تشير أحدث الإحصاءات إلى مقتل 151 امرأة في مصر في الفترة بين تشرين الأول/أكتوبر 2021 والشهر نفسه من عام 2022. أكثر من نصفهن قتلن على يد الأزواج، يليهم أفراد أسر الضحايا من الذكور، ليتبقى نحو عشرة بالمئة قتلن على يد نساء من الأسرة وغرباء من الأصدقاء والجيران وغيرهم. المعدل مرشّح للزيادة، فقد جاء عدد النساء المقتولات في الربع الأول من عام 2023 أعلى من نظيره في عام 2022، وقد ارتكب بعض جرائم القتل في وضح النهار وفي الشارع العام، وسبّب صدمة اجتماعية في وقته، إلا أن المعدلات المتزايدة للقتل لا تنال اهتماما متناسبا في الجدل الاجتماعي والإعلامي، أو في الخطاب الرسمي، رغم  تخصيصه حيّزا متزايدا لأحاديث عامة عن دعم المرأة المصرية، وتوجّه السياسات الرسمية لتحسين أوضاعها.

تجنّب نقاش الجرائم، التي تعتبر عالميا نوعا له مواصفات وخصائص معينة femicide، وأهمها استهداف الضحية على أساس جنسها، يبدو أقرب لتجنّب الإشارة لوصمة في جبين مجتمع، يسوّق نفسه على أسس محافظة اجتماعيا، ويفتخر بالتمسّك بمرجعيته القيمية الدينية. شيوخ مصر ودعاتها لا يكفون عن ذكر تكريم الدين الإسلامي للمرأة، بتعيين الرجال قوّامين على شؤونها واحتياجاتها، وكذلك حمايتها التي لا تنفصل عن استحقاقات القوامة، وبذلك فالمرأة في مجتمعها المحافظ يجب أن تكون منزّهة عن الحاجة، يحميها القوامون من الاعتداء عليها. كذلك تؤكد القيم الأبوية، المحفوظة في الذاكرة الاجتماعية المصرية، على أن حماية نساء العائلة والأسرة من السمات المحورية للرجولة، وربما ترقى لمرتبة طقس أساسي لتعميدها.

جرائم قتل النساء تطيح بهذه الافتراضات المحافظة وتشير لنقيضها، مما يرغب المحافظون في إشاحة النظر عنه. كما أنها تبدو أشبه بقمة جبل جليد، في بلد تبلغ فيه معدلات العنف الجنسي ضد النساء واحدا من أعلى المعدلات العالمية. من التحرّش، مرورا بالضرب والاعتداء البدني والقتل في الفضاء العام، وصولا للجريمة الإلكترونية. وهي جرائم إن لم يرتكبها ذكور الدائرة المقرّبة من النساء الضحايا، فهي تتم وسط حالة من انكفاء المجتمع عن تقديم أي شكل من أشكال الحماية. وكأن المجتمع المصري قد رفع حمايته بشكل كامل عن النساء، وتركهن لمصيرهن في مواجهة حالة من فوضى العنف الذكوري. وهو أمر مستغرب للغاية في مجتمع يدّعي بأنه قائم على قيم مثل الشهامة والرجولة والحميّة والشرف، أليست النساء المعتدى عليهن بنات وأخوات وزوجات وأمهات الذكور المحافظين؟ لماذا يعجز هؤلاء إذن، أو حتى يجدون أنفسهم غير معنيين، بحماية النساء؟ وإذا كانت القيم الأبوية تنبني أساسا على حماية انتساب النساء لمجموعة أهلية معينة، فكيف يتم تأويل تلك القيم حاليا، في شرط يمكن فيه لأي ذكر انتهاك أية امرأة يقابلها في الفضاء العام؟ هل فقد المجتمع المصري الإطار الأخلاقي، الذي من المفترض أن يؤمن حدا أدنى من حماية النساء، على الأقل من الذكور “الأغراب”؟

رأسمالية العشوائيات: نساء عصر “الانفتاح”

