لا نملك صورة واضحة لمحمد بوعزيزي، سواء لشكله في الحياة الاعتيادية أو للحظة احتراقه، التي أشعلت الاحتجاجات في تونس، وأطلقت ما يسمى “الربيع العربي”. الصورة المتداولة الآن انتشرت في العالم العربي بعد انتصار الثورة التونسية. رغم هذا فإن المصريين، ومن بعدهم اليمنيون والسوريون، تحرّكوا بوحي الصور القادمة من تونس. لم يعرفوا كثيرا عن مطالب الثورة التونسية وخطابها السياسي، كل ما وصلهم عشرات الصور والتسجيلات المصوّرة عن المظاهرات، وكان هذا كافيا. الصورة كانت خطاب الثورة القادر على تصديرها إلى دول أخرى.

 يُقال إن العصر الذى نعيش فيه هو عصر الصورة، فلم تعد المعرفة تنتقل فقط عبر التواتر الشفوي والتدوين الكتابي، بل ترتكز كثيرا على المرئي وثقافته بمختلف أنواعها، سواء كانت ثابتة أو متحركة. تجاوزت الصورة بعدها الفني، وصارت مصدرا رمزيا حافلا بالتأويلات، وقادرا على تشكيل الوعى والسلوك وصناعة القيم أيضا، وتدخل في معركة السيطرة على الحقيقة والمعرفة، وتوجيه الرأي العام. فهي ذات طابع خطابي سريع التأثير، لسهولة استهلاكها، وتحمل معانٍ ودلالات محرّكة مثل الخطاب اللغوي الكلاسيكي، وربما أكثر. ولربما لهذا أنتج “الربيع العربي” واستهلك كثيرا من الصور، بعد أن عجزت قواه والمشاركون به عن تقديم خطاب سياسي. أو ربما لم يعنوا أصلا بإنتاج ذلك الخطاب، فقد كانت لديهم الصورة.

عبر القراءة السيميولوجية البصرية للصور المرئية في فترة “الربيع العربي”، بمصر تحديدا، وتحليلها فنيا وجماليا ودلاليا، تتضح لنا مدى مساهمة الصورة وقوتها وتأثيرها في الثورات، كما أنها تعين على قراءة الأحداث، وتساعد على تحديد تصورات أيديولوجية واضحة، سواء للثورة أو الثورة المضادة التي أعقبتها، وهذا ينفي أن “الربيع” كان ما بعد أيديولوجي، أو متجاوزا للأيديولوجيا، لأن أيديولوجيته كانت الصورة، فما أهم وقائع حرب الصور خلال الثورات وبعدها؟ وما الأيديولوجيا التي تحملها صور فترة “ما بعد الربيع” التي نعيشها؟ وهل الصراع على دلالة وتأويل الصور انتهى؟

الربيع العربي: الابن المقتول، الأب القاتل

على خلاف محمد بوعزيزي، كان لأحد ضحايا النظام المصري صورة واضحة، بل شديدة الوضوح، اعتُبرت “أيقونة ثورة يناير”، ووجه صاحبها “الوجه الذي أطلق الثورة”. إنها صورة خالد سعيد، الذي قُتل تحت التعذيب في أحد أقسام الشرطة المصرية عام 2010. ذلك الشاب الوسيم، صاحب الملامح المريحة، التي تدل على اللطف والذكاء والتهذيب، تحوّل إلى جثة هامدة، تحمل آثار الضرب وسوء المعاملة. المقارنة بين الصورتين أثارت غضب المصريين. فانطلقت الدعوات والوقفات الاحتجاجية، بالتزامن مع إنشاء صفحة على فيس بوك باسم “كلنا خالد سعيد”، تجاوز عدد أعضائها أربعة آلاف عضو بعد ساعة واحدة من إطلاقها، وجعلت صورة سعيد أيقونتها، التي تحمل بذاتها إدانة للنظام وخطابا معارضا له. سلطة تقتل هكذا شاب لا يمكن أن تستمر، لأنها تقتل الحياة والمستقبل وكل ما هو نظيف في الحياة.

أنصار النظام ردوا بمحاولة إبراز صور أخرى لسعيد، تبدو ملامحه فيها أقلّ تهذيبا ووسامة، بحيث يصبح من الممكن تصديق أنه مجرد مدمن بانجو، مات إثر ابتلاعه للممنوعات التي كان يحملها، كما ادعت الشرطة. صورة سعيد المدمن كانت خطابا مكتملا عن الفوضى، التي تحمينا الدولة وشرطتها منها، ولكن صورة خالد سعيد الأيقونة كانت أقوى وأكثر اقناعا، وهكذا خسرت السلطة معركة الصور الأولى.

