارات سياسية مجحفة، مما حرم الكثير من السكان الأصليين، وخاصة الأكراد، من أراضيهم.
كما زادت معاناة الكُرد بعد حرمان نحو 300 ألف منهم من الجنسية السورية عام 1962، ما جعلهم غير قادرين على امتلاك الأراضي أو العقارات حتى التي ورثوها عن آبائهم.
وتم تطبيق قانون “الإصلاح الزراعي” المصري رقم 161 للعام 1958، بعد قيام الوحدة بين سوريا ومصر، والذي قام بتحديد الملكيات الزراعية للأفراد وإعادة توزيعها على صغار الفلاحين.
ونقل القانون ملكية تلك الأراضي للدولة والتي أعادت توزيعها “حق الانتفاع” من دون إعطاء حق ملكية الرقبة على المستفيدين من القانون، باعتبارها أراض أميرية يطبق عليها أحكام الانتفاع والقوانين الخاصة بـ”الإصلاح الزراعي”.
وفي إطار ما عُرف بـ”مشروع الحزام العربي”، عمد النظام الأسدي المخلوع إلى توطين عشائر عربية جُلبت من مناطق الرقة وحلب على أراضٍ انتُزعت من ملاكها الأكراد، ما أدى إلى تغيير ديموغرافي كبير استهدف تقليص الوجود الكُردي في المنطقة.
ونفذ النظام السوري البائد هذا المشروع في محافظة الحسكة عام 1974، وبحسب تقارير صحفية عدة، يقدر طول الحزام العربي بـ (275) كيلومترا، وبعمق يصل إلى (15) كيلومترا، ويمتد من مدينة المالكية/ديرك أقصى شمال شرقي سوريا إلى مدينة رأس العين/سري كانييه شمال غرب البلاد. وهي مناطق ذات غالبية كُردية ويطلقون عليها (أراضي خط العشرة)، وتعتبر هذه الأراضي الأكثر خصوبة في الجزيرة السورية.
“بعد سقوط نظام الأسد، يجب على الحكام الجدد في دمشق إعادة حقوق السكان الأصليين في الجزيرة، وخاصة الأراضي التي صادرها النظام السابق”.
وليد جولي، ناشط مدني من قامشلو، لـ”الحل نت”
ولذلك يمكن القول إن النظام “البعثي” اعتبر المناطق الشرقية بيئة خصبة لاستغلال الموارد الغنية سواء الطاقة أو السلال الغذائية المتنوعة من القمح والشعير. وفي المقابل، تعمد تهميشها، من خلال غياب التنمية الزراعية والسياسية والمجتمعية، وتنفيذ سياسات مركزية تضع الخدمات والإمكانات في مناطق محددة، مثل دمشق وحلب والساحل السوري.
فساد ومنع الاستثمار
إلى جانب تقييد الزراعة، فرضت الحكومة قيودا صارمة على التصنيع والاستثمار، حيث مُنع السكان من إنشاء مصانع لتعليب المنتجات الزراعية أو استثمار الثروة الحيوانية في مشاريع محلية، ما جعل الاقتصاد يعتمد فقط على تصدير المواد الخام دون أي قيمة مضافة.
كما أدى الإهمال الحكومي إلى تدهور أنظمة الري، خاصة مع تفاقم أزمة المياه نتيجة المشاريع التركية على نهري دجلة والفرات، مما تسبب في تراجع إنتاجية الأراضي الزراعية وزيادة التصحر في المنطقة.

