أخلاق ما بعد “الصحوة”: كيف انتقلت مصر من الإسلاميين إلى الكيمتيين؟

أخلاق ما بعد “الصحوة”: كيف انتقلت مصر من الإسلاميين إلى الكيمتيين؟

يمكن اعتبار تاريخ الثلاثين من حزيران/يونيو 2013 نهاية لمشروع الإسلام السياسي، في مصر على الأقل. حين خرج مئات الآلاف من المصريين ضد حكم الإخوان المسلمين، مفوضين الجيش لإخراج الإسلاميين من المشهد السياسي. إلا ان تبعات إقصاء قوى الإسلام السياسي لم تقتصر على إنهاء فترة حكمهم القصيرة، التي لم تتجاوز السنة، بل امتدت لكثير من الجوانب الأيديولوجية والأخلاقية والثقافية والاجتماعية. نظرا للدور شديد الأهمية التي لعبه الإسلاميون، على كل الأصعدة، ابتداء من الربع الأخير من القرن الماضي.

نجحت القوى الإسلامية بفرض نمط من الضبط الأخلاقي في المجتمع المصري، عقب التحولات الكبرى التي شهدها بعد الفترة الناصرية. وبإقصائهم عن المشهد، يبدو الإطار الأخلاقي العام في البلد غير واضح المعالم، بين محاولات الدولة للحفاظ على “قيم الأسرة” ومنع “ازدراء الأديان”؛ والفوضى والعنف الاجتماعي في الشوارع؛ وتصاعد دعوات قومية عنصرية، ترفعها قوى جديدة.

هذه الحال ليست مقتصرة على مصر، فغالبا ما تشهد المجتمعات، عقبت فترات التحولات والانهيارات التاريخية الكبرى، كثيرا من الاضطراب الأخلاقي والاجتماعي، الذي يبدو أنه صار من الظواهر الأهم، التي تطبع عصرنا بأكمله. ويمكن إيجاد أمثلة كثيرة عنه، حتى في الدول التي توصف بالمتقدمة.

 سقط جدار برلين في العام 1989، مُعلنا بذلك انتهاء عصر الكتلة الشرقية، إذ انقسمت أوروبا بين شرق ووسط إشتراكي سوفييتي، وغرب رأسمالي أميركي، وبسقوط الجدار بدأت حركة البشر والبضائع والأفكار في التدفق من الغرب إلى الشرق، وبمرور الوقت أخذت بقايا الدولة في ألمانيا الشرقية في التحلل، وعلى إثرها تفكك الحزب الاشتراكي الحاكم.

لطالما اعتبر الصحفيون والمثقفون الألمان الشرقيون أن دولتهم الوليدة، منذ تأسيسها عام 1949، أقصت كل عناصر نظام الرايخ الثالث البائد، على العكس من الجزء الغربي لألمانيا، حيث تم إعادة توظيف قُضاة وضباط جيش وموظفين نازيين في أرقى وأهم المناصب في الحكومة الألمانية الجديدة، بعد الاحتلال الأمريكي عام 1945، وعليه فقد أصبحت الدولة الوليدة شديدة التجانس بين جميع مكوّناتها الاجتماعية، من الأوروبيين والروس والآسيويين، واعتُبرت ثقافتها أكثر تقدمية ومنزوعة العُنصرية.

وبمرور ثلاث سنوات على توحيد الألمانيتين، انطلقت اعمال عنف في عدد من البلدات الألمانية الشرقية، لتستهدف تجمعات لعائلات تركية وأخرى آسيوية، في بلدات روستوك ومولن وزولينغن، لتتابع بذلك الأحداث العنصرية، وتُنذر بميلاد تنظيمات يمينية متطرفة، في المنطقة التي استقر فيها سابقا حزب إشتراكي مُعادٍ لكل الأشكال والتصورات والتنظيمات اليمينية.

تساءل الباحثون وعلماء الاجتماع عن أسباب حدوث ذلك، كيف أمكن ميلاد تنظيمات نازية، تُقدر اعداد المنتظمين فيها بحوالي ثلاثين ألف عضو، بدون سابق انذار؟

نشرت مجلة American Journal of Sociology ورقة بحثية بعنوان “الانحراف والازدراء: رأس المال الاجتماعي، وهيمنة اليمين المُتطرف بين شباب شرق وغرب برلين” لجون هاجان وهانز ميركنس، وفيها يتتبّع الباحثان العوامل التي أدت إلى تصاعد الهجمات العنصرية، وعودة التصورات اليمينية من جديد، ويخلُصان إلى أن النظام الاجتماعي القديم، الذي أقامه الحزب الإشتراكي، من خلال دعم شبكات الحماية الاجتماعية والتنمية، اتجه إلى التفكّك مع سقوط الجدار، ما أدى لتراجع “الرأسمال الرمزي” السائد في البلاد، وميلاد تنظيمات جديدة، تحاول توفير بديل لذلك الرأسمال الرمزي، مع أخلاق أخرى، مناسبة للطبيعة الاستهلاكية للنظام الجديد.