يمكن البحث عن التغيرات في الإطار الأخلاقي المحافظ للمجتمع المصري ابتداء من التحول الرأسمالي العشوائي بعد الفترة الناصرية. فقد ضبطت الدولة الناصرية عملية دخول النساء التدريجي لسوق العمل، عن طريق التوظيف المُهندَس في مؤسساتها البيروقراطية والصناعية، وحماية العاملات في البيئة الحضرية من خلال قوانين العمل الرسمي. إلا أن تفاقم الأزمة الاقتصادية آنذاك فتح المجال للقطاع الخاص، الذي انقسم لقلّة من كبار المستثمرين، تعمل تحت سيطرة الدولة؛ وفئة أوسع من صغار المستثمرين والتجّار والحرفيين، لجأت لسوق عمل غير رسمي، فشلت الدولة في حوكمته، حتى بلغت مساهمته ما يقرب 40 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2018.

كانت تجربة عمل أغلبية النساء خارج نطاق الحماية الرسمية، تحت ضغط الاحتياج الاقتصادي لأسرهن أو بدونه، بداية للمواجهة مع علاقات القوى الذكورية دون سند قانوني أو حصانة طبقية، وبداية لانهزام المنظومة المحافظة تحت تهديد انقطاع الدخل الإضافي الذي تحققه النساء، في مجتمع تنهار مؤسساته العامة للتعليم والصحة والنقل، ويحتاج لتمويل ما استجد من بدائل لها، مثل ظاهرة الدروس الخصوصية والعلاج الخاص.

لا يعني فشل الحوكمة فقط هروب النشاط الاقتصادي الخاص وغير الرسمي من الالتزام بقوانين العمل أو المحاسبة الضريبية، بل أيضا بات يساوي، بالنسبة للنساء وأسرهن المحافظة، مقايضة فرصة العمل بقبول الانتهاكات الجنسية من الأعلى نفوذا، في غياب الجهات الرقابية الرسمية وتخاذلها؛ والقبول بالعمل في غياب الأجر المتساوي مع الرجال؛ وإمكانية الفصل من العمل، المطروحة دائما في حالة الزواج والحمل والإنجاب؛ وغياب أي منظومة تساعد النساء في أداء وظائف الرعاية المنزلية، إلى جانب عملهن خارج المنزل، ما يجعل العبء مضاعفا. إذ تقضي النساء المتزوجات، بحسب دراسة عن اقتصاد الرعاية في مصر، سبعة أضعاف الوقت الذي يقضيه الرجال المتزوجون في الأعمال المنزلية، في حين تقضي النساء غير المتزوجات ستة أضعاف الوقت الذي يقضيه الرجال غير المتزوجين في الأعمال المنزلية.

في المحصلة، أصبحت صيغة امتهان النساء في سوق العمل أكثر شيوعا، مع تدهور البنية الاجتماعية وعجز الدولة عن ملاحقة التضخّم السكاني وحوكمة النشاط الاقتصادي، ما جعل الأسر المحافظة ورجالها أقل فاعلية في أداء الدور الحمائي في مواجهة قوى بلا ضابط، تعتبر العاملات مستباحات، خصوصا في مجال اقتصاد الخدمات، الذي تركزت فيه العمالة النسائية، في مقابل نسبتها الضئيلة في المشروعات الصناعية، وانخفاضها التدريجي في الزراعة مع تحديثها. من هنا ظهرت في أفلام الثمانينيات والتسعينيات المصرية استعارات سينمائية مثل “السكرتيرة اللعوب”، والأم التي تعتبر أن الابنة الذكية هي من تنجح في الحفاظ على “شرفها”، من دون أن تغضب مديرها أو تتسبب في خسارة عملها.

