بدأ الطفل الكولومبي فرانسيسكو بيرا مسيرته الناشطية، في سبيل الوقوف بوجه التغيّر المناخي، حين كان بعمر الحادية عشرة. وأصدر العام الماضي 2022 كتابه الأول، وهو بعمر الثالثة عشرة. يحمل الكتاب عنوان “ما هو التغير المناخي”، ونُشر بالتزامن مع قمة المناخ COP 27، التي أقيمت في شرم الشيخ المصرية. بالطبع تُرجم الكتاب إلى العربية، وصدر عن دار الشروق في مصر. الكتاب، الموجه إلى الناشئة، يهدف إلى توعية الأطفال بمحورية قضية المناخ، وأثرها على الجيل القادم. يقول بيرا في لقاء معه، متبنّيا بلاغة الكبار :”من يتحمّل أكبر قدر من المسؤولية ليس البلدان التي تعاني، ولكن البلدان التي تسببت في هذه المعاناة، خاصة أن البلدان المتضررة ليس لديها تمويل للتكيّف مع التغيّر المناخي”.

بيرا ليس الطفل الأول، سبقته السويدية غريتا تونبرغ، التي حمّلت الأمم المتحدة و”البالغين” مسؤولية كل ما يحصل، مؤكدةً أنها تركت المدرسة، وتسافر بالقارب الشراعي، كي لا تترك بصمة كربون خلفها، بعكس بقية البشر المساهمين في التلويث، الذين يركبون المواصلات ويستخدمون الطائرات للتنقّل، ويتركون وراءهم بصمة كربون مشينة وتستدعي الخجل.

قضية المناخ، في حالة الطفلين، باتت تؤشّر إلى تقسيم للبشر على أساس أخلاقي: هنالك من جهة الأطفال الغاضبون، الواعون بخراب العالم، وكذلك الناشطون الراديكاليون، الصارخون في صالات المتاحف، مهاجمين الأعمال الفنيّة الكلاسيكية؛ ومن جهة أخرى هنالك بقية البشر، الملوّثون للبيئة، غير الواعين بمسؤوليتهم عن إنقاذ الكوكب.

الناشطون هنا يحملون، ببراءة الأطفال وصدقهم، حقا لا جدال فيه، انكاره أو عدم الوعي به أو حتى مناقشته خطيئة، تستوجب إدانه أخلاقية لا هوادة فيها. ربما لذلك تستدعي سيرة فيرا، وقبله تونبرغ، أسئلة كثيرة عن مفهوم “الناشطيّة” نفسه: لماذا التركيز على مفهوم الذنب والتوعية به؟ لماذا توضع الطروحات، المتعلّقة عادة بأكثر القضايا تعقيدا، على لسان أفراد لا يمكن ولا يجوز نقاشهم أصلا، إما لأنهم أطفال، أو منحدرون من هويات مظلومة؟ وأخيرا، لماذا يبدو إبراز الذات الفردية، بمكوناتها من وعي والتزام وأخلاقية، الأمر الأكثر أهمية في الناشطية؟

هذه الأسئلة تقود إلى تساؤلات أخرى على المستوى العملي: هل إثارة عقد الذنب، والذاتية التي لا يمكن مناقشتها، سيؤديان إلى ممارسات احتجاجية ذات قيمة ملموسة؟ وما أبعاد زراعة الذنب في قلوب “الجميع”؟ وهل فعلا يمكن الوصول إلى العدالة البيئيّة بهذه الطريقة؟

إشكالية الذَنب

التقسيم بين ملوثين وضحايا يريدون النجاة واضح جدا في كتاب بيرا، لكنه غامض نوعا ما. من هم الملوثون بدقة؟ من المتواطئون معهم؟ لا إجابة محددة، لكن يبدو أن بلاغة هذا التقسيم تراهن على الحس الإنساني لدينا نحن البشر، من أجل تحريكنا لاتخاذ موقف. لا أحد يريد للأطفال أن يموتوا أو يعانوا في المستقبل، ولكن كيف؟ وماذا علينا أن نفعل بوصفنا أفرادا من “الكبار” الآثمين؟  

الإشكاليّة هنا يمكن طرحنا بالشكل التالي: “هم” يغرقونـ”نا” في الذنب، ثم يتركونا عاجزين عن التغيير. الأطفال غاضبون ومصدومون فقط، ويبدو أن لا حلّ إلا مراعاة صدمتهم. ما معنى هذا سياسيا؟ على المستوى المباشر لا شيء.