وافتقرت المنطقة إلى خدمات أساسية مثل التعليم، الصحة، والمواصلات. بحيث العديد من القرى والمناطق الريفية لم تكن تمتلك مدارس أو مستشفيات مناسبة. كما تم تجاهل الحاجة إلى تطوير البنية التحتية مثل الطرق والمياه والكهرباء، مما زاد من معاناة السكان.
بحسب أبو كاوا، وهو مزارع من ناحية عامودا، لم يكن الفلاحون يعانون فقط من سياسات الدولة، بل أيضا من فساد الجمعيات الفلاحية والمسؤولين المحليين، الذين استغلوا نفوذهم للتحكم بأرزاق الناس وتأخير مستحقاتهم المالية لتحقيق مكاسب شخصية.
ويقول لـ”الحل نت” موضحا: “كنا نسلم المحصول للجمعية الفلاحية، بحيث يمكننا استلام ثمن المحصول خلال شهر حزيران/يونيو من كل سنة كحد أقصى، لكنهم كانوا يؤخرون تسديد الدفعات لشهر آب/أغسطس، إذ كانوا يستثمرون تلك الأموال لصالحهم الخاص”.
ويؤكد أبو كاوا على أن الشكاوي لم تكن تفيد لأنهم كانوا “محميين” من النظام السابق. عانت المناطق الشرقية من نقص التمثيل في المؤسسات الحكومية والهيئات السياسية، حيث كان يتم تعيين مسؤولين من خارج المنطقة ممن يدينون بالولاء للنظام. وكان هناك غياب كامل للكُرد من حيث تمثيل مناطقهم أو تقلد المناصب العليا. كانت تمنح وظائف بسيطة للكُرد في نطاق مناطقهم.
وفي هذا السياق بالتحديد، أشار أبو كاوا إلى أن من لم ينتمي إلى “حزب البعث” أو دفع رشاوى كان يجد صعوبة في الحصول على وظائف حكومية، الأمر الذي دفع العديد من الشباب المؤهلين إلى الهجرة أو العمل في وظائف لا تناسب مؤهلاتهم.
نحو تصحيح المسار
بالعودة إلى وليد جولي، فإنه يرى أنه بعد سقوط نظام الأسد، يجب على الحكام الجدد في دمشق استعادة حقوق السكان الأصليين، وخاصة الأراضي المصادرة. ويجب أن يكون ذلك جزءا من أي حلّ سياسي قادم لسوريا، مع ضرورة إيجاد بدائل لمشكلة المياه وتحقيق الاستثمار العادل لموارد المنطقة، بما يضمن تنمية اقتصادية مستدامة تعود بالنفع على كافة مكوناتها.

كما يشدد على أهمية إنشاء مشاريع زراعية وصناعية تدعم التكامل الاقتصادي، مما يتيح فرص عمل جديدة، ويحد من موجات النزوح، ويضمن تحسين الأوضاع المعيشية لسكان الجزيرة السورية، الذين ظلوا لعقود يعانون من التهميش والإقصاء.
وخلص حديثه لـ”الحل نت” بالقول: “يجب إعادة النظر في كثير من الأمور ضمن عملية الحوار التي ستجري بين الأطراف السورية بشكل عام في دمشق مع الحكومة الجديدة، وأن يتم طرح هذا الموضوع وتصحيح تلك الممارسات الخاطئة”.
هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
اشترك الآن اشترك في قائمتنا البريدية ليصلك كل جديد من الحل نت
مقالات ذات صلة
الأكثر قراءة

وصفت بـالتاريخية لحظة تصديق الشرع على الإعلان الدستوري

هل تستفيد المصارف السورية من تعليق العقوبات عن “البنك المركزي”؟

هجوم لفلول النظام على حاجز للأمن العام بدمشق

نزوح الآلاف من الساحل السوري باتجاه لبنان.. تفاصيل

ميليشيات عراقية تعتدي على سوريين وتعتقلهم

ميليشيا عراقية تعتدي على السوريين.. دمشق تندّد والسوداني يأمر باعتقال المتورّطين
المزيد من مقالات حول في العمق

التوافق الكردي-الكردي واتفاق إدماج قسد خطى نحو تسوية سورية؟

خيارات بغداد الصعبة.. كيف تتحرك واشنطن لتطويق إيران من العراق؟

عصى ترامب تجلد “الحوثيين”: هل تخلت طهران عن حليفها الأخير؟

أحداث الساحل ومشاركة دمشق بمؤتمر بروكسل.. خطوة غربية للوراء لتحديد مسار سلطة الشرع

سوريا الجديدة تبدأ من الشمال الشرقي: مسار تكتيكي أم اتفاق تاريخي؟

تهريب الأسلحة من إيران إلى القرن الإفريقي: توظيف “الحوثيين” لدعم تنظيم “القاعدة”

ضباط الأسد في موسكو: هروب تكتيكي أم مناورة روسية؟