أنتج هذا الوضع نسبا متزايدة من النساء المتعلّمات عبر العقود الثلاثة الماضية، في المستوى الثانوي والجامعي وما بعد الجامعي، لا توازيه فرص للعمل أو الاستثمار. تظل معدلات البطالة في صفوف الإناث في مصر أعلى بكثير من تلك الخاصة بالذكور، ومن المتوسط العالمي لبطالة الإناث، بينما أظهرت بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في 2018 أن 34 بالمئة تقريبا من الأسر المصرية تعتمد على المرأة في توفير نفقات المعيشة اليومية، وترتفع هذه النسبة لتصل إلى 88 بالمئة بين الأسر في المناطق والأحياء الفقيرة. يعني هذا أن عمل النساء، في شروط مهينة ومجحفة، يشكّل أولوية لدى أسرهن، ويبرّر التغاضي عن معايير محافظة، مثل التصدي لمدير أو زميل عمل يتحرشّ بابنة أو زوجة، خوفا من أن تفقد عملها، في سوق تندر فيه الفرص النساء مقابل الرجال.

على التوازي، لم تتحرك الثقافة الذكورية خطوات مسؤولة بخصوص أدوار الرعاية الأسرية، وتخفيف عبئها عن كاهل النساء، ولا في ما يخص منظورها المتخّلف للشرف النسائي (الجنسي). أدى ذلك إلى أن يصبح عمل النساء، ضمن تلك الشروط، مصدرا متجددا لإيلام ضمير الذكر المحافظ، العاجز عن توفير الحماية للمرأة، ما يزيد جراحه النرجسية وشعوره بالنقص.

كل تلك العوامل ساهمت مع الوقت في تطبيع القبول بالتحرّش والانتهاك الجسدي الذي يمرّ دون تبعات، تماما كما القبول بانتهاك حقوق العاملات وتدني أجورهن ومساومتهن على فرص العمل الشحيحة.

كان وقوع النساء بين الحاجة الاقتصادية وأعباء الرعاية الاجتماعية من جهة، والانتهاك وانعدام الحماية الاجتماعية من جهة أخرى، بداية لشعور ظل يتنامى بينهن، جوهره أن المنظومة المحافظة تفقد مزاياها، وتعجز عن الوفاء باستحقاقاتها، ولكنها لا تفقد أعباءها وتكاليفها. ما كان سيؤدي منطقيا لتمردهن الكامل على المنظومة الأخلاقية الأبوية المحافظة، إلا أن عاملا أيديولوجيا برز في السبعينيات، مقدّما لتلك المنظومة طوق نجاة، امتد به عمرها عقودا طويلة، ونعني به ما يسمى “الصحوة الإسلامية”.

ما وراء الحجاب: كيف صنعت “الصحوة” مسخ الأبوية

عمل التواطؤ بين الدولة والإسلاميين منذ العهد الساداتي على توفير البيئة التشريعية، التي تدعم المحافظة الاجتماعية والهيمنة الذكورية بضمانات راسخة. وبرغم الانفتاح السياسي النسبي الذي شهده عصر السادات، كان وضع الحدود لقدرة المجتمع على تنظيم نفسه مهمة محورية، مثَّل الإسلاميون شريكا أصغر للدولة في تحقيقها.

لم تسع التنظيمات الإسلامية فقط لإجهاض فاعلية القوى الناصرية والاشتراكية على المستوى النخبوي، بتقديم نفسها منافسا خطابيا، يرفع الراية الدينية؛ ولكنها اتجهت أيضا إلى المجال الاقتصادي والاجتماعي، لاستيعاب فائض العنف الذكوري، وتوفير غطاء ديني يطمئن المحافظين المذعورين من تدهور سيطرتهم. انفتحت الأبواب للاستثمار الإسلامي في معظم أنواع النشاط الاقتصادي، لتستوعب أعدادا غفيرة من العاملين، من الكوادر المتعلمة وغير المتعلمة. وحقق توظيف النساء داخل اقتصاد الإسلاميين نموا أسرع في قطاعات الرعاية مدفوعة الأجر (التعليم، الصحة، العمل الاجتماعي).