زرع الذنب والذعر في قلوب “المستهلكين”، واستفزاز إنسانيتهم عبر الحديث عن “مستقبل الأطفال”، ليس إلا نوعا من الراديكالية الأخلاقيّة، التي تتعلق فقط بهوية ونمط حياة من يتبنّاها، خاصة إذا كان لا يقدم، مثل بيرا في كتابه، أي خطة عمل واضحة، سوى التوقّف عن استخدام العبوات البلاستيكيّة. طبعا لا يمكننا أن نطالب الكولومبي الصغير بخطة، فهو بالنهاية مجرد طفل. وربما يكثّف هذا إشكالية “الناشطية” بأكملها.

ولكن، تجنّبا للتسرع في الوصول لاستنتاجات، فلنبحث في مطالب ناشطين آخرين ليسوا أطفالا، من ناحية السن القانوني على الأقل.

التبشير الآمن

نجت لوحة “الصرخة” لإدوارد مانك من ناشطي بيئة هاجموها في أوسلو، إذ حاولوا إلصاق أنفسهم بها، لكن تَدَخُّل أمن المتحف في اللحظة المناسبة منعهم من مسّها، بعكس لوحة “دوار الشمس” لفان غوخ، و”الفتاة ذات القرط اللؤلؤي” ليوهانس فيرمير. إذ تعرّضت الأولى للتلطيخ بحساء رخيص، والثانية لرأس محتج أُلصق بها. الواضح أن عملية اختيار اللوحات لا تقوم على أساس جمالي أو سياسي، أي لا يهم تاريخ اللوحة أو الفنان، المهم أنها “لا تقدّر بثمن” وتلفت الانتباه، وتدخل ضمن المخيّلة العالمية بوصفها فنّا لا يمكن استبداله. المفارقة أن هذه اللوحات محميّة بالزجاج المصفح والمضاد للرصاص، وهي المعلومة التي يعرفها الناشطون، فلا “ضرر” حقيقي سيقع على العمل الفني. والرسالة: لا شيء ذي قيمة في عالم مهدد بالفناء.

الملفت في هذه الأشكال من الاحتجاج، أنها لا تراهن على “الخطر” الذي قد يتعرّض له الناشط أو المحتج، أي بعكس الإضراب عن الطعام، أو ربط الجسد بشجرة مهددة بالقطع، لا يوجد هنا تهديد جسدي على الناشط، هو فقط عرضة للعقوبات القانونية المخفّفة. إذ لم يتعرّض من حاولا تخريب لوحة فيرمير في هولندا إلا لشهرين في السجن. أما في بريطانيا، ورغم أن الأمر لم يحسم بعد في قضية لوحة غوخ، فإن قيمة الضرر لا تتعدى خمسة آلاف باوند، والمتهمات ينكرن ما توجهه لهن المحكمة من تهم.

تقنيات الاحتجاج السابقة تفترض أنه لا يمكن جذب انتباه “المذنبين” إلا بالإيحاء بتخريب اللوحات القيمة. ولكن مَن المطلوب لفت انتباهه بالضبط؟ هل سيهتم الملوّثون الكبار من حكومات وشركات بالتراث الفني، وهم الذين يدمّرون الكوكب بوعي؟ بالتأكيد لا. مَن يجب لفت انتباهه هو عموم البشر. نعود لإشكالية الأطفال الأبرياء نفسها: لا تحليل سياسي واقتصادي، لا خطة، لا مراعاة لتعقيد القضايا. يكفي الناشط أنه ناشط. أي يحمل بذاته حقا، يبرزه للناس مبشرا ونذيرا. إلا أن ناشطي اليوم يختلفون عن مبشّري الماضي بأنهم لا يتعرّضون لأي خطر فعلي. يبدو أن الأنظمة السياسية والقانونية والأمنية لـ”المذنبين” تراعيهم بشدة، وتعطيهم المساحة لإبراز ذواتهم. والناشطون انفسهم أكثر من يعرف هذا.

لنترك الناشطين قليلا، ولننظر إلى الطريقة التي تستجيب بها سلطات “الكبار” لكل هذا الضغط الأخلاقي، الذي تحرص دائما على إتاحة المجال له.

الفناء بالناشطية

بالعودة إلى تصريحات بيرا  فإن “البلدان المتضررة ليس لديها تمويل للتكيّف مع التغيّر المناخي”، أي على الملوثين الكبار “تمويل” الدول المتضررة، لمساعدتها على التكيّف واللجوء إلى الطاقة النظيفة، وهذا نظريا ما تم الاتفاق عليه في شرم الشيخ، دون تحديد المبلغ الذي ستدفعه كل دولة. ولكن عموما يبدو أن المفهوم العام وراء هذه “الخطة” هو أن الملوثين الكبار (هم بالترتيب: الصين، الولايات المتحدة، الهند، روسيا، واليابان)،  أي الدول التي راكمت ثروات، وأسست بنيتها التحتية على أساس إحراق الوقود الأحفوري، عليهم الآن أن يموّلوا الدول المتضررة/الأفقر للتكيّف مع تغيّر المناخ.

هذا “التكيّف” يعني “الانتقال العادل”، أي على الدول الإفريقية، وغيرها من الدول الأقل قدرة، الانتقال إلى الطاقة النظيفة، مع الأخذ بعين الاعتبار شروط العمل والإنتاج والتنوّع الحيوي، ينسحب الأمر على التكنولوجيا أيضا، أي مثلا الانتقال إلى الهواتف النقاّلة مباشرةً دون المرور بمرحلة الهاتف الأرضي؛ الاستفادة من الأقمار الصناعية عوضا عن كابلات الاتصال؛ واستخدام الطاقة البديلة عوضا عن محطات توليد الطاقة الاحفورية. ما يعني، من وجهة نظر ثقافية، الانتقال إلى ما بعد الحداثة دون المرور بالحقبة الصناعية والتحديث نفسه. أي أن القارة ذاتها، التي حُفرت أرضها لاستخراج الألماس، ودُفن أطفالها في الحُفَر لاستخراج الكوبالت المستخدم بصناعة بطاريات الـI phone، واستٌعمرت لعشرات السنين، عليها الآن أن تساهم في انقاذ الكوكب، عبر حرمانها من البنية التحتية، التصنيع، والتطوير الحضري؛ وأن تظل دائما متلقّية للمساعدات من الدول الأغنى.

ربما كانت الطبيعة جميلة في إفريقيا وغيرها، ولكن الاعتماد على “نظافتها” وحدها لن ينتج الطاقة الضرورية لحياة هذه الدول ورفاه سكانها. الشمس لا تسطع دوما والريح لا تعصف طوال السنة، وهذه مشكلات حقيقية تخصّ الطاقة البديلة، المُكلفة والأقل كفاءة، وليست تهكّما.

“العدالة البيئية”، المنبثقة من الضمائر الذاتية للناشطين الأبرياء والضحايا، والتي لا يمكن مناقشتها، ترى أن الحقّ بالتطوّر “فات زمنه”؛ والرفاه خطيئة الغربيين، التي لا يجب أن ينجرّ إليها أبناء العالم الثالث، الذين لم يفقدوا براءتهم بعد؛ وعلى الدول الأفقر والأشد تلوّثا، أن تقفز أخلاقيا لإنقاذ الكوكب. أي ربما أن تتحد بذوات الناشطين، أو “تفنى بهم” إذا استعملنا تعبيرا صوفيا، أكثر دقة في هذا السياق.

لا يقتصر الأمر على أبناء الدول “المتخلّفة”، بل أيضا على الفئات الأفقر في الدول “المذنبة”. تفاخر الرئيس الأميركي جو بايدن في شرم الشيخ بأن بلاده “أصبحت أول دولة تطالب أكبر مورّديها بالكشف عن نسب انبعاثاتهم”، أي أنها ستفرض دوليا ما يشبه ضريبة “انبعاث الكربون”، التي أثبت علنا أنها خدعة، لم تخفف من انبعاث الكربون، بل جعلت البضائع مُكلفة أكثر، وتحوّلت إلى سوق امتلأ بعمليات الاحتيال. ثم نقلت الخسارة إلى جيوب المستهلكين، الذين وجدوا أنفسهم يواجهون التضخّم دون أية مساعدة. ربما لا بأس، فهم بالنهاية “المذنبون”.

سواء كنّا في متحف أمام لوحة، او في مخيم لاجئين متجمّد، أو في عاصمة أوروبية تنعم بالدفء، يصعب أن نجد “الناشطية” تقترح أية خطوة فعّالة وعادلة في القضية البيئة، بل ربما تشكّل غطاء أخلاقيا لسياسات لا يمكن وصفها بالعدالة (البعض يصفها بـ”الإمبريالية” البيئية أو الأخلاقية). لا يمكن أيضا  تجاهل أن جانبا كبيرا من  سياسات المناخ ومؤتمراته بات مكرّسا لتمويل “منظمات غير حكومية”، يبدو أنه لن ينتج عنها إلا دعوات من نمط “الكتابة الخضراء”، أي تغيير الضمائر والكلمات كي “تحتوي” الأثر المناخي، وتقوم بـ”التوعية” به.

هذه “الكتابة”، التي لا نعرف قواعدها بعد، قد تُفرض علينا مستقبلا، لتجبرنا على التخفيف قليلا من “ذنبنا”، ومراعاة “صدمات” الأطفال. ويمكن القول، بكثير من السخرية، إنه ربما من الأفضل أن نعود لنظرية “الإمبريالية البيئية”، التي تعتبر أن المنظمات “غير الحكومية” البيئية ذراع ناعم لهيمنة تلك الإمبريالية، علّ هذا يقينا من مصير “الكتابة الخضراء”.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.