قيل عن المرأة الكثير. في الكتب والروايات والقصائد والأديان. في الإعلام والحياة والأَحلام. كل ما قيل ويقال -أغلبه- يبقى في الأوراق؛ لأنها رغم كل شيء تبقى بمساحة تحتانية بعد الرجل حتى عند من سطّرَوا عنها أبذخ الكلمات والأشعار. ولو لم تكن تلك النظرة التحتانية لها لما وُجِدَ هذا اليوم! اليوم العالمي للمرأة، الذي يُذكّرنا بحقيقة واحدة: إننا نستثمر كيان المرأة في تلك المجلّدات، بدل تغيير نظرتنا عنها في الواقع وتبديد التمييز بيننا وبينها صوب مبدأ المساواة.

هذا اليوم جاء ليذكّرنا بأن المرأة كالجبال، تتحمّل كل أنواع الطقس وتبقى شامخة ثابتة أمام التحديات، تكافح لتنال حقها، وهناك نساء عديدات كُنّ مثابرات ومتحديات، خاصة في منطقتنا التي لم تغادر بعد الأفكار الرجعية تجاه المرأة، ومجتمع العراق ليس بمعزل عن مجتمعات وأفكار المنطقة، وهنا -بمناسبة اليوم العالمي للمرأة- اخترنا بعناية 3 نساء عراقيات من فئات مختلفة لنُبرزَ نجاحاتهن بعدسَة مُكبّرة، كجزء من الاحتفاء بالمرأة الناجحة في يومها.

هيلين حسين.. النحت بالحجر

ثائرة، وتنحت في الصخر لنيل المبتغى. هكذا هي هيلين حسين، ابنة الفيحاء الغرّاء. هيلين ناشطة حقوقية، ومحامية عراقية، ومدافعة عن حقوق المرأة، وهي قبل كل ذلك رئيسة “فريق نسويات البصرة”. لا تبرح أن تستريح بعد كل صدمة، حتى تعود أكثر صلابة من قبل.

ولدت هيلين حسين في مدينة البصرة، لتطل إلى الدنيا من أقصى جنوب القلب العراقي، ولم تدرِ أنها وحين تبلغ مرحلة الشباب، ستكون شامخة وشاهقة مثل شموخ نخيل مدينتها، للدفاع عن الحقوق المغصوبة من المرأة العراقية، والبصرية خصوصا.

لم تعش هيلين مرحلة الربيع من عمرها بهدوء، لا سيما في البصرة، فهذه المدينة سبقت كل المدن العراقية بانتفاضتها في عام 2018، فأخذت منها قوة المواجهة للمستقبل، ولاحقا في “انتفاضة تشرين” عام 2019، تصدّت لقيادة عدد من التظاهرات، كانت في مقدمة الشباب والنساء، تهتف وتطالب بأبسط الحقوق: “نريد وطن”.

لم تحتكر القيادة على نفسها، بل ساهمت في إبراز قريناتها إلى الواجهة في تصدر الحراك الشعبي من مدينتها، وهي لكونها امرأة أولا، ولنشاطها الذي فاجأ السلطات الذكورية التي لم تعهد أن تشارك المرأة بجرأة في الاحتجاجات، واجهت تهديدات جديّة، لكنها لم تستسلم، واستمرت بالنضال.

بعد “نكسة تشرين” التي قُمعت بالنار والحديد، لم تبقَ هيلين حبيسة المنزل، ولا سجينة حياتها الخاصة، كان همها تحرير صوت النساء البصريات المعنّفات المضطهدات، فأسّست أول فريق نسوي يعنى بحقوق المرأة في المحافظة، وغالبا هو الأول في جنوب العراق، إنه “فريق نسويات البصرة”، الذي تقوده إلى اليوم، رغم كل العوائق والمطبّات.

هيلين حسين – (إنستغرام)

هيلين من طينَة سومَر. جذورها حيث مسقط رأس البسيطة، في وجهها ملوحة شط العرب، وفي عينيها عبق شناشيل البصرة القديمة، وُلدت بتاريخ 22 آب/ أغسطس 1996، درست القانون في “كلية شط العرب”، ونالت منها البكالوريوس، وتخصصها في المحاماة، عزّز في روحها المدافعة عن حقوق المستضعفين.

في عام 2021، وبمناسبة اليوم العالمي للقضاء على العنف ضد المرأة، تحديدا في 25 تشرين الثاني/ نوفمبر من ذلك العام، نظم “فريق نسويات البصرة”، بقيادة هيلين، أول وقفة احتجاجية في الشرق الأوسط للمطالبة بإنهاء العنف في هذا اليوم، وحتى تلك الوقفة شابتها العراقيل.

“واجهت النساء والفتيات في الفريق صعوبة من أجل الخروج من بيوتهن للوصول إلى مكان الوقفة وتنظيمها؛ لأن خروج المرأة لا يزال يحتاج إلى الإذن في مجتمع عشائري محافظ. “هذا أبسط أنواع العنف ضد المرأة العراقية والبصرية، رغم أن الخروج من المنزل هو من البديهيات والحقوق الواجبة التي يجب أن تمتلكها المرأة”، تقول هيلين.

بغداد المدينة المتمدّنة، المتحررة نوعا ما، مشبّعة بالظلم والعنف تجاه المرأة، فكيف الحال بمدينة محافظة وعشائرية؟ أن تكون في مدينة مثل البصرة تتنفس العادات والتقاليد، يعني أنك تنحت في الحجر لمجابهة الظلم سعيا لكسب معركة الحقوق، وهيلين لم تستسلم ولم تيأس، تواصل النضال، وتسلط نشاطها اليوم لرصد وتوثيق الانتهاكات التي تطال المرأة والطفل في بيئتها.

إيناس فليب.. تشريح المحظور

شاعرة الجرأة، إنها إيناس فليب، الكاتبة التي لا تخشى الغوص في المحظور، الممنوع عند المجتمع، تشرحه تشريحا بالنصوص. إيناس شاعرة وكاتبة عراقية شابة، ولدت في 22 كانون الأول/ ديسمبر 1993، حين كان الحصار في ذروته على العراقيين، ويوم كان الطفل يفارق الحياة لعدم توفر علبة الحليب، لكنها نجت من تلك الأيام، لتولد شاعرة تكتب مآسي هذه الأيام.

فترة الصبا كانت موغلة بالألم، فبغداد التي ولدت بها فليب، كانت الحياة فيها مقتصرة على الدم والرصاص، حيث الحرب الطائفية تستعر في كل شبر من العاصمة. عاشت إيناس مرارة الهجرة القسرية في داخل الوطن، فذهبت مع عائلتها إلى البصرة حتى يستقر الوضع في مدينتها الأم، لتعود إلى حضنها من جديد.

لم تكن حياة إيناس فليب مثالية، فالظروف كانت أقسى عليها، ومنعتها من التعليم، لكن الظروف نفسها هي من صنعتها، وجعلتها إيناس الشاعرة والكاتبة، ومن ثم الصحفية التي تكتب بأهم المؤسّسات المحلية العراقية، بينما لم تترك حلم الدراسة، فراوضته حتى تبلغ مناها.

البصرة التي احتضنتها من عنف الأيام الحمر في سنوات الحرب، هي ذاتها التي جعلت منها شاعرة لاحقا. دخلتها في 2018 وهي تكتب القصص القصيرة، وخرجت منها وهي تكتب الشعر، ومنها حلّقت بشعرها إلى برلين، تلقي قصائدها على مسامع الألمان بدعوة رسمية من الخارجية الألمانية، بعد حصدها المركز الثالث بفئة الشعر عن مشروع “إينانا”.

إيناس فليب – (إنستغرام)

“قرأت إعلانا عن ورشة كتابة للشابات تحت سن الـ 25 عاما، أُقيمت أالورشة في محافظة البصرة وهي جزء من مشروع (إينانا). (إينانا) مشروع عملت عليه الصحفية الالمانية بيرغت. سافرت إلى البصرة، حيث تضمنت الورشة تدريبا على القصة والرواية، وتدريبا على الشعر، واختتمت بمسابقة للمشاركات، وحصدت المركز الثالث عن باب الشع”، تقول فليب.

قرأت إيناس فليب، الشعر في الريف الألماني، وفي بيت الشعر في برلين، وفي وزارة الخارجية الألمانية، وبيعت نسخ من كتابها المشترك “عيون إينانا”، حيث كانت الفكرة مختلفة لدى الألمان بأن يحضروا حفل توقيع لكاتبة عراقية في ظل الأوضاع التي يسمعون عنها. “من الجيد أن تركب الطائرة وتعبر المدن لتقرأ الشعر في أوروبا، إنها نافذة جيّدة للتعرف على ثقافات أخرى”، تقول فليب.

إيناس فليب، التي حظيت بعديد الدعوات والتكريمات المحلية، لا سيما من قبل “الاتحاد العام للأدباء والكتّاب في العراق”، لا تترك أي فرصة يدور فيها النقاش عن دور المرأة في العراق ومدى تأثرها بالظروف المحيطة بها، إلا وشاركت بها، ولا تتردّد في التكلم عن “تشرين” والتحديات التي واجهتها، ولا الحديث عن الكتابة كونها “تشكل فضيحة في مجتمع يتحكم به السلاح”.

من يكون كاتبا، بالضرورة سيصبح صحفيا، وفليب سارت على ذات النهج، فأمست صحفية يشار لها بالبنان، ابتدأت منذ حراك “تشرين” مع “ألترا عراق”، ثم “المدى”، وثم صارت مسؤولة بقسم الإعلام في “مركز البيان للدراسات والتخطيط”، وأخيرا الوجه الإعلامي لـ “معرض العراق الدولي للكتاب”، ليتم تكريمها بالأمس من قبل “المصرف الأهلي العراقي” عن مسيرتها الصحفية، بمناسبة “اليوم العالمي للمرأة”. 32 عاما، وإيناس فليب تعتقد أنها لا تزال في مستهل المشوار، وتلك ميزة الناجحين.