كان فرض الحجاب على المنضمات لمظلة الاقتصاد الإسلامي رسالة لمجتمع محافظ، تقلقه حركة النساء في شارع غير آمن، وظروف عمل صعبة، فالحجاب سيجعل النساء يمضين إلى بيئات العمل، ويتحركن فيها بين زملاء من الذكور، وهن محافظات في الوقت نفسه على قشرة مظهر إسلامي محتشم. لم تكن تلك الرسالة إلا البداية التي تسلّم بعدها الإسلاميون راية توجيه طاقة الذكور، وإحكام السيطرة على النساء، بديلا عن خطاب قديم فقد فاعليته. فيما اكتملت الهيمنة الخطابية للإسلاميين مع تضخّم قوتهم الاقتصادية، وتكاثر منصاتهم الإعلامية، التي تكيّفت مع وسائط الميديا المستجدة، ووصلت للشرائح المتوسطة والفقيرة ثم العليا، مع ظهور الدعاة الجدد في التسعينيات.

كان ستر النساء بالحجاب والملابس الفضفاضة مقايضة جديدة قبلها المحافظون، الذين يزداد اعتمادهم على دخل النساء، مع قدرة أكبر كثيرا على السطو على هذا الدخل عبر تشريعات وفتاوى، أمدت الذكور بيد طولى في كل شؤون الأحوال الشخصية وقانون العقوبات. من قدرة على التهرّب من نفقة الطلاق والأبناء؛ واستعمال سلاح أحكام الزنى، التي تعاقب الأنثى حصرا، بهدف مساومة الزوجة والأخت وغيرهن؛ وتديين ظاهرة الختان والطلاق الشفهي دون توثيق للتهرّب من مسؤوليات الأسرة؛ والإفتاء لشرعنة ظاهرة الزواج المبكّر وتصدير الصغيرات للعمل المجحف خارج البلاد؛ واستحلال ميراث البنات بدعوى القوامة؛ وسلب وصاية الأرامل والمطلقات على أبنائهن.  

كان الانتشار المكتسح للحجاب على الرؤوس غطاءً للضمير القلق، وضوءا أخضر للانطلاق في منحنى انهيار أخلاقي، تحميه الذكورية الإسلامية، وتردع من يفضح تناقضه. ما وراء الحجاب، تعاظمت سلطات قطاعات واسعة من الذكور في التحكّم في حركة النساء، وابتزازهن عبر المراقبة السلوكية، وتوظيف الفتوى والقانون في تقويض رأسمالهن، وإضعاف قدراتهن على حيازة الثروة أو مراكمتها. وتحولت ظواهر التحرش والعنف الجنسي لعقوبات اجتماعية لا يعيرها القانون اهتماما، وتزكيها الدعوة الإسلامية سيفا على المخالِفات. بإعطاء رخصة التحرّش والعنف الجنسي، وتبريرها دينيا، لم يعد للحجاب من قيمة إلا منع انكشاف حالة من النفاق الاجتماعي، الذي يبتلع قطاعات واسعة، من نساء ورجال.             

لعبت تنظيمات الصحوة الإسلامية دورها في الضبط الاجتماعي، واحتكار منظومة العمل الأهلي وقنواته النقابية والخيرية والخدمية، واختراق المجال الفني والثقافي، لما يقترب من أربعين عاما. ومكّنها ذلك من تأسيس منظومة أخلاقية بديلة للهرمية المحافظة التقليدية، التي تتقادم بطبيعة الحال، بالتوازي مع انهيار البيئة الحضرية، والتشعّب السرطاني للإسكان العشوائي. ولم يكن خطابها، الذي يفيض بخيالات ذكورية، إلا تكريسا لوضع النساء الحالي، القائم على الاستغلال الاقتصادي وكبت الحريات الاجتماعية في الوقت نفسه، وهو وضع غير مألوف في أي سوق أو تنمية رأسمالية معياريّة، إلا أنه كان ترضية يُلقى بها لذكر مرتبك قيميا، يمكن اعتباره جنديا احتياطا في جيش رمزي يحفظ الوضع القائم، متجاوزا الروابط العائلية وسلاسل القرابة، ويستطيع بمعاونة خطاب سائل، يلفّق لكل حادث حديثا، أن يُعيِّن ذاته المنفردة في موقع الوصاية الأخلاقية على المجتمع والنساء بالخصوص.