قد يتقاطع هذا لدرجة كبيرة مع التجربة المصرية والعربية، إذ يبدو أن تنظيمات وقيما جديدة، تعمل على إنشاء رأسمال رمزي بديل، بعد اضمحلال “الصحوة الإسلامية” وقواها.  فكيف ظهرت الأخلاق الإسلاموية في نهايات القرن العشرين؟ وما السياق السياسي والاجتماعي لظهور “بدائلها” المعاصرة؟

الانفتاح الاقتصادي و”فجر الإسلام”

يقول عبد المنعم أبو الفتوح، السياسي الإسلامي المصري: “بدأ عقد السبعينات يساريا، وفي منتصفه ناصريا، وفي نهايته إسلاميا صرفا”.

اعتُبر عِقد السبعينات، أحد أكثر العقود كثافةً في القرن الماضي، فبنهاية النصف الأول منه، اتجهت الدولة المصرية، التي خرجت للتو من حرب مرهقة اقتصاديا، إلى مُحاولة الخروج من عباءة نظام عبد الناصر، والتخلّص من سياسة الرعاية الاجتماعية، التي وفّرها للطبقة التي سميّت “وسطى”، والبيروقراطية التي اعتمد عليها. فالدولة المصرية قد خرجت للتو من حرب مُرهقة اقتصاديا، وبعد فترة طويلة من إغلاق الممر الملاحي لقناة السويس، وتعطُّل حركة السياحة، وتخصيص كامل موارد الدولة لإعادة بناء وتجهيز الجيش، اتجه نظام السادات، تحت الضغط الاقتصادي للحرب، والسياسي من قِبل الحرس الحديدي للنظام الناصري، إلى صندوق النقد الدولي، وقرر العمل في اتجاه الانفتاح الاقتصادي، بوصفه استراتيجية أساسية للدولة.

يشرح المفكر المصري جلال أمين، في كتابه “ماذا حدث للمصريين؟”، طبيعة الحراك الاجتماعي الذي ترافق مع “التحول الكبير” الذي جرى في السبعينات، فمع ارتفاع مستوى التضخّم، نتيجةً لتدفق عوائد النفط المرتفع وقتها، إضافة لارتفاع تحويلات أموال المصريين العاملين في الخليج، والذي ترافق مع موجة استهلاكية عالية، بدون توافر قدرات الإنتاج التي كانت من خصائص الستينات، ازدادت الفجوة بين الطبقات ومستوى الدخول، وهو ما أدى إلى تفكك الشبكات الاجتماعية التقليدية، وحدوث اختلالات غير مسبوقة. يقول أمين :”علماء الاجتماع يشكون شيوع ما يسمى بالفساد أو التسيُّب وعدم الانضباط، ومن ازدياد حوادث العنف، وظهور أنواع جديدة من الجرائم، وتفكك الأسرة، وانتشار قيم مادية تُعلي من قيمة الكسب السريع على حساب العمل المُنتج، وضعف روح التعاون والتضامن الاجتماعي، وتدهور نمط الحياة في المدينة والقرية على السواء: المدينة تزداد تلوثا وازدحاما وضوضاء وقُبحا، والقرية تتحول من قرية مُنتجة الي قرية مُستهلكة”.

وعند محاولة تجاوز التوصيف الاجتماعي لعقد السبعينات إلى ما أعقبه من عقود، نجد أنفسنا أمام مُعضلة تقليدية من مُعضلات الأنطولوجيا الاجتماعية: هل أدى التحول الكبير والانفتاح إلى التفكك الاجتماعي؟ أم أن التفكك الاجتماعي كان مُساهما أساسيا في “التحوّل الكبير”؟

إفلاس “الرأسمال الرمزي”

يمكننا استلهام آراء بيير بورديو، عالم الاجتماع الفرنسي الشهير، للإجابة على هذا السؤال، وتفسير ظاهرة أسلمة الأخلاق في تلك الحقبة، والتي ترافقت مع انتعاش الجماعات الإسلامية في مصر، وخصوصا جماعة الاخوان المسلمين.

