آخر “الربيع”: هل العسكر والإسلاميون قَدَر العرب؟

آخر “الربيع”: هل العسكر والإسلاميون قَدَر العرب؟

أُطلق مُصطلح “الربيع العربي” على عدد من الثورات الشعبية، التي اجتاحت العواصم العربية في السنوات العشر الماضية، في البداية تونس ومصر ثم اليمن وليبيا وسوريا، ولاحقا انضمت الجزائر والسودان والعراق ولبنان، لكنّ هذا المصطلح يطرح كثيرا من الإشكاليات، ففي البداية أطلقته وسائل الإعلام الأجنبية، مُشبهةً ما يحدث في العالم العربي بـ”ربيع براغ”، أو “ربيع الديموقراطية” مع الثورات الملوّنة في أوروبا الشرقية: ها هم العرب ينتقلون إلى ركب الحضارة، ويطالبون بالديموقراطية الليبرالية التي لدينا! وما لبث أن تلقفته وسائل الإعلام المحلية هي الأُخرى، للإشارة إلى ثورات “الشباب الطاهر البريء”، الذي لا يعرف حقيقة الأشياء، المُغرر به، أو الذي تم تدريبه في الخارج لتنفيذ أجندات غربية.

إلا أن وقع المصطلح على آذان من اختبروا الثورات قد لا يختلف كثيرا عن وقع المُسميات الجميلة، التي تُطلق عادةً على العمليات العسكرية ذات النتائج الكارثية، من قبيل “استعادة الأمل”، أي العملية الأمريكية في الصومال، أو “الحرية الدائمة” وهي عملية الجيش الأميركي في  أفغانستان عام 2001، فثورات “الربيع العربي” انتهت كلها نهايات كارثية.

أفضت الثورة السورية إلى مقتل نصف مليون شخص حتى عام 2018، بحسب المرصد السوري لحقوق الإنسان، ونزوح حوالي 13 مليون آخرين خارج البلاد وداخلها، بحسب مفوضية الأمم المتحدة؛ في اليمن انهارت الدولة تماما بعد اندلاع الحرب الأهلية في البلاد، ومن ثمّ تدخّل قوات التحالف العربي، وتُقدّر الأمم المتحدة أن عدد ضحايا الصراع اليمني وصل إلى 377 ألف شخص، وأكثر من مليون نازح؛ ليبيا شهدت بدورها حربا أهلية دامية، راح ضحيتها عشرات الآلاف؛ فيما أدى حكم الإخوان المسلمين في مصر إلى اضطرابات اجتماعية عنيفة، انتهت بالفض الدموي لاعتصام رابعة، وموجة عنف وإرهاب ضد كنائس ومنشآت العامة.

“لماذا فشلت ثورات الربيع العربي؟” سؤال يطرحه كثيرون، ولكنه قد يكون سؤالا مغلوطا بالأساس، لأننا لا نعرف بالتحديد ما النموذج الذي من الممكن أن نقيس عليه الثورات العربية، لنقيّم نجاحها أو فشلها، خاصة أنها بالأساس كانت تحاول الانطلاق من أرضية غير أيديولوجية، بل ومضادة للأيديولوجيا. كما أن طبيعة المشاركين فيها، والشعارات الأخلاقية المرفوعة، وغياب الكيانات السياسية الشعبية الفاعلة، لا يساعدنا حقا في الحديث عن برنامج سياسي تنجح الثورة بتحقيقه أو تفشل، فإن كانت دعوات إسقاط رؤوس الأنظمة (مبارك، زين العابدين، بوتفليقة، البشير، عبد الله صالح) هي البرنامج الوحيد، فهي حقا قد نجحت!

بديلا عن هذا السؤال يمكننا الانطلاق من أسئلة أخرى، مثلا لماذا انتهت ثورات الربيع العربي إلى العسكرة أو الأسلمة؟ ولماذا سقطت دول واستطاعت دول أخرى المحافظة على وجودها، بعد تخلّصها من رأس النظام القائم؟

قد تكون الإجابة على هذين السؤالين تتطلّب التفكير في كل من “الدولة” و”الثورة” في العالم العربي، فالعسكرة، بكل ما يرتبط بها من قمع، كانت الطريقة التي رمّمت بها الدول كيانها؛ فيما “جنحت” الثورات في كثير من الأحيان نحو الأسلمة، وكأن هذا هو الطريق “الطبيعي” لكل محاولات التغيير. لماذا يحدث هذا فعلا؟