عصر السرسجية: أخلاق إسلاميي ما بعد “الصحوة”

جاء الاستقطاب الاجتماعي الواسع ما بعد فشل ثورة يناير 2011 ليضع خطابات الصحوة الإسلامية تحت مجهر عديد من القطاعات المتضررة منها. لا نحتاج إلا لقدر بسيط من الملاحظة لندرك حجم الغضب النسائي، الذي سقط عنه حجابه، فانهمرت من تحته آلاف الحكايات، عن قهر واستنزاف مادي وجسدي، تقف خلفه مصالح ذكورية مباشرة، وتشريعات فقدت صلتها بالواقع ومعطياته بشكل شبه كامل. وبسبب هذا الرصيد الذي يتراكم على مدار سنوات، أصبح من الصعب استعادة خطاب محافظ، من دون تقديم ما يقابل قيوده من استحقاقات وواجبات، لم يعد الذكور قادرين على تأديتها.

على عكس سابقيه، اضطر الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي أن يبدأ اليوم الأول في فترته الرئاسية عام 2014 بزيارة ضحية للتحرش الجماعي في ميدان التحرير، كانت تحتفل بفوزه بالرئاسة. وبرغم إعلان الرئيس في اليوم نفسه عن عزم الدولة على القضاء على التحرّش الجنسي، إلا أن مسلسل العنف ضد النساء لم يتوقف عن تقديم حلقاته الأصعب.

وجدت الدولة ومؤسساتها الدينية الرسمية نفسها عاجزة عن تقديم بديل عن خطاب الصحوة لقطاعات ذكورية، انقطعت صلتها بالبيروقراطية الدينية وشيوخها، الذين سلبهم دعاة الإسلاميين في السابق كل مشروعية، بصفتهم “فقهاء السلطان”. فضلا عن هذا فإن المؤسسات الدينية للدولة كانت قد تسلَّفت بالفعل (اقتربت من السلفية)، واستُهلكت في المزايدات على الإسلاميين في احتكار التشدد الديني خلال عهد مبارك. وبرغم سعيها، في معظم أجنحتها، لملء الفراغ الذي خلَّفه الإخوان المسلمون، لم تستطع تحقيق نجاح يذكر في ما يتعلق بجمهور النساء، وركزت على استرضاء القطاعات الذكورية، التي خرجت عن قبضة الضابط الصحوجي. لم تستطع المؤسسات الدينية إلا أن تسفر عن وجه ذكوري سليط، ساهم في تأجيج مزيد من الغضب النسائي. بالنتيجة خلصت قطاعات متزايدة إلى أن الخطاب الديني المستحدث منذ السبعينيات غير قادر على تقديم أي مبادرة إصلاحية لأوضاع النساء، ولا يمكن التعويل عليه في إنتاج صيغة محافظة متماسكة في واقع متغير.

إضافة لذلك، تم التخلي عن خطابات الصحوة نفسها من خلال الاتجاه لآلية تلفيقية، تَقتطع انتقائيا من النصوص الدينية والعظات السلفية ما يمكن وصله بخطابات الحركات الذكورية المنظّمة، خاصة في الولايات المتحدة الأميركية، التي صعدت لواجهة مواقع التواصل منذ بداية الألفية في مواجهة الحركات النسوية. يميل كثيرون في مصر إلى تسمية تلك الآلية التلفيقية بـ”السرسجة”، وهي مفردة تغيّر مضمونها من وصف سلوكيات أبناء بيئات عشوائية فقيرة، انفلتت من التراتبية الطبقية التقليدية، بحكم حصيلتها التعليمية المتدنية، وانخراطها في الاقتصاد غير الرسمي أو قطاعاته الفاسدة والإجرامية، لتصف اليوم سلوكيات وخطابات شعبوية لأفراد على مواقع التواصل.