ينطلق بورديو من فكرة أساسية، وهي “رأس المال الرمزي”، ويقصد به العلاقات الاجتماعية، التي تُتيح للأفراد النفاذ إلى موارد يمتلكها شركاؤهم، أي أن الشبكات الاجتماعية، مثل الأسرة والحي السكني والمدرسة والجامعة، يمكنها أن توفّر للعضو فيها اتصالا بمصادر منفعة شخصية، سواء كانت منفعة مالية، أو مكانة اجتماعية مُعينة أو رمزية. أي أن بورديو يربط بين رأس المال الاقتصادي والرمزي، من خلال تحديد طريقة الوصول إليهما، فالفرد يمكنه ان يحصل على قرض من البنك، لكنه سيكون مديونا، ويتعرّض للعقاب القانوني، في حال لم يُسدد ما عليه؛ بينما تعمل الشبكات الاجتماعية من خلال “الهِبة”، أي أن القرض، الذي يُمكن أن يتحصل عليه الفرد من العائلة والأصدقاء، لا تجب إعادة تسديده بالضرورة، لكن يُمكن طلب خدمة أو دعم رمزي مقابله في أي وقت أخر، في حالة من حالات التضامن المحدود.

وفي كل حالات الدراسة، سواء في مصر أو في ألمانيا الشرقية، فان قيم الطبقة الاجتماعية الوظيفية، التي تتلقى رعاية الدولة، كانت بمثابة رأس المال الرمزي للأبناء والشباب، لكن وبمجرد الانتقال إلى عصر التحوّل الرأسمالي الكبير، وشيوع الروح الفردية والاستهلاك، والحاجة إلى الكسب السريع، وفقدان الثقة في الشبكات الاجتماعية القديمة، خسر رأس المال الرمزي التقليدي قيمته، وشاعت حالة من الفوضى الاجتماعية. وهُنا احتاج المُجتمع إلى شبكات اجتماعية جديدة، تقوم بتوفير رأسمال رمزي جديد، وتمتلك أخلاقيات تتناسب مع حالة الاستهلاك، التي فرضتها وضعية الانفتاح. في الحالة المصرية، كانت الجماعات الإسلامية هي البديل العملي لرأس المال الرمزي القديم، إذ مثّلت تلك الجماعات تضامنا عابرا للطبقات، ولثنائيات المدينة والريف، أي أنها أصبحت شبكة اجتماعية جديدة (مجتمعا بديلا)، تضمن لأفرادها والفاعلين فيها الوصول لأكبر قدر من الموارد.

أضاف بيير بورديو مُصطلح “الهابيتوس” Habitus، والذي يُمكن تعريبه بـ”السمت”، ويقصد به الخُلق، الذي يتطبّع به الأفراد من المجتمع، ويستبطنونه بشكل داخلي في ذواتهم، فلا يبدو إكراها خارجيا عليهم. أي أن معايير وأخلاقيات الفاعلين الاجتماعيين، المنضمين للشبكة الاجتماعية، تأخذ بالنسبة إليهم شكل البداهة غير القابلة للتساؤل. ففي القرى الريفية على سبيل المثال تشيع حالة من المحافظة الشديدة، يكون فيها كل أفراد القرية أوصياء على بعضهم البعض، لضمان حالة من الالتزام بالخُلُق القويم، مما يسمح للشبكة الاجتماعية أن تكون أكثر تلاحما، وقادرة على أداء وظيفتها الاجتماعية، دون مُعوقات أو اختلالات.

استنسخت الجماعات الإسلامية السمت المُحافظ للقرية، لكن بصورة أكثر راديكالية، وفي فضاء مكاني خارج القرية الهامشية، وإنما في المدينة المركزية، ليوفّر هذا السمت الإسلامي تدريجيا حالة الضبط الاجتماعي، التي افتقدها المجتمع المصري، بعد أن شاعت فيه الفوضى خلال عقد السبعينات.