التاريخ المبكّر للدولة: تفليح وتمفصل وزبائنية

نشأت دولة التحرر الوطني في أعقاب انتهاء الحرب العالمية الثانية، التي خرجت منها الإمبراطوريات الاستعمارية (بريطانيا وفرنسا) منتصرة، ولكن شبه مُفلسة، بحيث لم يعد بإمكانها إبقاء سيطرتها على مناطق نفوذها القديمة، ورأت مهمة الاحتفاظ بالمستعمرات التابعة أمرا غير ممكن ومكلفا للغاية. لكن كيف كانت تركة الاستعمار بعد انسحابه؟

يجادل المفكر المصري نزيه الأيوبي، في كتابه “تضخيم الدولة العربية”، بأن الاستعمار ساعد على تواجد أكثر من نمط إنتاج اقتصادي في اللحظة نفسها، إذ تواجد نمط الإنتاج شبه الاقطاعي والقبلي والرأسمالية الزراعية والصناعية معا، وأطلق على هذه الظاهرة اسم “التمفصل”، أي أن كل نمط انتاج يقوم بجزء من المهمة، بهدف نهائي هو إمداد المستعمر بالمنتج الذي يحتاجه، عن طريق التجارة ومن خلال تقسيم العمل الدولي.

في مصر على سبيل المثال تجاور ملاك الأراضي الصغار مع الرأسمالية الزراعية الكبيرة، التي امتلكت النسبة الأكبر من الأراضي والمحاصيل ذات الإنتاج المحدد (في أغلبه قطن وحبوب يطلبها السوق العالمي)، وهي الطبقة نفسها التي ضغطت فيما بعد للاتجاه إلى التصنيع، وإن كان تصنيعا خفيفا أو استهلاكيا في المقام الأول، نظرا لتقييد الاستعمار إمكانية تكوّن طبقة واحدة مهيمنة.

تجادل الباحثة الأميركية ليزا اندرسون، الرئيسة السابقة للجامعة الأميركية في القاهرة، أن تشكّل الدولة، في مجتمعات تكون فيها القرابة هي النمط السائد للتنظيم الاجتماعي، غالبا ما يؤدي في البداية إلى خلق طبقة من صغار الفلاحين. عملية “التفليح” هذه تؤدي إلى وضع سكان الريف تحت رقابة شديدة الصرامة من الدولة، وذلك عن طريق النظام المسمى بـ”الزبائنية”، المكوّن من راعين، يلعبون دور الوسطاء بين الدولة و”الزبائن”، أي عموم رعايا الدولة، فيصبح “الزبائن” أسهل تعرّضا للاستغلال، وأكثر اتكالية عمّا كانوا عليه قبل توسيع جهاز الدولة البيروقراطي.

تؤدي عملية التمفصل الاقتصادية، والنظام الزبائني، إلى نشوء تشكيلة اجتماعية شديدة السيولة وغير واضحة المعالم الطبقية، تقوم فيها فئة حاكمة محلية باحتكار السلطة، ولا تسمح بخروجها من بين أيديها، عن طريق بناء شبكة من التحالفات الزبائنية والعصبوية، واستخدام التقارب السياسي تارة، والعزل تارة أخرى. وسياستا التحالف والعزل غير ممكنتين دون ماكينة أمنية وعسكرية قوية، يعمل من خلفها عدد كبير من الوسطاء والموظفين البيروقراطيين.

يعلّق المفكر والمؤرخ المغربي عبد الله العروي على ذلك، في كتابه “مفهوم الدولة”، بالقول: “إن المرء يجد أن الدولة العربية المعاصرة مهووسة بالسلطة والقوة، وقد تكون في الواقع قوية في جسمها. غير أن عنف هذه الدولة هو في حقيقة الأمر مؤشر على ضعفها وهشاشتها: فقد يكون الجهاز القسري قويا، لكن الدولة بمجملها ضعيفة، لأنها تفتقر إلى العقلانية، ولأنها تفتقر إلى الدعم الأخلاقي والأيديولوجي والتربوي”.