قد يكون الداعية عبد الله رشدي أحد أبرز الأمثلة عن “السرسجة” الجديدة، فهو شاب بسمت عصري، يَصدّر خطابا دينيا شديد التخلّف، مطعّما بكل ما تناهى إلى سمعه من مصطلحات اليمين الأميركي الجديد، ويحاول افتعال استثارة مشروطة لمتابعيه، باستخدام كلمات مفتاحية، تصنع حشدا افتراضيا، يتسم بالنهم لصناعة الأعداء. عندما يستخدم رشدي كلمات مثل “ديوث” أو “زنا” أو “علماني” أو “نسويات”، فهو يدرك تماما ما تعنيه هذه الكلمات المفتاحية لجمهور واسع من أصحاب المصلحة. غاية ما هنالك، أن ينضمّ الداعية لشبكات ذكورية قائمة بالفعل، ويراهن على استثارتها الدائمة في مواجهة الوعي النسائي الجديد، ويستفيد من فقر منطقها، ليزكي استقطابا حديّا بين معسكرين، يتمحّور في معظم الأحيان حول رؤية الرجال للنساء.

لكن جهود “السرسجية” المستعرة لم تكن لتلاقي حصادها في العدوان الشامل على الإناث، لولا تلاقيها مع هواجس ذكور، حققوا بعض المكاسب من الكفة المائلة لصالحهم لعقود طويلة. بين التحريض على العنف وفعل العنف نفسه خطوة صغيرة، يتكفّل بها خطاب التحريض الذي يروّجه “السرسجية”. إذ تختلف استجابة ذكر محافظ يحاول كبح استخدامه للعنف، عن استجابة ذكر يوصف بأنه “ديوث” بين أقرانه أو محرضيه، بكل الدلالات الغائمة التي أصبحت تحملها الكلمة. بدايةً من أب تقرر ابنته خلع الحجاب؛ إلى زوج ترقص زوجته بين زملائها في رحلة مدرسية؛ إلى أخ تصله “سكرينشوت” لحوار بين أخته وصديقها، عبر مجموعات الكترونية متخصصة في “دشملة” البنات؛ إلى شاب عاطل مضطرب، يسعى للارتباط بفتاة متحققة ترفضه. يضمن وصف كل هؤلاء بـ”الديوثين” أن يخرج رد فعل بعضهم عن المتوقع، مرتكبين جرائم مرعبة، ليس أقلها السحل والقتل.

بشكل عام، لا يبدو المحافظون المصريون قادرين على طرح تصور أخلاقي تقليدي أو ديني، يكفي بذاته لعلاج القصور الأمني والتواطؤ التشريعي-الشرعي الشامل، الذي يحمي تهافت “السرسجية”، بينما يدعي أنه يلفظهم. ولا تبدو قطاعات متزايدة من النساء المصريات، بعد عقود طويلة من قبول التنكيل الممنهج، قادرة على التنازل لدوائر المصالح التي ازداد الوعي بترابطها: الذكورية الخائفة، والمؤسسات الدينية، والسلطوية المترهلة.

برعاية السيولة الخطابية الرقمية والتزمّت الذكوري، يضيع كل إطار أخلاقي متماسك، سواء كان أبويا أو تحرريا، ويتحوّل العنف ضد النساء من حدث استثنائي إلى ممارسة تتجذر أدواتها، تجتمع عليها فئات كبيرة من الذكور، مهووسة بحماية نفسها، قبل حماية النساء، من كل فعل أو رد فعل تتصور أنه يختصم من رصيد هيمنتها، أي أن الهيمنة، التي يسميها عبد الله رشدي “الرجولة”، باتت تقاس فقط بما تؤمّنه من ميزات، وتحللت تماما من كل الأعباء. إنه نمط أخلاقي غريب جدا من “الرجولة”، ربما كان سيثير دهشة الآباء والفتوات القدماء.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.