بجانب زعماء دول تنتمي بمعظمها لدول الجنوب العالمي، خلال منتدى بطرسبرغ الاقتصادي (SPIEF) بنسخته الـ 27، تمسك الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بمسار التحول العالمي، بما فيه تحول الاقتصاد الروسي شرقاً وجنوباً، في ظل عزلة وعقوبات غربية فرضتها الدول الغربية على روسيا بعد غزوها لأوكرانيا. وخلال المنتدى، الذي انعقد بين 5-8 حزيران/ يونيو الحالي، شاركت سلطنة عُمان بصفة ضيف شرف، وكانت الإمارات ضيف شرف العام الماضي، ومصر عام 2022، وقطر عام 2021. فما هو (SPIEF)؟ وأهداف موسكو من استضافته، واستضافة الدول العربية فيه؟

وفقا لموقعه الرسمي، المنتدى واحد من أكبر وأهم الأحداث التجارية في العالم. وعلى مدى سنواته الـ 26 الماضية، عزز المنتدى مكانته كحدث دولي يركز على قضايا رئيسة بجدول الأعمال الاقتصادي العالمي، ويوفر منبرا للمشاركين لتبادل أفضل الممارسات والخبرات لمصلحة التنمية المستدامة. ويوفر مساحة للحوار وإقامة علاقات تجارية وفرص للعثور على شركاء بهدف تأمين نمو الأعمال في روسيا والخارج، ولجذب انتباه المستثمرين المحتملين ووسائل الإعلام الرائدة.

إلى جانب ذلك، يمنح المنتدى المشاركين قدرة توسيع دائرة عملائهم ومورديهم، ومقابلة صانعي القرار الرئيسيين. ويعقد سنويا منذ عام 1997، ومنذ عام 2005، تم عقده تحت رعاية الرئيس الروسي. فبرأيه، “ستخلق روسيا كل الفرص لتحقيق مثل هذا التواصل، من أجل تبادل الخبرات وعرض أكثر الإنجازات العلمية والتقنية تقدما”. يضيف بوتين، “مثل هذه الأحداث والمنتديات الكبرى توحد وتقرب الناس من مختلف البلدان حقا. فالتواصل المباشر القائم على الثقة المتبادلة يدفع في كثير من النواحي مشاريع الأعمال والمبادرات إلى الأمام، وبالتالي الاقتصاد العالمي بأسره”. 

بدوره، يؤيد أمير قطر، تميم بن حمد آل ثاني، بوتين بالقول، “كل هذا يزيد من أهمية المنتدى الحالي (عام 2021)، الذي أصبح حدثا اقتصاديا دوليا مهما. كما أنه نموذج للمجتمع الدولي بأسره في طرح المبادرات التي تساعد على خلق ظروف مواتية للنمو الاقتصادي الإقليمي والعالمي والاستثمار وتطوير حلول فعالة للمشاكل الاقتصادية المشتركة”.

فالمنتدى منصة هامة، وأداة من أدوات القوة الروسية الناعمة، يشرف عليها عادة خبراء ومسؤولين من داخل “الكرملين”، نظرا للأهمية الكبيرة التي توليها له الحكومة الروسية، حسب الباحث في جامعة الصداقة بين الشعوب في موسكو، الكاتب الموريتاني أحمد شيّاخ. حيث تولى أنطوان كوبياكوف، مستشار الرئيس الروسي، لجنته التنظيمية.

من جانبه، أشار كوبياكوف، إلى أن “حصاد المنتدى هذا العام توقيع 1073 اتفاقية بمبلغ إجمالي قدره 6.492 تريليون روبل، من ضمنها 55 اتفاقية وقعت مع ممثلين عن شركات أجنبية”.  متجاوزا بذلك حصاد فعاليات عام 2023، حيث تم توقيع قرابة 900 اتفاقية بقيمة إجمالية قدرها 3.860 مليار روبل، بما في ذلك 43 اتفاقية مع ممثلي الشركات الأجنبية.

اقتصاد متعدد الأقطاب

وفقا لـ “مونت كارلو الدولية“، افتتحت روسيا المنتدى لهذا العام، بحضور “شرقي لافت” وغياب “غربي” جلي، في ظل اتساع رقعة الصراعات الجيوسياسية العالمية وتكريس القطيعة بينها وبين دول الغرب، فيما أضافت الإذاعة الفرنسية، أن فرض العقوبات والمقاطعة الغربية، بأمل انهيار اقتصاد موسكو، أدى لتوجه روسيا شرقا، عبر تعزيز التعاون مع آسيا وإفريقيا ودول الشرق الأوسط.