العروي يرى أيضا أن مفهوم “الحرية” في الفكر الإسلامي كان مختلفا عن مثيله في الفكر الغربي، ففي الغرب أُرفقت الحرية بمفهوم القانون، أي أنها أصبحت مفهوما سياسيا واجتماعيا، بينما في الفكر الإسلامي كانت فكرة غيبية بشكلٍ ما، ولم يهتم المفكرون العرب بصياغة تخريجات مناسبة لإعادة تأويلها عربيا بشكل سياسي، وعليه فقد ظهرت مؤسسات الدولة وكأنها مرض غريب في جسد الأمة، فلم ترتبط معه نفسيا، وظلت بالنسبة للمجتمع كيانا مُستهجنا، يربط المجتمع نفسه به من خلال وسيط زبائني وبيروقراطي، للتعامل مع القضايا الاقتصادية والتنظيمية شديدة العمومية فقط.

البنية الاقتصادية المتمفصلةـ والمواقع الطبقية السائلة، وفقدان الأساس النظري والقانوني لتبرير دولة عربية جديدة، وكذلك تحالف قوى الاستعمار مع الطبقات البرجوازية الحضرية، والتي لم تمتلك تجانسا عضويا أو أيديولوجيا واضحة، ذات معالم معبّرة عن المجتمع بأكمله، كل هذا أدى لاضطرابات اجتماعية كبيرة، أدت لتدخل الجيش، القوة المنظّمة الوحيدة بشكل كافٍ في المجتمع، بالتعاون مع فئات من المثقفين، لفرض واقع جديد بالقوة، تبنّته قوى الشعب في القرى، والجماهير التي لم تجد لها موقعا في النظام القديم. وتلك كانت حقبة “الثورات” المرتبطة دائما بانقلابات عسكرية، والتي بدأت في سوريا مع انقلاب حسني الزعيم عام 1949، وكانت أهم فصولها في مصر، مع “ثورة يونيو” عام 1952.

صفقة عبد الناصر: أغانٍ في حب البيروقراطية

غنى عبد الحليم حافظ عام 1966 أغنية شهيرة بعنوان “صورة”، من تأليف صلاح جاهين، وفيها يصف صورة الشعب والمجتمع المصري بعد “الثورة”، ويذكر فيها الفلاحين والعمال والمهندسين والضباط وبالتأكيد البيروقراطية الجديدة: “ورجال سكر على مكاتبها تخدم بالروح لما تعمل”. أُذيعت الاغنية في حفل عيد الثورة، قبل عام واحد من هزيمة 67، ولم تُغن بعدها مجددا!

ظهر الضباط الأحرار في مصر بحكم الضرورة، فهم كانوا الأكثر تنظيما وتعليما، والأكثر تجاوزا للخطوط الأيديولوجية وحتى الطبقية، تحت شعار طرد المستعمر وإعادة تأسيس حالة وطنية مستقلة.

بعد هزيمة 67 اتجه نظام عبد ناصر لنزع الفاعلية السياسية عن العسكريين، وإدماجهم في نخب من برجوازية الدولة والبيروقراطية، وتصاعدت تلك الخطوات بداية عصر الانفتاح الساداتي، وهو ما مهّد لانتقال سلس للسلطة من أنور السادات إلى حسني مبارك، الذي استمر في نزع مخالب العسكريين من الجسد السياسي للنظام.

تبلور النظام السياسي المصري من خلال بناء جهاز بيروقراطي جديد، ومن ورائه فئات عديدة مرتبطة به، سُمّيت بالعرف المصري “طبقة وسطى”، يمكنها أن تضمن استقرار النظام وفاعليته في المجتمع بأسره، فالقطاع العام بحسب المفكر المصري جلال أمين كان قد تنامى بسرعة مهولة في فترة الخمسينات و الستينات، الي أن وصلت حصته إلى نسبة الاقتصاد الكلي 75 بالمئة.

 يقول الباحث المصري سامر سليمان في كتابه “النظام القوي والدولة الضعيفة” :”يعتقد عدد من الباحثين في السياسة المصرية أن عبد الناصر أسس عقدا غير مكتوب بين الدولة والمجتمع، ينص على أن الدولة ملتزمة بتقديم بعض الخدمات للشعب، في مقابل أن يتقبّل هذا الشعب النظام السياسي، ويمتنع عن المشاركة في السياسة بشكل مستقل.. فإذا كان العمل حق، فإن الدولة هي التي تقوم بتوفير هذا الحق، وإذا كان العلاج حق، فإن الدولة هي التي تتولى القيام به أيضا، وهذا ما أدى إلى نمو غير مسبوق في جهاز الدولة، وإلى نفوذ متصاعد للبيروقراطية”.

 ويمضي سليمان في تحليله بالقول إن دولة عبد الناصر كانت تقوم بتمويل النمو المتسارع في بيروقراطية الدولة، من خلال شكل من أشكال الاقتصاد الريعي. إنها دولة رعوية لكنها ريعية، توفّر عددا من الحقوق الاجتماعية لفئات بعينها، تحظى بالأمان الوظيفي والمرتب الثابت والحماية الاجتماعية. لكنّ تأمين تلك الحقوق كان في الوقت نفسه شديدة التكلُفة، وهو ما جعل ارتباط الدولة المصرية بالعالم الخارجي أشد وطأة، بسبب حاجتها للمعونات والمساعدات، وظهر هذا بوضوح شديد لدى اتجاه النظام لبناء مشروع السد العالي.

 بنهاية الستينات ظهرت عيوب ومشكلات تلك البيروقراطية، فهي تصبح منعدمة الكفاءة وشديدة التعقيد مع مرور الزمن، ما يمنع تطور ونمو القطاع الخاص، كما يشوبها الفساد والمحسوبية والانفراد بالقرار الإداري من قبل كبار الموظفين. وبالتالي فإن نتائجها في التنمية لم تكن كافية لتوزيع الثروة على غالبية قطاعات الشعب، وخصوصا في المناطق الأكثر هامشية، والأقل في التطور الصناعي والتكنولوجي. “صفقة عبد الناصر” مع الشعب لم تكن قابلة للتحقيق على المدى البعيد، وكانت تحمل في ذاتها عوامل فشلها وتعفّنها. ويمكن تعميم هذه النتائج على معظم الدول العربية، التي شهدت صفقات مماثلة.

ولكن، إذ كانت البيروقراطية عديمة الفائدة وفاشلة في التنمية، فلماذا لم تتم هيكلتها؟ بل بالأحرى لماذا اتجهت للاتساع والتضخّم تدريجياً حتى فترة التسعينيات؟

قد لا تكون هنالك إجابة على هذا السؤال أكثر من السُلطة والولاءات، فالنظام السياسي يعلم أن الجهاز البيروقراطي غير فعّال، بل ومكلف للغاية، وخصوصا في جوانبه الأمنية، لكنه مضطر للإبقاء عليه، بغض النظر عن عيوبه وفساده، لضمان ولاء المديرين والموظفين الكبار، وبالتالي ما سمّي “الطبقة الوسطى” بأكمله، على امتداد شرائحه.

تعرّضت مصر لأزمة اقتصادية خانقة في نهاية السبعينيات، لذلك لجأت لصندوق النقد الدولي. وعند تنفيذ متطلبات الصندوق، من تقليل الدعم والمصروفات الحكومية، اندلعت أحداث كانون الثاني/يناير 1977، والتي قادتها “الطبقة الوسطى”/البيروقراطية المصرية، والتحقت بها فئات شعبية كثيرة، ما أدى لأحداث عنف في المدن.

 بعد سحق هذا التمرّد، اتجهت سياسة الرئيس مبارك في الثمانينات والتسعينات لدعم “محدودي الدخل”، وتقديم علاوات على الدخل الأساسي كل عام في عيد العمال. والمقصود هنا من محدودي الدخل “الطبقة الوسطى” حصرا (موظفي الدولة). دعم هذه “الطبقة” دعم نظام مبارك لثلاثين عاما.

لذلك اتجهت الدولة للإبقاء على البيروقراطية قدر الإمكان، وحماية “طبقتها”، بحسب ما يسمح الظرف الاقتصادي العالمي، والتقلّب في موارد ودخل الدولة، لتدعيم السلطة السياسية وضمان ولاء قطاع من الشعب، وإن شكّل نسبة 20 بالمئة من السكان فقط. عَبّرت تلك السياسة عن فقدان كامل للهيمنة الطبقية والسياسية على المجتمع، واستعانة كاملة بأدوات القسر لسد الفجوة في شبكة الولاءات.

ما بين الدولة والثورة: جماعة بلا حزب، حزب بلا جماعة

شكّلت نهاية التسعينات في مصر مرحلة فاصلة في تاريخ دولة التحرر الوطني، التي أسسها عبد ناصر والضباط الأحرار، فتكاليف الرعاية الاجتماعية عرّضت ميزانية الدولة المصرية للخطر، وإلى التدخّل الدائم من صندوق النقد الدولي ومجموعات المانحين الدوليين في السبعينات ثم الثمانينات، وحتى اندلاع حرب الخليج الثانية، التي موّلت الخزينة العامة، وشطبت جزءا من المديونية الحكومية. لكنّ الدولة منذ ذلك الحين اتجهت إلى نمط آخر، وهو الاعتماد على الرأسمالية الصاعدة من رجال الأعمال الجدد، وخصوصا في دوائر الحزب الوطني الحاكم، الذين استفادوا من انفتاح السبعينيات.

التحوّل من دولة تعتمد على الريع في صورتها الأولى مع عبد الناصر، إلى دولة تعتمد على الضرائب في بداية الألفية، أدى إلى فوضى طبقية داخل المجتمع المصري، الذي صاغه العقد الاجتماعي القديم، أو “صفقة ناصر” المذكورة أعلاه. فما كان يسمى “الطبقة الوسطى” انقسم إلى عمالة في القطاع الخاص، وأخرى متوسطة عُليا، استفادت من الصعود الرأسمالي والمكاسب الجديدة؛ وشريحة أخرى فقدت مصدر أمانها الاجتماعي، وأصبحت ساخطة على البيروقراطية والقطاع الخاص، ومن تلك الفئات ظهرت حركة “كفاية”، لشجب تشابك السُلطة والمال، خصوصا في شراء أصوات الناخبين؛ وهيمنة أقلية جديدة على الموارد الاجتماعية، التي كانت تحتكرها الدولة فيما سبق.

وبتعاظم دور الرأسمالية ازدادت حالة الانفصال المجتمعية بين “الطبقة الوسطى” والدولة، وهو ما أدى إلى تفكك شبكات الولاء، التي كانت تُعوّض غياب الهيمنة الاجتماعية في الماضي.

تُعرّف “الهيمنة” بوصفها مجموعة من الأفكار والقيم التي تُقنع بها طبقة طبقة أخرى، وعليه فالطبقة الخاضعة للهيمنة تُسلم بقيادة الطبقة الحاكمة، وتثق بها، وتُساعدها على تحقيق خططها. وهكذا تعمل الهيمنة بوصفها سردية تجمع الدولة ككل، أي عناصرها السياسية والمدنية. ولو أردنا ان نتخيّل شكل الدولة الحديثة، فهي أقرب ما تكون إلى المسرح، تؤدي الحكومة عرضا على المنصة، المُخرج والمُلقن هو النظام الحاكم، وفي صالة العرض يتواجد المجتمع بأسره، في الصفوف الأولى الطبقات العليا المتحالفة مع النظام، وينظّم العرض عدد كبير من البيروقراطيين، وتضمن أمنه كتائب من عناصر الأجهزة الأمنية.

هيمنة طبقة اجتماعية على التشكيلة الاجتماعية ككل هي العنصر البنيوي المفقود في تجربة دولة التحرر الوطني العربية، فالدولة بَنَت استقرارها النسبي على مجموعة تحالفات، من النمط العصبوي والزبائني، ولم تسمح بتطور تنظيمات اجتماعية مستقلة، يمكن بالتفاعل معها فرض الهيمنة.

يُعوّض غياب هيمنة الدولة بنوع آخر من الهيمنة “المعارضة”، أي الإسلاموية، التي تخرج من الطبقات التي استثنتها عملية التنمية، ولم تضعها الدولة في الحُسبان، أو التي لم ترض بالتغييرات المستمرة في سياسة الدولة وتحالفاتها، ولم تعد عليها تلك التنمية أو تغيّر السياسات بالفائدة المباشرة.

في فيلم “طيور الظلام” الشهير لعادل إمام ووحيد حامد، يقف المحامي المحسوب على النظام الحاكم (فتحي نوفل) في مواجهة المحامي المحسوب على الجماعات الإسلامية (على الزناتي)، ويخبره: “أنتم جماعة بدون حزب، ونحن حزب بلا جماعة”. هذه الجملة شديدة التعبير عن فقدان الدولة العربية لفاعلية المجتمع، من ثم لعنصر الهيمنة، ولقدرة الجماعات الإسلامية على تحقيق هيمنة بديلة، وحشد الفاعلين على اختلاف طبقاتهم، من ثم مواجهة النظام الحاكم في النهاية. وهو ما شهدته مصر مع تعاظم نفوذ جماعة الاخوان المسلمين داخل النقابات على مدار التسعينات وحتى أول الألفية، وله نظائر في معظم الدول العربية.

“الربيع” وما بعده: لعبة الإسلاميين والعسكر

فلنعد إلى السؤال المبدئي في مقدمة المقالة: لماذا انتهت تجارب الربيع العربي إلى العسكرة أو الأسلمة؟

ولدت الدولة العربية المعاصرة مأزومة بالأساس، وفاقمت من أزماتها بجعل مجتمعها المدني أكثر ضعفاً وهشاشةً، فمن خلال ربط أجهزة الإدارة المحلية بالأجهزة الأمنية، ووصول مسؤوليها إلى مناصبهم بالتعيين المباشر، وكذلك تفكيك أي رابطة اجتماعية أو نقابية أو حتى عمل عام، حوّلت الأنظمة العربية مجتمعاتها إلى تجمّع من الأفراد والجماعات الطائفية والعُصب، يكافح كل منها إما للترقي الطبقي أو مجرد البقاء، بلا أمل في تغيير الواقع. وباندلاع ثورات الربيع العربي، فشلت تلك المجتمعات في بناء بدائل وأحزاب سياسية خاصة بها على أرضية من التجمعات المدنية، فهي لم تعرف تجارب مدنية منتجة وصحيّة، تستطيع من خلالها ممارسة حرية الرأي والتعبير والاختيار، بل أن أشد ما لاحظه أبناء الثورة أنفسهم هو أنهم لم يكونوا قادرين على الاستماع لبعضهم، أو حتى إدارة حوار والوصول إلى نتيجة.

هذا الضعف المجتمعي لم يكن فقط خطرا على المجتمع، بوضعه تحت إمكانيات عودة الأنظمة العسكرية، في صورتها الأكثر وضوحا والأشد عنفا، لكنه كذلك كان خطرا على الوجود الاجتماعي والسياسي للكيانات الوطنية نفسها، ومثّل خطوتين للخلف، فالتنظيم المجتمعي، الذي يمكن أن يعوّض أزمات وتفكك تلك الكيانات، كان متوافرا عند الإسلاميين فقط، الذين كانوا قادرين على توجيه دفة الفعل السياسي، سواءً في التجارب الثورية السلمية، مثل مصر وتونس؛ أو في التجارب الأكثر عنفا في سوريا وليبيا.

هكذا لم يكن أمام الدولة إلا العودة للعسكرة، بوصف العسكر هم الفئة القوية، القادرة، بامتلاكها للأجهزة العنفيّة، على إطالة عمر السلطة السياسية، حتى لو كانت عاجزة عن تحقيق الهيمنة؛ كما لم يكن أمام الثورة إلا الأسلمة، بوصف الإسلاميين التنظيم الاجتماعي الوحيد القادر على فرض الهيمنة، وسط الاضطراب الاجتماعي الكبير، الذي أدت إليه الثورات، حتى لو كانوا عاجزين فعليا عن مواجهة عنف الدولة بوسائل عسكرية.
فشل الإسلاميون في سوريا ومصر في إسقاط الدولة، رغم لجوئهم إلى كل الإمكانيات العسكرية التي توفّرت لهم، من تشكيل الجيوش والميليشيات، وحتى العمليات الإرهابية؛ فيما فشل العسكر في فرض هيمنة على الشعوب التي أرهقتها الأزمات، رغم قدرتهم على سحق الإسلاميين. في بلدان أخرى، مثل ليبيا واليمن، مازال الطرفان، العسكر والإسلاميون، موجودين، وسط دمار اجتماعي شامل، لا مكان فيه لدولة أو ثورة.

ربما كان السؤال الأمثل في هذا الظرف: هل البنية الأساسية للمجتمعات العربية، منذ الاستقلال، لا تُنتج إلا العسكر والإسلاميين؟ وهل يمكن لقوى مدنية أن تتجاوز هذا الاستعصاء البنيوي؟

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.