شكلت هزيمة عام 1967 صدمة للوعي القومي العربي، تحطّمت على أثرِها تصورات جيل كامل عن نفسه، وراح يبحث بعدها عن إجابات للأسئلة الأكثر وجودية بالنسبة اليه: لماذا هزمنا؟ ولماذا نجح غيرنا؟ كيف يمكن الخروج من هذا المأزق؟ وأي الأفكار أكثرُ ملاءمةً للواقع والمجتمع؟

وعليه بدأت مجموعات من الشباب الأكثر تعليما في استحضار إجابات تيار من الإسلاميين، اختلف مع النظام الناصري، وشكّل تمردا عليه، لتستغلّ، أثناء تلك الفترة، ضعف القبضة الأمنية على الجامعات، وتتوسّع في النشاط الدعوي والطُلابي. ومع تصاعد مدّ الجماعات الإسلامية في الجامعات، وبداية تكوّن نواة وكوادر لها، جاءها الاستدعاء السياسي من النظام الحاكم، وهو العُنصر الحاسم في حياة ذلك التيار.

احتاج نظام السادات إلى أداة جديدة، يضمن من خلالها الضبط الاجتماعي من ناحية، وقمع المُعارضة اليسارية لمشروعي التطبيع والانفتاح من ناحية أخرى، ولم يجد في التيار الإسلامي الصاعد إلا حالة من تقاطُع المصالح، فتغاضى عن تجاوزات الإسلاميين في الجامعات بحق غيرهم من المُعارضين السياسيين، ثم أطلق قيادات الإخوان المُسلمين من السجون عام 1974، لتُعيد هيكلة الجماعة مرة أخرى، وتستولي على جميع كوادر الجماعة الإسلامية وشبكاتها ورأسمالها الاجتماعي. ومن السبعينات وحتى عام 1984، تبلورت جماعة الإخوان المُسلمين، وأعادت ضبط قيم ومعايير المُجتمع المصري، وتدخّلت في حُريات افراده، وصبغت السلوك الاجتماعي بصبغتها المُحافظة، مُوفّرة بديلا اجتماعيا عُصبويا عما سمي “الطبقة الوسطى”، التي أخذت الرأسمالية الجديدة تُهشّمها وتُهمّشها يوما بعد يوم، استبطنه الأفراد في ذواتهم وسلوكهم اليومي. خاصة أن الأخلاق المحافظة والإسلامية لا تقف ضد معايير الاستهلاك والثراء السريع.

في البحث عن أخلاق ما بعد إسلاموية

اندلعت ثورات الربيع العربي من فضاءٍ غير إسلاموي بالضرورة، ومع انهزام جماعات الإسلام السياسي في السيطرة على السُلطة واحتكارها، اتجهت الدولة المصرية بعد الثلاثين من حزيران/يونيو إلى تفكيك تلك الجماعات، وإلغاء خطابها من الفضاء الاجتماعي، ما أدى إلى خلق فراغ في المساحة التي لطالما شغلها رأس المال الاجتماعي الإسلامي، وخطابه الأخلاقي الضابط لسلوكيات المجتمع.

أمام هذا الفراغ، وجدت الدولة نفسها أمام خيارين، وفي الحقيقة اتجهت لتفعيلهما معا: الأول أن تقوم بوظيفة شُرطي الأخلاق بنفسها وبأجهزتها الأمنية. فتعرّضت عديد من الفتيات في مصر للحبس، بتُهم “نشر الفجور” أو “التعدّي على قيم الأسرة المصرية”، وغيرها من التُهم ذات المعايير المطاطة، لتُرسل الدولة للجميع رسالة مفادها أن المعايير والأخلاق الاجتماعية هي أيضا قضية سياسية.

تُعاقب الدولة الخارجين على القيم الأسرية المُحافظة كما تُعاقب الخارجين على القانون، لكنها في الوقت نفسه لا تستطيع السيطرة الكاملة على كُل جنبات المُجتمع بالقانون وحده، في ظل غياب تنظيم اجتماعي قوي، يمكن ان يوفّر “الهابيتوس” الذي تُريده الدولة.

ولتلافي تلك المُعضلة، تلجأ الدولة إلى خيارها الثاني، فاتجهت لإفساح المجال لشيوخ “البوب اسلام” أو “الإسلاميين الانفلونسرز،” المتحدّرين من السلفية العلمية، أو من مؤسسة الأزهر، أو حتى دُعاة التنمية البشرية التقليديين، لتُفتح أمامهم منصات مواقع التواصل الاجتماعي، وحتى القنوات التليفزيونية الخاصة، لإلقاء برامجهم وخطبهم، المتسمة بالوعظية الأخلاقية الفردية، والطبيعة الاستهلاكية، المُناسبة لوضعية السوق.

في كتابه “إسلام السوق”، يتتبّع باتريك هايني ظاهرة فشل الصحوة الإسلامية، وخصوصا تيار السبعينات، واتجاه الخطاب الاسلامي تدريجيا ليُصبح سلعة، يُمكن تبادلها، وتخضع لقواعد البيع والشراء. أي أن إسلام السوق، الذي أخذ في التصاعد منذ بداية الألفية، على يد الصاعدين من أبناء ما يسمى “الطبقة الوسطى”، قد وصل إلى ذروته بعد الربيع العربي، وانهزام التنظيمات الإسلامية ذات الخطاب السياسي المُباشر. يوضح هايني أن تلك النسخة من الإسلام مُبتسرة ومُتعولمة بالأساس، وهي تنزع أي علاقة بين الدين من ناحية والدولة والهوية من ناحية أخرى، لكنها، في الوقت نفسه، تُحاول الإبقاء على التمسّك الشكلي بأخلاق الإسلام، ومحاولة تشجيع الاجتهاد الفردي، لتحقيق اكبر مكتسبات مُمكنة.

قامت الدولة المصرية إذن بتحويل الأخلاق إلى قوانين فوقية، تطبّقها الأجهزة الأمنية، وساهمت بإفراغ “الإسلام” من طبيعته السياسية والأخلاقية، ليصبح سلعة سوقية متماشية مع الفردانية النيوليبرالية. والنتيجة كانت انحدارا أخلاقيا عاما في المجتمع المصري، فقد عطّلت تلك الإجراءات “الهابيتوس” بين المصريين، الذين لم يعودوا يستبطنون مصدرا أخلاقيا في ذواتهم، بل باتت الأخلاق مسلّطة عليهم من فوق، أو مجرد سلع استهلاكية يتداولونها. ولذلك يغرق المجتمع المصري تدريجيا في حالة من الفوضى الأخلاقية، التي تدفع ثمنها عادة الفئات الأضعف.

من اليمين الإسلامي إلى اليمين الكيمتي

انتابت الأجيال الشابة مؤخرا حالة من السأم تجاه السردية الإسلامية، التي يتبنّاها الدُعاة الانفلونسرز، من ثم راحت فئات منها تبحث عن سردية استعلائية أخرى، تمارس منها مهام الرقابة الأخلاقية والضبط الاجتماعي. وتقاطعت محاولاتها هذه المرة أيضا مع المصالح السياسية للدولة، فنالت منها الدعم، وإفساح المجال الافتراضي والإعلامي، لتُعيد انتاج التراجيديا اليمينية الإسلامية، لكن في صورة هزلية هذه المرة، من خلال العودة إلى سردية مُتخيّلة عن مصر الفرعونية المُوحّدة، التي تعالت على كل الشعوب والحضارات الأخرى، في تنكّر كامل للرافد العربي والإسلامي المُكوّن للثقافة المصرية.

الردة إلى اليمين لم تأت من فراغ، فتوالي الأزمات الاقتصادية والسياسية، بعد هزيمة ثورات الربيع العربي، خلق حالة من الاضطراب الفكري، وأعاد طرح الأسئلة الهُوياتية في شكلٍ جديد؛ وتسببت الفجوات الطبقية، والاتجاه لتفكيك ما تبقى من “الطبقة الوسطى”، إلى اختلال اجتماعي وتفكّك للشبكات التقليدية، لكن الإجابة هذه المرة لا تحتاج إلى تنظيم سياسي ولا رأسمال رمزي،  فـ”الكيمتيون”، أي أنصار الهوية المصرية الفرعونية المتخيّلة، ليسوا إلا جماعات محدودة، تعمل بعلم وتغاضي الأجهزة الأمنية المصرية، وهم لا يسعون إلى سد فراغ ما، بقدر ما يحاولون الحضور، بوصفهم أحد الخيارات المحدودة، المسموح بها من قبل الدولة المحتكرة للأخلاق والأخلاقية. ما يجعل هذا النوع من التصورات جانبا من الفوضى الأخلاقية والسياسية الشاملة، التي أدى إلها إغلاق الحيز العام، وحظر كل فعالية اجتماعية مستقلة.

من الإسلاميين إلى “الكمتيين” يدفع المجتمع المصري ثمن انحطاط مجتمعه المدني وتغوّل دولته، بصورة اضطراب أخلاقي شامل، لا تغطيه إلا شعارات أبوية وإسلامية ووطنية شديدة المحافظة، لا دور لها سوى عرقلة ظهور أية إمكانية للتغيير.  

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.