خالد سعيد بين الصورة التي نشرها الثوار (على اليمين) ومؤيدو النظام (على اليسار)

زادت أهمية الصورة في الثورة المصرية، منذ أحداث 28 يناير وحتى اشتباكات شارع محمد محمود اللاحقة، وعنوان الصور الأساسي كان البطولة والشجاعة وتضامن المصريين على مختلف مشاربهم، من الشاب المتديّن، الذي يصلي تحت سيل منهمر من المياه التي تطلقها مدرعات حفظ النظام؛ وحتى الفتاة الشابة غير المحجبة، التي تواجه قوات الأمن مع رفاقها ورفيقاتها كتفا بكتف. هكذا كانت الصور، الواردة من ميدان التحرير خاصة، أشبه بتأسيس لأمة مصرية جديدة.

من جديد اشتعلت حرب الصور، التي تحمل روايات مختلفة للأحداث، وكان من ميادينها الأساسية سياسات توثيق الصحف المصرية المختلفة لتلك الفترة، مثل “الأهرام” المملوكة للدولة، و”الوفد” الحزبية، و”المصري اليوم” المستقلة. لم يكن ذلك مجرّد توثيق، بل خطابا متكاملا.

انحازت “الأهرام” تماما للنظام كما هو متوقّع، وفي اليومين الأولين للثورة قامت بنشر صور لتجمعات شباب في الميادين “يحتفلون بعيد الشرطة”. إلا أنها عادت، يوم السابع والعشرين من كانون الثاني/يناير لتنشر صور “أعمال شغب”، مع الحرص على تصوير السيطرة الأمنية على المدن، ووقائع القبض على المجرمين ومفتعلي أعمال الشغب. واستخدمت آليات معيّنة لتقليل أهمية الحدث، مثل تكرار نشر الصور نفسها للمظاهرات، فيدخل المتابع في دوامة من الاعتياد الناتج عن عدم تطوّر الأحداث. وبالمقابل كانت الجريدة حريصة على تحديث صور المظاهرات المؤيدة للنظام.

فضلا عن هذا توسّعت “الأهرام” في نشر صور القتلى والجرحى من قوات الأمن، واللهيب المتصاعد من عربات قوى الأمن والمنشآت العامة. خطاب الجريدة الحكومية كان ببساطة “مصر بتتحرق”، وهو تحذير لعب دورا شديد الأهمية في الثورة المضادة فيما بعد.

التغطية المصوّرة في جريدة ”الوفد’  كانت مساندة للثورة ومعارضة للحكومة، فنراها  تتجاهل قدر الإمكان عرض صور مظاهرات أنصار النظام، مكتفية بنشر ثلاثة صور منها فقط في مجمل تغطيتها للأحداث كلها. أي أن كل ما يحدث خارج “أمة” الثورة غير موجود بكل بساطة، أو مجرد ظاهرة هامشية لا تستحق النظر.

 أما ”المصرى اليوم” فكانت الأقرب لمزاج معظم المصريين، بالرغم من تقلّبات موقفها تجاه الثورة. في بداية الأحداث انحازت تماما إلى مطالب الثوار، وأرسلت إنذارات للحكومة، عبر مجموعة من الصور الدالة، التي تشير إلى إصرار الشعب على تحقيق ما خرج ليطالب به.

إلا أن مبارك، الذي ظهر، في الأول من شباط/فبراير 2011، بصورة الأب المتعب، الذي تمرّد عليه أبناؤه، أربكت كثيرين، وجعلت “المصري اليوم”، تطالب الثوار بالتراجع، حفاظا على الوطن.

وتر الأبّوة الذي لعب عليه مبارك كان محاولة لترميم كل ما زعزعته الثورة من قيم ومؤسسات، ولرد الاعتبار لكل القيم المحافظة، التي يبدو أن الثوار لم يخلّصوا أنفسهم منها: إذا سقط الأب سيسقط الدين والوطن وشعور الأمان. ربما كان مبارك سينجح في حيلته، ويقنع الثورة بالتراجع، لو لم تكن صورة خالد سعيد ما زالت حاضرة في ذاكرة الناس. هكذا انتصر الابن المقتول في النهاية على الأب القاتل. دون أن يعني هذا أن الثوار تمكّنوا من تطوير خطاب “الابن المقتول” في صورة سعيد، ليصبح خطابا سياسيا متكاملا، وقادرا على مواجهة اجتماعية وثقافية شاملة للقيم التي تحملها صورة “الأب القاتل”.

بروز الفرد والمصوّر

لم يقتصر دور الصورة أثناء الثورة على الحشد الأيديولوجي في مختلف الاتجاهات فحسب، بل ساهمت جماليتها في بناء مفهوم الذات المشاركة في الاحتجاجات.

تبدو صور الثورة أقرب للقالب الروائي، الذي يسرد الأحداث عبر مشاهد، أبطالها الأساسيون أفراد. ورغم كثرة صور الحشود، فإن الفرد كان البطل الأساسي لمعظم صور الثورة، أما الحشد فمجرّد خلفية له، وكأنه موجود فقط لإبراز الفرد وتأكيد خصوصيته وتميّزه.

لا توجد في حقبة يناير صور قادة، فهي “ثورة بلا قائد”، ولكن صور كثيرة لشهداء ومصابين وناشطين، لا يمثّل أي منهم سوى نفسه، ولا تُقاس أهميته بالدور المفصلي الذي يلعبه في تحريك الأحداث مثلا، بل فقط بسماته الشخصية، ودلالته على الفئة التي قامت بالثورة، أي “الشباب”، وهم كلهم يشبهون خالد سعيد، الوسيم المهذّب وليس المدمن طبعا، أو يجب أن يكونوا يشبهونه. وهذا يحمل بالتأكيد أبعادا اجتماعية وطبقية وثقافية واضحة الدلالة والمضمون لكل المصريين. 

ابراز الفرادة لم يقتصر على الصور، بل على منتجيها أيضا، في عام 2019 أطلق المصوّر أحمد هيمن مشروع “موثّقي الثورة”، الذي يظهر المصورين الذين التقطوا الصور الأهم في ثورة يناير.

صورة المصوّر عمرو عبد الله من مشروع “موثّقي الثورة”

ربما كانت غاية هيمن تحية زملائه وتقديرهم، ولكن بالتأكيد فإن دور هؤلاء لم يكن مجرد “توثيق الثورة”، فقد يكونون “مفكري الثورة” الفعليين، الذين تساءل كثيرون عن سبب غيابهم. هم من صاغوا الخطاب والمطالب، بعلاقات الضوء والظل والتركيبات والخطوط فحسب، فكانوا من أهم صانعي الوعي. وربما آن الأوان ليبرزوا بوصفهم “الأفراد” الأكثر أهمية.

ما بعد الربيع: صورة واحدة، ثلاثة أزمنة

يعرّف كارل يونغ، عالم النفس السويسري الشهير، الصورة بوصفها مرادفا للزمن، إذ يصعب الإمساك بها، والعودة إلى لحظة التقاطها، فتصبح الذكرى التي تسجلها عرضة لعدد غير محدود من التأويلات. الزمن لا يوجد خارج التأويل، وكذلك الصورة.  

مرّ الزمن، وأعيد تأويل صور الثورة، لتصبح دلالة على عصر الفوضى واحتراق البلاد. انتصرت رواية “الأهرام” في النهاية، ولا عجب، أليست المؤسسة الإعلامية والثقافية الأعرق في البلاد؟ الأب القاتل توفي، ولكنه ترك وراءه بنى مترسخة، تحلّ محله بشكل طوطمي. 

حرصت المخابرات الحربية المصرية، بعد تنحي مبارك، على التقرّب من النشطاء والشباب، والظهور بهيئة الداعم لهم. في صورة شهيرة من عام 2013 يظهر مدير الجهاز آنذاك اللواء عبد الفتاح السيسي مع اللواء محمود حجازي بهيئة شبابية، إلى جانب نشطاء، من بينهم وائل غنيم وعمرو سلامة وأسماء محفوظ وعبد الرحمن سمير، أمام فندق الماسة. كانت الرسالة الأيديولوجية لذلك واضحة، الدولة و”الشباب” يمكنهم التعاون، على أساس حفظ الوطن وتحقيق المطالب المشروعة. وربما كانت الصورة واحدة من أهم تجليات الميل المحافظ لثائري يناير.

صورة السيسي مع شباب الثورة عام 2013

إلا أن هذا الميل لم يعد له مكان بعد الثلاثين من يونيو. وصل السيسي إلى الحكم، واعتبر الثورة خطأ يجب ألا يتكرر. لذلك أبرز الناشطون الصورة عام 2014، ربما لتذكير الدولة/الأب بوعودها ومسؤولياتها. إلا أن هذا كان بلا فائدة، فلم تترك الصورة القديمة لدى المتمسّكين بها إلا الغضب والإحباط.

عادت الصورة نفسها لتظهر مرة ثالثة عام 2023 على مواقع التواصل الاجتماعي، بعد عشر سنوات من التقاطها تقريبا، لكن هذا المرة للتعبير عن العبث، اللامنطقية، والنقد الساخر، الذي يطبع فترة “ما بعد الربيع العربي”. تُشارك الصورة على مواقع التواصل بدون تعليق، والتفاعل الأساسي معها مئات من وجه “هاها” الساخر.

صورة واحدة بين ثلاثة أزمنة، ولكل زمن خطاب وتطلعات وطريقة في التأويل، هكذا نجحت بالتعبير عن توجهات الثورة ومآلاتها بدون أن تغيّر أيا من عناصرها.

.التلذّذ بالقبح

في عام 2016 بدأ ظهور عدد كبير جدا من التماثيل الجبسية القبيحة في ميادين مصر، نشر الناس صورها على مواقع التواصل الاجتماعي بمزيج من الغضب والسخرية، وأطلقوا عليها أسماء تدلّ على الاحتقار والاشمئزاز، ليس فقط من منتجيها، بل ربما من البلد كله، الذي يسمح بانتصاب هكذا مسوخ في ميادينه: “نفرتيتى جمالات كفتة”، “الدحلاب بجامعة المنصورة”، “العقاد سابقا، التابع حاليا”، “الببرونة فى بورسعيد”، “صافيناز عروس بحر سفاجا”، “قبضة مازنجر بالإسماعيلية”.

تماثيل أقامها متطوعون مؤيدون للحكومة المصرية

ورغم أن الدولة استجابت لموجة الاستنكار، وأمرت بإزالة التماثيل الكريهة، فإن كثيرين اعتبروا الأخيرة أفضل معبّر عن فترة ما بعد الثورة وثقافتها، وقارنوها برسوم الغرافتي الشهيرة في شارع محمد محمود إبان الثورة، التي قامت السلطة بطمسها.

يشترك “الفن الثوري” مع التماثيل القبيحة، التي شيدها أنصار السلطة، بأنه كان تطوعيا، وقد أزالته الدولة أيضا، إلا أن الصور وثّقت الظاهرتين بطريقتها الحسّاسة للأيديولوجيا، أو المنتجة لها، فبينما التُقطت صور غرافيتي محمد محمود بطريقة تحرص على الوضوح ومتابعة أدق التفاصيل والعناية بانتقاء زاوية التصوير، اتسمت صور التماثيل بالعشوائية وعدم البراعة واللا اكتراث، فأضافت قبحا إلى قبحها الأصلي. من جديد نحن أمام صور تظهر العبث واللاجدوى والسخرية المريرة، التي لا تسعى لأي هدف، ربما باستثناء الإعانة على تحمّل كل هذا القبح.

لا تقتصر اللامنطقية والقبح على صور تماثيل نحتها أفراد متطوعون، بل تظهر أيضا في الصور التي تنشرها الدولة لنهضة عمرانية ومدن مستقبلية، تبدو مزيجا من صورة مدينة دبي الإمارتية وصور المدن في الألعاب الإلكترونية. تلك الصور بدورها نالت نصيبا كبيرا من “هاها” الساخرة على مواقع التواصل.

وسط كل هذا اختفى الفرد بشكل شبه كامل من الصور، فيما برزت صورة القائد، وخلفيته ليست حشدا، بل مشاريع مدن وكباري وبنى تحتية. إنه باختصار الخطاب الأيديولوجي للسلطة الحالية، المُنقذة من فوضى الأفراد بلا قائد، التي كادت تحرق مصر.

تشهد فترة “ما بعد الربيع العربي” أيضا بروز عدد كبير من الصور، ملتقطة من أماكن متفرقة من مصر، لا تظهر فيها إلا الرداءة والقبح والعشوائية والاضمحلال، وكأن المصورين يحاولون أن يوصلوا لنا عبثية غير مفهومة، ولا معنى محددا وراءها. وإذا كان لنا أن نلخّص أيديولوجيا المرحلة من خلال صورها فيبدو أننا انتقلنا من تصوّر عن الذات، كان في مركزه شباب وسيمون مهذبون، يحبّون بلدهم ويقاتلون ببطولة لأجله؛ إلى تصوّر في مركزه عبث لا نهاية له، وأشخاص بلا ملامح، يكرهون أرض القبح هذه. هل كان القبح غير موجودا في مصر من قبل؟ لا بالتأكيد، ولكن الذات التي تراقبه وتتعامل معه تغيّرت كثيرا في عصر “ما بعد الربيع”.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.