الإنجاز الأهم في الجانب الأخير، تقاربها السياسي الاقتصادي غير المسبوق مع الصين، وما نتج عنه من تعزيز للاقتصاد الروسي. فيما تكتسي نسخة المنتدى الأخيرة أهمية خاصة كونها تتناول أزمة الشرق الأوسط، ورؤية موسكو بعدم إمكانية تحقيق استقرار عالمي دون إيجاد حل أساسي لهذه الأزمة، انطلاقا من المبادئ التي دعت إليها مؤخرا.

رمضان الشافعي غيث، وهو باحث في العلاقات الدولية، قال لـ “الحل نت”، إنه مع اتساع الصراع بين روسيا ودول الغرب، يأتي الحضور الشرقي، خصوصا العربي، في منتدى سان بطرسبرغ، لافتا، لا سيما أن سلطنة عُمان ضيف شرف المنتدى، وبينما تعمل روسيا على تمثيل دور القادر والفاعل في المجتمع الدولي، تناور الدول العربية بهدف تنويع علاقاتها الدولية، وعدم الاكتفاء بعلاقات مع الغرب فقط، خاصة أن تكلفة العلاقات مع الدول الشرقية لا تتطلب التزامات تتعلق بملفات لا ترغب الدول العربية في مناقشاتها كملفات حقوق الإنسان. وبرأيه، بعد حربها على أوكرانيا، لم تجد روسيا ملاذا لاقتصادها سوى الشرق، كالصين ودول الشرق الأوسط، لاستبدال العلاقات مع الغرب التي لا يتوقع عودتها كما كانت لعقود قادمة.

أحد المواضيع التي ناقشها المنتدى، تخلي الغرب عن دعم الدور الاحتياطي لعملاته، سواء بسبب سياسات الاقتصاد الكلي “غير المسؤولة”، أو بقرار سياسي بشأن “السرقة الفعلية” لاحتياطي الذهب والعملة الأجنبية الروسي، حسب تقرير مؤسسة “روسكو نغرس“، الروسية. مما أدى لفقدان الدولار واليورو مكانتهما كعملتين موثوق بهما، وتزايد حصة المعاملات بالنقد المحلي، تماشيا مع تنمية المؤسسات المالية ذات الصلة، وتكوين بديل حقيقي لعالم ونظام مالي أحادي القطب. 

ومن أجل ضمان الاستقرار في عالم متعدد الأقطاب، من الضروري إنشاء مراكز نفوذ جديدة قادرة على تقديم رؤيتها للمشكلات العالمية والمشاركة في تشكيل نظام عالمي جديد، حسب كوبياكوف، “كذلك من المهم انضمام دول ومناطق مختلفة إلى تطوير نقاط نمو جديدة مع استعدادها لتحمل المسؤولية عن مستقبلها”. حيث تضمن برنامج المنتدى أربع مسارات، كرّس أولها للانتقال إلى نموذج متعدد الأقطاب للاقتصاد العالمي. وناقش ثانيها أهداف وغايات الاقتصاد الروسي. وتعلق ثالثها بالتقنيات التي توفر القيادة. فيما سمي رابعها “المجتمع الصحي والقيم التقليدية والتنمية الاجتماعية – أولويات الدولة”.

“بريكس” مصعد للتعددية

خلال جلسة ناقشت موضوع “الأساس الثقافي لدول البريكس.. هل ستتمكن بريكس من أن تصبح سوقا ثقافية مشتركة؟”، قال مدير معهد تسارغراد، البروفيسور ألكسندر دوغين، إنه “بالحديث عن بريكس، نحن نتحدث بالفعل عن نموذج جديد متعدد الأقطاب تماما، حيث لا يوجد غرب… هو خارج اللعبة لأنه يصر على أنه لا توجد ثقافات وحضارات، هناك حضارة غربية واحدة فقط، وهي الوحيدة. لذلك، فإن دول بريكس تعارض هذه الهيمنة، وهذا النهج الاستعماري العنصري”.

بدورها، أضافت رئيسة المركز الروسي في جامعة طهران، المتحدثة الإيرانية زهرة محمدي بالقول، إن “بريكس” يمكن أن تصبح المكان الذي تجري فيه الصناعة الثقافية والتبادلات التعليمية والمهرجانات والبحوث المختلفة.

أزمة الشرق الأوسط حضرت مناقشات المنتدى، حسب الشافعي غيث، لكن اهتمام موسكو بالدول العربية لا يرجع إلى الجانب السياسي المتعلق بتنافسها على وجود ونفوذ في الشرق الأوسط، والتطلع إلى عالم عادل متعدد الأقطاب فقط، وإنما إلى تعاون اقتصادي تأمل ارتفاع حجمه وتوسع مجالاته، مع انضمام دول عربية بداية إلى مجموعة “بريكس” مطلع 2024، ورهانات المجموعة على فرص تجارية وتصديرية كبيرة في المستقبل القريب. مع ذلك، ولخشيتها من استفزاز الجانب الغربي، تتعامل الدول العربية بحذر مع روسيا، وظهر ذلك بالتمثيل العربي في المنتدى، والذي غلب عليه مستوى الوزراء.

9 دول عربية شاركت في المنتدى، فيما شاركت عُمان بصفة “ضيف شرف”، حسب شيّاخ. حيث شاركت مصر بوفد ترأسه وزير الصناعة والتجارة أحمد سمير، وشارك السودان بوفد ضم وزراء الخارجية والمالية والموارد الطبيعية برئاسة نائب رئيس المجلس السيادي مالك عقار، وشاركت حكومة دمشق بوفد ترأسه وزير المالية كنان ياغي. بالمجمل، يبدو المنتدى انعكاسا لسياسة روسيا الخارجية الأخيرة، القائمة على زيادة انفتاحها على العالم العربي، خاصة دول الخليج، وزيادة توطيدها بعد العقوبات الاقتصادية الهائلة على روسيا، نتيجة قيام موسكو بما تسميه “عملية عسكرية خاصة في أوكرانيا”.

مؤخرا، عدّلت الدول الإسلامية مواقفها، وباتت على استعداد للنأي بنفسها عن بعض السياسات الغربية، بما فيها الموجهة ضد روسيا، والنظر للأخيرة كأحد الركائز لبناء بنية جديدة للأمن الإقليمي، حسب مجلس الشؤون الخارجية الروسي. ومن جانبها، عرضت موسكو على الدول الإسلامية تعزيز سيادتها وأن تصبح قطبا آخر في عالم متعدد الأقطاب، عبر “بريكس”، بعد انضمام مصر وإيران والإمارات والسعودية للمجموعة مطلع عام 2024. ووفقا للمجلس، فإن إمكانات الاقتصاد لدول منظمة التعاون الإسلامي، مفيدة للغاية لتعزيز الشراكة الأوراسية، من خلال مشاركتها في هيكل متكامل لعالم متعدد الأقطاب.

روسيا والدول العربية/ الإسلامية

بعد حرب 5 حزيران/ يونيو 1967، فقدت روسيا هيبتها في الشرق الأوسط، عندما انتصرت إسرائيل على حليفتيها مصر وسوريا. ومن ثم تلقت ضربة قاصمة، نتيجة فك الرئيس المصري الأسبق، محمد أنور السادات، علاقة الارتباط مع موسكو، وتوقيع معاهدة السلام المصرية – الإسرائيلية عام 1979 بوساطة أميركية، حسب الباحث أحمد دهشان، في مركز الدراسات العربية – الأوراسية. ومع تفكيك الاتحاد السوفيتي انتهى النفوذ الروسي من المنطقة تماما.

مع ذلك، أعادت موسكو تعزيز وجودها خلال العقد الماضي عبر انخراطها المباشر في الحرب السورية، مع دعاية قوية عن وفائها لحلفائها، وهو ما وجد صدى عربيا قويا بعد أحداث “الربيع العربي”، وما بدا خلاله من تخل أميركي عن أقرب حلفائها، الرئيس المصري حسني مبارك، وهو ما أحدث صدمة لأنظمة الخليج. وعليه، أقامت موسكو علاقات وثيقة مع هذه الأنظمة، سهّل لها ضبط أسواق النفط، عبر آلية “أوبك بلس”، والتوافق على عدد من الملفات السياسية مع الرياض.

كما تنامت علاقاتها التجارية والاستثمارية مع الإمارات، التي باتت ملاذا آمنا لأقطاب الأوليغارشية الروسية، الهاربين من العقوبات الغربية. مع تنسيق عالي المستوى مع قطر، لتلافي عدم تعدي طرف على حصة الآخر في أسواق صادراته التقليدية للغاز. وإلى جوار ذلك عادت روسيا، ولأول مرة منذ سبعينيات القرن الماضي، لتزويد مصر بالأسلحة، مع تنفيذ مشاريع اقتصادية في المنطقة الاقتصادية لقناة السويس، وبناء أول مفاعل نووي مصري في الضبعة على ساحل المتوسط.

حسب شيّاخ، التعاون الأبرز بين الدول العربية وروسيا كان مع الإمارات، حيث تجاوز التبادل التجاري بين روسيا خلال العام الفائت مبلغ 10 مليارات دولار. إضافة لعمل آلاف الشركات الروسية في الإمارات. منوها إلى أن تعاون السعودية مع موسكو في مسألة ضبط أسواق النفط ساعد روسيا كثيرا في صمودها الاقتصادي بمواجهة العقوبات الغربية. وفي إيحاء لتطوير العلاقة مع قطر، وافق الكرملين على وساطتها بموضوع تبادل الأسرى بين طرفي الأزمة الأوكرانية. 

“مشاركة سلطنة عمان في منتدى سانت بطرسبرغ الاقتصادي الدولي كدولة ضيفة فرصة لنا لإقامة اتصال مباشر بين الشركات العمانية والروسية، وبناء الثقة المتبادلة، والعثور على أرضية مشتركة، ورسم طرق جديدة للتعاون الإستراتيجي”، حسب السفير العماني لدى موسكو، حمود بن سليم آل تويه. أيده بذلك، كوبياكوف قائلا، “عبر إحلال عُمان ضيفا للشرف، من المتوقع أن ترفع مستوى العلاقات التجارية والاقتصادية بين بلدينا”، مضيفا، “رغم الوضع الجيوسياسي الحالي، إلا أن روسيا تواصل تطوير علاقات متبادلة النفع مع العالم العربي”.

فتطوير تعاون متعدد الأوجه مع الدول الإسلامية له بعد اقتصادي، حسب مجلس الشؤون الخارجية الروسي، نتيجة الزيادة الكبيرة في حجم التجارة. حيث وصل التعاون مع تركيا وإيران إلى مستوى عال. ما ينطبق أيضا على الجزائر ومصر وقطر والإمارات وباكستان والسعودية ودول إسلامية أخرى. حيث تكثف موسكو اتصالاتها مع دول بقيت “في خلفية” السياسة الروسية سابقا، مثل “سلطنة عُمان”، التي تتحول إلى شريك مهم لروسيا في كل من السياسة الخارجية والاقتصاد.

جناح سلطنة عمان في منتدى بطرسبرغ – إنترنت

هنا، يشير المجلس لاجتماع إيران والإمارات والسعودية وعُمان في المبادرة الروسية – الإيرانية، “شمال – جنوب”، التي قد تصبح مستقبلا مشروعا جيوسياسيا مشابها لمبادرة “الحزام والطريق” الصينية. ما يمّكن روسيا من إضفاء طابع مؤسسي على محورها الجيوسياسي نحو الجنوب، ومن ضمنه الشرق الأوسط والعالم الإسلامي، في إطار مشاريع جيوسياسية ينبغي دعم استدامتها عبر منصة اقتصادية صلبة. منوها لتتويج الرئيس الروسي سياسته الخارجية عام 2023، بزيارة السعودية والإمارات، مركزا القوة والنفوذ في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا والعالم الإسلامي.

الأحادية القطبية، بجوهرها الليبرالي الغربي وقيم الديمقراطية وحقوق الإنسان، أثبتت في أحيان كثيرة عدم تجاوبها، حتى فيما تقوم عليه من القيم المذكورة. مع ذلك، لم تمتلك روسيا، ولا الصين أيضا، نماذج بديلة. كما أن نماذجهما بالحكم داخليا، وإدارة سياستهما الخارجية، لا تشجعان أبدا على نماذج بديلة تحظى بالاحترام. فنظام الدولتين استبدادي أوليغارشي، مع دعمهما لأنظمة مستبدة وانقلابات عسكرية، لحسابات ذاتية ضيقة، بمعزل عن معايير القانون الدولي والقيم الإنسانية.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات