تجري الصين حوارًا منتظمًا مع جماعة “الحوثي” اليمنية، وتنبع دوافع هذا الحوار من المصالح التجارية. فالمصالح التجارية الصينية غير مهددة إلى حد كبير بهجمات “الحوثيين” على حركة الملاحة الدولية في البحر الأحمر؛ ولهذا اعتمدت بكين على تواصلٍ ثنائيٍ سريٍّ مع “الحوثيين” لتأمين سفنها التجارية. كما تتعاطف الصين مع روايات “الحوثيين” حول “العدوان الغربي”، وترى في الجماعة المصنفة على لوائح الإرهاب شريكًا في الصراع ضد الهيمنة الغربية.
ومن ناحيةٍ أخرى، يدفع انخراط بكين مع “الحوثيين” رغبةٌ في تشكيل قوةٍ مضادة تتكون من إيران وأذرعها وموسكو في مواجهة قوة الولايات المتحدة وحلفائها؛ ولذلك التزمت الصين الصمت حيال هجمات “الحوثيين” على المصالح الدولية، ورفضت الانضمام إلى الجهود الدولية لضمان حرية الملاحة في البحر الأحمر.
الأقمار الصناعية الصينية تدعم الحوثيين
كشفت صحيفة “ناشيونال إنترست” الأميركية أن ميليشيا “الحوثي” في اليمن باتت تشكل تهديدًا للجيش الأميركي يفوق ما توقعه مسؤولو “البنتاغون”. وأوضحت الصحيفة أن “الحوثيين” لا يتلقون دعمًا من إيران فقط، بل أصبحوا أيضًا بمثابة وكالة اختبار غير مباشرة لأنظمة تسليح صينية، في إشارة إلى تطور صواريخ باليستية مضادة للسفن (ASBMs)، التي أصبحت أكثر دقة وخطورة حتى على حاملات الطائرات النووية الأميركية.

وقالت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الأميركية، تامي بروس: “يمكننا تأكيد التقارير التي تفيد بأن شركة تشانغ غوانغ لتكنولوجيا الأقمار الصناعية المحدودة تدعم بشكل مباشر الهجمات الإرهابية الحوثية المدعومة من إيران على المصالح الأمريكية”.
وأضافت: “تسعى الصين باستمرار إلى تصوير نفسها كصانعة سلام عالمية… ومع ذلك، فمن الواضح أن بكين والشركات التي تتخذ من الصين مقرًا لها تقدم الدعم الاقتصادي والفني الرئيسي لأنظمة مثل روسيا وكوريا الشمالية وإيران ووكلائها”.
وبيّنت بروس أن المساعدة التي تقدمها الشركة لـ “الحوثيين” استمرت على الرغم من أن الولايات المتحدة تعاملت مع بكين بشأن هذه القضية، وأضافت: “إن استمرارهم في القيام بذلك أمر غير مقبول. ولن تتسامح الولايات المتحدة مع أي شخص يقدم الدعم للمنظمات الإرهابية الأجنبية مثل الحوثيين”.
من جانبه، صرح المتحدث باسم السفارة الصينية في واشنطن، ليو بينغيو، بأنه ليس على دراية بالوضع، وبالتالي ليس لديه تعليق. ولم ترد الشركة فورًا على طلب التعليق. ولفتت الصحيفة أيضًا إلى أن الشركة نفسها اتُهِمت سابقًا بدعم مجموعة “فاغنر” الروسية خلال حرب أوكرانيا.
في هذا الصدد، يعلق صالح أبو عوذل، رئيس مؤسسة “اليوم الثامن للإعلام والدراسات”، في حديثه لـ”الحل نت”: “هذا التحرك الصيني يعكس طموحًا استراتيجيًا لبسط نفوذها في منطقة الشرق الأوسط عبر مزيج من الدبلوماسية والوسائل غير التقليدية. فجعل الصين تدعم الحوثيين استخباراتيًا وتقنيًا عبر تزويدهم بصور الأقمار الصناعية وتقنيات عسكرية متطورة يعكس محاولة مدروسة للتأثير على خطوط الملاحة الدولية وإرباك النفوذ الأمريكي والغربي في البحر الأحمر، دون الدخول في مواجهة مباشرة”.
وأضاف أبو عوذل: “تسعى بكين أيضًا إلى الاستفادة من حالة عدم الاستقرار البحري لتعزيز مصالحها التجارية وضمان مرور آمن لسفنها، مع إبقاء منافسيها الغربيين تحت ضغط متزايد. في المقابل، تواجه واشنطن تحديات كبيرة في احتواء هذا الدور الصيني المتنامي، خاصة في ظل انشغالها بملفات استراتيجية أخرى في شرق آسيا وأوروبا”.
وختم قائلاً: “تدير بكين صراعها بعيدًا عن حدودها بوسائل تجمع بين المصالح السياسية والدعم غير المباشر للجماعات المسلحة”.
الصمت الصيني
في 21 كانون الأول/ديسمبر 2023، وبعد شهرين من الهجمات على الملاحة في خليج عدن ومضيق باب المندب، تناولت الصين للمرة الأولى مسألة نيتها القيام بدورٍ أكثر فاعلية في تأمين منطقة البحر الأحمر. وقال متحدث باسم وزارة الخارجية الصينية:
“يُعدّ البحر الأحمر طريقًا تجاريًا دوليًا مهمًا للسلع والطاقة. إنّ حماية أمن واستقرار المنطقة تخدم المصلحة المشتركة للمجتمع الدولي. وتؤيد الصين حفظ سلامة الممرات البحرية الدولية ومنع إحداث اضطرابات للسفن المدنية. ونعتقد أنّ الأطرافَ المعنية، وخصوصًا الدولَ الكبرى ذات النفوذ، بحاجةٍ إلى القيام بدورٍ بناءٍ ومسؤولٍ في الحفاظ على سلامة الممرات الملاحية في البحر الأحمر”.
ولم يحدد المتحدّث أيّ “دولٍ كبرى ذات نفوذ” كان يقصد. وعلى مدى العامين 2022–2023، أيدت الصين قرارات مجلس الأمن الدولي التي تصنّف “الحوثيين” منظمةً إرهابيةً، ثم توقّفت عن إصدار أيّ إدانةٍ رسميةٍ لهجماتهم. ولم ينطق المسؤولون الصينيون بكلمة “حوثيين” حتى عندما تعرّضت سفينةٌ صينيةٌ للهجوم.
يبدو أنّ ردَّ فعل بكين مدفوعٌ بعددٍ من الاعتبارات، من بينها الخوفُ من التورط في صراعات الشرق الأوسط. فسياسة الصين في هذه المنطقة تهدف إلى كسب ثقة الحكومات والمجتمعات العربية والإسلامية من دون الدخول في صراعٍ معها أو خلق فجوةٍ تولّد عداءً في دول المنطقة.
الدعم غير المباشر لـ “الحوثيين”
تقدّم الصين دعمًا غير مباشر لـ”الحوثيين”، مما يعزّز قدرتهم الاستخباراتية والعسكرية والاقتصادية بطرق تعتمد على التحايل على العقوبات الأميركية، عبر شراء كميات كبيرة من النفط الإيراني. في تقرير حديث، وجدت منظمة “متحدون ضد إيران النووية” أن طهران صدّرت 587 مليون برميل من النفط في عام 2024، بزيادة قدرها 10.75% عن عام 2023.

وعلى مدى السنوات الأربع الماضية، صدّرت إيران حوالي 1.98 مليار برميل من النفط، وتضاعفت صادراتها السنوية أربع مرات خلال إدارة بايدن. تُعدّ الصين أكبر مشتري للنفط الإيراني، إذ استقبلت أكثر من 90% من هذه الصادرات في عام 2024، ما مكّن “الحرس الثوري” الإيراني من الحصول على ما يصل إلى نصف عائدات النفط البالغة خمسين مليار دولار. وفي المقابل، يستخدم “الحرس الثوري” هذه الأموال لدعم وكلائه، بما في ذلك “حزب الله” وجماعة “الحوثي”.
ولم يقتصر الدعم على العائدات النفطية فحسب؛ فقد أكدت مصادر استخباراتية أميركية مؤخرًا لوسائل إعلام أنه منذ تشرين الثاني/نوفمبر 2023، استخدم “الحوثيون” مكونات صينية الصنع لاستهداف سفن في البحر الأحمر مقابل منح السفن التي ترفع العلم الصيني حصانة. ويأتي ذلك بعد إعلانات متعددة لوزارة الخزانة الأميركية عام 2024، التي أضافت اثني عشر كيانًا صينيًا وإيرانيًا وحوثيًا إلى قوائم العقوبات الأميركية لحيازتها وتمويلها وتهريبها وتوفيرها موادّ ذات استخدام مزدوج وموادّ عسكرية لـ”الحوثيين”.
ويبدو أن هذا الدعم انعكس على حركة السفن الصينية؛ إذ أظهرت بيانات قائمة “لويدز” في بداية كانون الثاني/يناير 2024 زيادةً ملحوظةً في نسبة الحمولة الصينية التي تمر عبر البحر الأحمر، حيث قامت 17 سفينةً من أصل 27 بزيارة موانئ روسية. وبحلول أيلول/سبتمبر 2024، برزت السفن الصينية استثنائيًا في الحفاظ على حركة المرور عبر نقاط الاختناق الاستراتيجية، حتى مع استمرار تراجع الحركة العالمية عبر المنطقة عن مستوياتها الطبيعية.
ويؤكد صالح أبو عوذل، رئيس مؤسسة “اليوم الثامن للإعلام والدراسات”، أن “الدعم الصيني للحوثيين لا يمكن فصله عن توتر العلاقات الصينية–الأميركية؛ فبخروجها عن نطاق العقوبات الدولية على كيانات إيرانية وحوثية وصينية، تعكس بكين قلقها من سياسة واشنطن التي تسعى إلى تهميش دورها في الشرق الأوسط. ومن ثمّ، تبني الصين مع إيران وحلفائها مركزًا لمواجهة الهيمنة الأميركية–الأوروبية، متخذةً من الحوثيين وسيلة لممارسة الضغوط على الإدارة الأميركية”.
الشبكة الصينية–الحوثية
في 4 كانون الثاني/يناير الفائت، أكدُ متحدثُ وزارة الخارجية الصينية، وانغ وينبين، على أهمية حماية السفن المدنية، لكنه لم يَلُمِ “الحوثيين” على تصعيد أزمة البحر الأحمر. وفي 10 يناير/كانون الثاني، انضمت الصين إلى روسيا والجزائر وموزمبيق في الامتناع عن التصويت على قرار مجلس الأمن رقم 2722 الذي دان هجمات “الحوثيين بأشدّ العبارات”. وكشفت مصادرٌ استخباراتيةٌ أميركيةٌ أن “الحوثيين” المدعومين من إيران في اليمن يستخدمون أسلحةً صينية الصنع في هجماتهم على سفن الشحن بالبحر الأحمر، مقابل الامتناع عن مهاجمة السفن الصينية.

وبعد زيارة قادة “الحوثي” للصين عامَي 2023 و2024 لإنشاء سلسلة توريد، تمكنت الجماعة من الحصول على “مكونات ومعدات توجيه متطورة” لصواريخها، وفقًا لقناة “24 الإخبارية” الإسرائيلية. ولفت التقرير إلى أن “الحوثيين” يخططون لاستخدام هذه المكونات في إنتاج مئات صواريخ “كروز” القادرة على ضرب دول الخليج العربي.
وتؤكد البيانات البحرية أن السفن “المرتبطة بالصين” ما تزال تبحر في ممرّات الشحن بالبحر الأحمر دون استهدافٍ متعمّد، رغم وقوع خطأٍ في آذار/مارس 2024 استهدف ناقلة نفط صينية، أعقبته تصريحات “الحوثيين” بأنهم سيتجنبون استهداف السفن الصينية مستقبلًا. وفي تشرين الأول/أكتوبر 2024، فرضت الولايات المتحدة عقوبات على شركتين صينيتين لـ”تزويد الحوثيين ماديًا بمكونات ذات استخدامٍ مزدوج” تعزّز إنتاج الصواريخ والطائرات المسيرة محليًا؛ فقد أُدرجت شركتا “شنتشن ريون تكنولوجي المحدودة” و”شنتشن جينجهون إلكترونيكس المحدودة” على قائمة العقوبات بعد شحنهما “مئات” مكونات أنظمة توجيهٍ صاروخية متقدمة.
وعلى صعيدٍ آخر، يضع الوجود العسكري الصيني في جيبوتي—الذي تأسس عام 2017—بكين في موقعٍ استراتيجي قريب من اليمن، نظريًا يمكِّنها من لعب دورٍ أكثر فاعلية في معالجة اضطراب الملاحة الدولية. إلا أن مجريات الأحداث في البحر الأحمر والمياه المحيطة تدلّ على خلاف ذلك؛ إذ لا تُبدي بكين رغبةً تُذكَر في التدخل إلا إذا واجهت مصالحها الاقتصادية تهديدًا كبيرًا—وهو ما لم يحدث بعد. حاليًا، لا تزال الصين متمسكةً باستراتيجية “التقاعس الحذر”، معطيةً الأولوية لحماية مصالحها المباشرة عبر ضماناتٍ شكليةٍ من “الحوثيين”.
وينهي صالح أبو عوذل حديثه قائلًا إن الصين، مثل “القصبة المكسورة”، لا توفر الأمان لأي طرف أو جماعة؛ وإنَّ أي دعمٍ يقدّمونه يكون في إطار مصلحتها وفق رؤيتها المستقبلية التي تتخذ من الشرق الأوسط—الذي لا تعرف عنه إلا دول الخليج—منصةً لمنافسة الغرب. ولذلك اختصر إلبريدج كولبي، وكيل وزارة الدفاع الأميركية للشؤون السياسية، موقف واشنطن بقوله في تشرين الأول/أكتوبر 2024: “لماذا تساعدنا الصين في معالجة مشكلة الحوثيين، وهي من الواضح تشتت انتباهنا وتستنزف طاقتنا؟!”.
- تعزيزات عسكرية وتوترات في محيط سد تشرين بسوريا.. ماذا يحدث؟
- “دعاة سلفيون” يطلقون حملات متشددة داخل الجامعات السورية
- السوريون يقبلون على ادخار الذهب رغم “جنون” أسعاره.. كم طنًا تم اكتنازها مؤخرًا؟
- سوريا: غضب واستياء بين أبناء الطائفة العلوية بعد تصريحات منسوبة لرامي مخلوف
- بعد احتجازها لأكثر من 5 سنوات.. هل تعود أموال السوريين المودعة في المصارف اللبنانية؟
هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
اشترك الآن اشترك في قائمتنا البريدية ليصلك كل جديد من الحل نت
مقالات ذات صلة

طهران ترفض تصريحات واشنطن حول دورها في سوريا

مسؤول أميركي: لا ثقة بدمشق حتى الآن وهذه أولوياتنا في سوريا

شحنة نفط روسي تصل إلى سوريا خلال أسبوع.. هل أصبحت موسكو بديلًا لإيران؟

اختراقات تُقلق “الحوثيين”.. ما دور كتائب “العائدين” وطارق صالح؟
الأكثر قراءة

وفد سوري يغادر إلى أميركا للمشاركة في اجتماعات صندوق النقد.. لماذا لم يرافقه وزير الاقتصاد؟

وسط غياب المحاسبة.. دوافع طائفية وانتقامية وراء تصاعد القتل ضد المدنيين بسوريا

وداع أصالة وسيرين لصبحي عطري.. الصورة تتحدث والكلمات تدمع!

هوية تُمحى.. استبدال اسم قرية مهجّرة بسوريا يثير مخاوف من تغيير ديموغرافي

هل تنقذ اتفاقية “الأمم المتحدة” البنوك السورية؟.. وخطة مساعدات ضخمة خلال 3 سنوات

نضال الشعار.. خبرة عالمية: هل تكفي لإنعاش اقتصاد سوريا؟
المزيد من مقالات حول في العمق

المؤتمر الكُردي بسوريا: بين رهانات وحدة الصف والاختبارات الإقليمية

كيف تتواطؤ بكين مع “الحوثيين” عبر الأقمار الصناعية؟

الإعلام السوري ما بعد “الأسد”.. هل نحن في مأمن؟

السودان في فخ أردوغان وأطماعه في النفوذ السياسي

العلاقات السورية الأميركية: هل ينجح الشرع في كسب ثقة ترامب؟

اختراقات تُقلق “الحوثيين”.. ما دور كتائب “العائدين” وطارق صالح؟

الهجمات الإسرائيلية في سوريا: مقايضة روسية مقابل تحجيم النفوذ التركي