زينب المشاط.. التحليق لقطف الأحلام

“بهيدَة بهيدَة”.. بحثنا كثيرا، فلم نجد أنسب من كلمات أغنية سيتا هاكوبيان، لوصف مسيرة الصحفية والإعلامية العراقية، زينب المشاط، بدءا من الصحافة المحلية وصولا إلى أبرز محطات العالم العربي في الإعلام المرئي.

في الصحافة، قلمها من أمهر الأقلام الصحافية، طري وعذب، وكلماتها تلمس الروح وتجسّد الواقع بحلوه ومرّه بحرفية مبهرة، وذلك شوهد من خلال موادها بين “المدى، درج، كركوك ناو”، ناهيك عن “تاتو” و”عراقيات”، وأخيرا “جمّار”.

في الإعلام المرئي، بدأت مسيرتها بنجاح لافت مع “nrt عربية”، ثم تنقلت بين “آسيا” و”التغيير” و”mbc عراق”، حتى وصلت أخيرا -وليس آخرا- إلى النجومية بالعمل مع تلفزيون “العربية”. اشتغلت بجد، وأتقنت عملها خير إتقان.

لم تكن طفولة زينب مميزة، فهي ليست من الأسر اللائي تربى أبنائهم وبناتهم بشكل مميز. “طالبة في مدرسة حكومية تلهو وتلعب مع أقرانها في المدرسة والشارع”. في مرحلة المراهقة اختلفت هواياتها واهتماماتها عن أقرانها من الفتيات. “كنت أخوض نقاشات سياسية مع الكبار في جلساتهم. حتى على صعيد العاطفة في مرحلة المراهقة كنت أخبر نفسي دائما بأني يجب ألاّ انجرف خلف عاطفتي؛ لأني الآن في سن المراهقة وكنت أحاول كتابة مشاعري في كتيب صغير احتفظت به لذاتي. كنت أمارس هوايات هادئة، الرسم والحياكة والخياطة وصناعة تحف السيراميك البارد”.

كانت الكيمياء هي الرغبة لدى المشاط. كانت تحلم أن تكون ماري كيوري العراق. لكنها سرعان ما اكتشفت أنها لا تصلح لأن تكون كيميائية، وأن الهوى يميل لشيء يلامس الناس والبسطاء، ووجدته في الصحافة، فبعد تخرجها، قرأ لها أحد الإعلاميين بعضا مما تكتب وطلب منها أن تكتب في موقعهم مقالات اجتماعية وفعلت ذلك بالفعل، ثم بدأت تنشر في الصحف بلا مقابل، ومن هنا انطلقت حكاية المشاط مع الصحافة والإعلام.

زينب المشاط – (إنستغرام)

تقول زينب: “بعد ذلك توجهت إلى مؤسسة المدى وقيل لي من الآخرين أنها مؤسسة لا تنتقي كُتابا مبتدئين، وكان هذا تحديا بالنسبة لي؛ فقررت أن أقدم نفسي لهم وقُبِلت من أول مادة صحفية أنجزتها لهم. لقد طورت عملي الصحفي في هذه المؤسسة التي عملت بها أكثر من 5 سنوات”.

كان لدى المشاط عمود صحفي، يحمل اسم “أنثويات”، وهو عمود في مجلة “تاتو”، الملحق الشهري التابع لجريدة “المدى”. كانت تتقصد الذهاب في يوم صدور عدد المجلة بكامل أناقتها وكأنها على موعد مع حبيب. العمود معني بالتابوهات، بالقضايا النسوية المسكوت عنها، ناقش عمود “أنثويات” القضايا التي تخص المرأة بطريقة أدبية.

عام 2014، دخلت زينب لعالم الصحافة في مؤسسة “المدى” وتعاهدت أمام ذاتها أن تقدم محتوى يشار له من قبل الجميع وأن تحترف الإعلام عربيا، وكانت طموحاتها آنذاك أن تقدم محتوى ميدانيا إما لقناة “العربية” أو “الجزيرة”، وها هي اليوم حققت جزءا من طموحها بالعمل في “العربية”.

التلفزيون لن يكون الأحب إلى قلب المشاط أبداً. يبقى القلم هو محرابها والحروف هي أجمل ما تنسجها لتخلق كلمات تتحدث عنها. توقفت زينب لمدة من الوقت عن الكتابة بعد أن فاتت بمرحلة “حبسة الكلمات”، لكنها عادت بعد حين أقوى من قبل، عادت لتكون ضمن الإدارة التحريرية لموقع “جمّار”، وهو موقع يقدّم صحافة عراقية جادة تنافس المدارس الصحفية العربية بمهنية لافتة.

“كنت دائما حين أسير في الشارع أشعر أن قدماي بالكاد تلامس الأرض. وحتى هذه اللحظة يلازمني هذا الشعور لأني لا أسير بل أُحلّق.. أُحلّق لأقطف أحلامي وأُصَيّرها واقعاً. ولن أتوقف عن تحقيق أحلامي. أنا اليوم لا أحلم، لكنني أحقق ما حلمت به بالسابق ومستمرة بتحقيقه”، تقول زينب.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
أقدم
الأحدث الأكثر تقييم
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات