مع انتهاء أعمال مؤتمر “وحدة الصف والموقف الكُردي”، أمس السبت، فإن جملة اعتبارات مؤسسة لا يمكن التغاضي عنها، وذلك قبل استباق النتائج المحتملة، وكذا تحليل الوقائع وفهم سياقاتها وملابساتها، فضلا عن توقع السيناريوهات المستقبلية.

المؤتمر المنعقد في القامشلي/قامشلو بشمال وشرق سوريا وبمشاركة أكثر من أربعمائة شخصية سياسية هم ممثلو الأحزاب الكُردية بسوريا وإقليم كُردستان العراق، و”حزب المساواة وديمقراطية الشعوب” التركي، وبحضور لافت من المبعوث الأميركي، سكوت بولز، وقادة عسكريين من التحالف الدولي لمحاربة تنظيم “داعش” الإرهابي، مثّل لحظة تاريخية في سبيل تخطي الانقسام والتشظي الكُردي سياسيا. فمنذ عقود، غلبت على الحالة الكُردية درجة قصوى من الاستقطاب، الأمر الذي انعكست نتائجه في الأزمات البنيوية التي باعدت بين الرؤى التوافقية، وعطلت إمكانية الحلول السياسية وتقوية الموقف الكُردي واصطفافاته.

“مؤتمر تاريخي” لأكراد سوريا

وقد جاء في بيان المؤتمر الختامي، أن الأحزاب الكُردية اتفقت على رؤية سياسية مشتركة تعبر عن إرادة جماعية ومشروع واقعي لحل عادل لقضيتهم، وبناء دولة ديمقراطية لا مركزية، كما تطال هذه الرؤية إلى اعتمادها أساسا للحوار الوطني “سواء بين القوى السياسية الكُردية ذاتها، أو بينها وبين الإدارة الجديدة في دمشق وسائر القوى الوطنية السورية”.

المنصة الرئيسية للمؤتمر الكُردي في القامشلي/قامشلو السبت- “الشرق الأوسط”

إذاً، ما يزال المؤتمر الذي تمخض عنه مبدأيا تصور مغايرة للحالة القديمة المزمنة في المشهد الكُردي السوري، داخل مستقبل صعب ومعقد وفي مناخات يمكن وصفها بـ “المتقلبة والعاصفة”، وبالتالي، لا يمكن الاستجابة للتفاؤل واعتباره أن النهايات اكتملت. بيد أن العمل المستمر لتقوية الجسم السياسي الكُردي بحيث يمكنه التعامل مع الأزمات والصراعات ومواجهة التناقضات بديناميات سياسية مرنة، والقدرة على الحوار وخلق بدائل، وتحديدا ما هو مرحلي وما هو استراتيجي، ستكون ضمانة لعدم تكرار الماضي، ونعاود مشاهد الاستقطاب والانقسام الحزبي بينما تسقط الحقوق الكُردية الوطنية والقومية، وتتآكل المكتسبات المختلفة التي تكبد أثمانها كثيرون.

ولهذا، كان قرار المؤتمر تدشين وفد كُردي مشترك، أبعد من كونه مجرد ضرورة تنظيمية أو عملا إجرائيا إنما هو كل ذلك، بالإضافة إلى اعتباره تأطيرا سياسيا، من شأنه تحقيق مخرجات المؤتمر ومتابعة أهدافه حتى رؤيته في واقع سياسي، والمساهمة في استئناف جولات من الحوار مع الأطراف المختلفة. وسيُعنى الوفد بالتفاوض مع دمشق، ومرجعيته هي تلك المسودة التي اشتملت على 25 نقطة تم نشرها باللغتين العربية والكُردية، وتضمن للكُرد ليس فقط حقوقهم إنما دورهم الرئيسي في صياغة مستقبلهم السياسي والوطني والقومي باعتبارهم جزءا من سوريا، وليس نقطة هامشية أو قطاعات انفصاليا أو أقلية بحاجة لامتيازات مؤقتة.

ولم يفت البيان الختامي للمؤتمر التأكيد على الرؤية الكُردية لسوريا الجديدة، القائمة على التعددية بدلا من السرديات الشمولية، وتتبنى حكما برلمانيا “من دون إقصاء أو تهميش لأي مكون من مكوناتها، بعيدا عن الذهنية الأحادية تفكيرا وممارسة وتصون كرامتهم وحقوقهم دستوريا”.

الهدف توحيد سوريا وليس تقسيمها

بالتالي، هذه اللحظة التأسيسية هي كتلة عضلية في جسد ما زال بحاجة للبناء، سواء باستمرار الحوار الكُردي الكُردي، وإيجاد الآليات التي تجعل منه حوارا قابلا لتحقيق الأفق السياسي والاستمرارية من دون تجلطات مباغتة، تترتب عليها مسارات مأزومة وضيقة وبعيدة عن بعضها البعض، أو بقدرته كذلك على صياغة مواقف يراكم بها حقوقه من خلال الانفتاح على محيطها السياسي المحلي والإقليمي. ولهذا قال قائد “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، مظلوم عبدي، إن حقوق الشعب الكُردي يجب أن تصان في دستور سوريا الجديدة، وأن هدف الأكراد هو بناء دولة ديمقراطية لا مركزية تصون حقوق جميع السوريين.

وأضاف عبدي في بداية المؤتمر: “إن هدف المؤتمر وحدة الصف الكُردي ووحدة سوريا وقوتها وليس تقسيمها”، مؤكدا أن قواته تضطلع بـ”حماية المكتسبات الموجودة بشمال شرقي سوريا”.

واتفقت القيادية الكُردية إلهام أحمد، رئيسة شؤون العلاقات الخارجية في “الإدارة الذاتية”، رأي عبدي، مؤكدة أن الكُرد بلغوا المرحلة التي من شأنها تحديد مصيرهم فيها مع الدولة السورية وضمان حقوقهم الدستورية. وأردفت: “بعد نضال طويل وصلت (روجآفاي) كُردستان إلى مرحلة يجب فيها تحديد مصيره، وتحديد مصيره مع الدولة السورية، وضمان حقوقه في الدستور”.

وذكرت القيادية الكُردية أن الأطراف الكُردية كافة تصطف مع الموقف القائم الذي يعبر عنه المؤتمر، وفي قمتهم الزعيم الكُردي مسعود بارزاني.

ومن جهته، قال حميد دربندي، ممثل بارزاني، ورئيس “الحزب الديمقراطي الكُردستاني”: “ندعم وحدة كُرد سوريا وتحقيق طموحاتهم المشروعة، فهذا المؤتمر خطوة تاريخية نحو الوحدة لإيجاد حل عادل للقضية الكُردية يضمن المشاركة الحقيقية في هذا البلد”، ودعا إلى دستور يضمن الأمن والاستقرار والتعايش والتسامح في البلاد، “فهذا المؤتمر هو خطوة أساسية لبناء مستقبل مشرق لجميع السوريين”.

تراقب دمشق التطورات بحذر شديد. وسيكون الموقف الكُردي الموحد والمتماسك بيئة اختبار للسلطة الانتقالية في دمشق التي يقودها أحمد الشرع، لا سيما في ما يخص قبوله بالتعددية السياسية، والنظام اللا مركزي، وعدم هضم حقوق المكونات المختلفة في سوريا.

وعليه، فإن الوضع الكُردي أمام مرحلة مفصلية وهو في منزلة بين منزلتين، إما استكمال رؤية متجانسة ومنسجمة سياسيا مرنة وبراغماتية وصالحة أن تكون حاملا لوحدة الصف الكُردي، أو إعادة إنتاج الانقسام. ولطالما عانى الكُرد من تشظي سياسي على خلفية التأزم الحزبي السياسي والأيدولوجي، وتباين الولاءات.

وفي هذا الصدد يقول الباحث السياسي السوري في دراسات السلام وحل النزاعات الدولية في “جامعة كوفنتري” ببريطانيا، زارا صالح، إنه رغم أن الخطوة الكُردية جاءت متأخرة، إلا أنها تعتبر خطوة على الطريق الصحيح في توحيد الرؤية والمطالب الكُردية، التي لطالما كان هناك لغط بأن الكُرد ليس لديهم رؤية واضحة تجاه مستقبلهم.

وأردف صالح لـ”الحل نت“، أنه أصبح للكُرد اليوم رؤية وورقة سياسية واضحة يستطيعون من خلال هذا الوفد الذي سوف يتشكل لاحقا عن هذا المؤتمر، مناقشة مطالبهم مع السلطات بدمشق.

وفي تقدير صالح، فإن هذا بكل تأكيد سوف ينعكس إيجابا على الوضع الكُردي والسوري بشكل عام، وهذا هو المهم لأنه سيرسم ملامح سوريا المستقبل نحو اللا مركزية بدلا من المركزية والشمولية الاستبدادية ذات اللون الواحد.

“رؤية مقبولة بالمجمل”

إجمالا، المؤتمر كشف عن رغبة كُردية للتوافق، غير أن الاختبار الحقيقي سيكون في مدى قدرة هذه الرغبة على كبح الصراعات القديمة حول النفوذ والتمثيل. ويمكن القول إنه من الناحية المبدأية، تتوافر شروط تكتل كُردي موحد ومتجانس لجهة تثبيت المكاسب السياسية والميدانية والإدارية في شمال شرق سوريا، وهي بحاجة لتسوية سياسية نهائية. ووجود قوى موحدة أمام دمشق أو أمام القوى الإقليمية والدولية، تظل الضمانة الوحيدة للإبقاء على تلك المكاسب والتوصل إلى التسوية المفترضة والمطلوبة.

حتما، تراقب دمشق التطورات بحذر شديد. وسيكون الموقف الكُردي الموحد والمتماسك بيئة اختبار للسلطة الانتقالية في دمشق التي يقودها أحمد الشرع، لا سيما في ما يخص قبوله بالتعددية السياسية، والنظام اللا مركزي، وعدم هضم حقوق المكونات المختلفة في سوريا، وتأسيس قاعدة مدنية مواطنية ليس فيها تهميش أو إقصاء ونبذ، ومحاولات تصفية رمزية ومعنوية وكذا مادية.

فيما عقبت الرئاسة السورية في بيان، اليوم الأحد، على المؤتمر الكُردي، بما يحمل عدم قبولها الضمني والصريح في آن للمستجدات أمس، مطالبة بأي أي تفاهمات ينبغي أن تتم بروح وطنية جامعة، بعيدا عن أي “مشاريع انفصالية أو إقصائية”، وأكدت دمشق رفضها لما وصفته بفرض “واقع تقسيمي أو إقامة كيانات منفصلة تحت مسميات الفيدرالية أو الإدارة الذاتية دون توافق وطني”، مشددة على أن وحدة سوريا هي “خط أحمر”، وأي تجاوز لذلك يُعد خروجا عن الإجماع الوطني والهوية الجامعة لسوريا.

حضور حاشد في المؤتمر الكُردي بالقامشلي/قامشلو السبت- “الشرق الأوسط”

وزعم البيان أن ثمة مخاوف جراء “بعض الممارسات التي تهدف إلى إحداث تغييرات ديمغرافية في بعض المناطق، مما يهدد النسيج الاجتماعي السوري ويضعف فرص الحل السياسي الشامل”. محذرة من تعطيل عمل مؤسساتها في المناطق الواقعة تحت سيطرة “قسد”، وقالت إن فرض قيود على وصول الخدمات للمواطنين، واحتكار الموارد الوطنية خارج إطار الدولة، يهدد السيادة الوطنية ويساهم في تعميق الانقسام.

فضلا عن الموقف التركي الذي ينظر بعداء صريح لتلك الخطوة، في حين يعتبر أي تقدم سياسي للكُرد في سوريا على وجه الخصوص بمثابة تهديد صريح ومباشر للأمن القومي، كما يقوض ذلك طموحه في التمدد وملء الفراغ الروسي والإيراني بسوريا. لكنها تحت وطأة ضغوط مختلفة وربما تفاهمات مؤقتة كذلك قد تتراجع عن المسارعة في التصريح بهذا العداء، وترجمته في صورة تدخلات عسكريتارية وهجمات على المنشآت المدنية كما في السابق على مناطق “الإدارة الذاتية” بشمال شرق سوريا. لكنها ستظل تنظر بعين الريبة لأي محاولات كُردية لها صفة الشرعية وطبيعتها الاستراتيجية عند حدودها الجنوبية.

المؤتمر الكُردي لاقى زخما غربيا بحضور الأطراف الدولية، الأمر الذي يمكن أن ينظر له ليس فقط على مستوى الدعم للكُرد، إنما الناحية الإيجابية الأكثر أهمية ودلالة هي في وجود طرف كُردي موحد يمكن للأطراف الخارجية التعاطي معه سياسيا وفي إطار أي عمليات تفاوض مرحلية أو استراتيجية، محدودة كانت أو كبرى. وعليه، فإن ذلك يعزز من ثبات الموقف الأوروبي والأميركي تجاه الملف الكُردي، ويجعله ضمن أولوياته وليس مجرد ورقة أمنية أو وظيفية.

بالعودة إلى الباحث السياسي، زارا صالح، فإن ما حصل من مجازر وانتهاكات في الساحل السوري بحق العلويين “يعيدنا إلى نقطة الصفر حول مستقبل سوريا، فضلا عن أن العامل الإقليمي والدولي حاليا سيكون مناسبا لطرح الرؤية الكُردية الوطنية السورية، التي تبشر بعدم تكرار تجربة الدكتاتورية كما حصل قبل نحو ستة عقود من حكم الحزب الواحد (حزب البعث)”.

الوثيقة الكُردية ستكون مقبولة ليس فقط من قبل الطرف الدولية والأوروبية، وإنما على المستوى السوري، حيث سيكون هناك ترحيب من خلال بعض الأصوات الديمقراطية السورية، لأن الوثيقة ليست قومية متطرفة، بل هي مطلب طبيعي لكل السوريين، يعني أن تكون سوريا دولة برلمانية تعددية لا مركزية، وفق تقدير صالح، الذي لفت إلى أن هذه الوثيقة لا تتعارض مع ما تم بين أحمد الشرع ومظلوم عبدي.

في المحصلة، فإن الطريق أمام الكُرد لتثبيت مكتسباتهم أو تحقيق أفق سياسي مستقر ودائم يبدو صعبا وشاقا. فدمشق ما تزال رافضة للا مركزية وتصفها بـ”التقسيم”، وكذا مترددة في مواقفها من التعددية السياسية، كما أن أنقرة ترفض أي وجود لكيان كُردي مستقل أو شبه مستقل متاخمة لحدودها. أما الغرب، فدوره سيبقى مرهونا بحدود براغماتية تتمثل في ارتباط الملف الكُردي بمصالح محددة ومباشرة منها النفوذ الإيراني أو الروسي.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
أقدم
الأحدث الأكثر تقييم
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات